فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قالوا: أولو العقل والشرف والأسنان.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ووكيع في الغرور، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قال باشرافكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قال: يذهبا بالذي أنتم عليه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وقد أفلح اليوم من استعلى} قال: من غلب.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {تلقف ما صنعوا} قال: ألقاها موسى فتحوّلت حية تأكل حبالهم وما صنعوا.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخذتم الساحر فاقتلوه» ثم قرأ {ولا يفلح الساحر حيث أتى} قال: لا يأمن حيث وجد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)}.
قوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ تقديرُه: اخْتَرْ أحدَ الأمرين، كذا قدَّره الزمخشري قال الشيخ: وهذا تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ، وتفسيرُ الإِعرابِ: إمَّا تختارُ الإِلقاءَ. والثاني: أنَّه مرفوعٌ على خبرِ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: الأمرُ إمَّا إلقاؤُك إو إلقاؤُنا، كذا قدَّره الزمخشريُّ. الثالث: أن يكونَ مبتدًا، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: إلقاؤُك أولٌ. ويَدُلُّ عليه قولُه: وإمَّا أَنْ نكونَ أولَ مَنْ أَلْقى. واختار هذا الشيخُ، وقال: فَتَحْسُنُ المقابلةُ من حيث المعنى، وإنْ لم تَحْصُلْ مقابلةٌ من حيث التركيبُ اللفظيُّ. ثم قال: وفي تقديرِ الزمخشريِّ الأمرُ إلقاؤُك لا مقابلةَ فيه وهذا تَقَدَّم نظيرُه في الأعراف.
{قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)}.
قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ}: هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. وإذا هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ.
قال الزمخشري: والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصبًا لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلًا مخصوصًا، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ}: ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ انتهى.
قال الشيخ: قوله: إنَّها زمانية مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله: الطالبةُ ناصبًا صحيحٌ. وقوله: وجملةٌ تضاف إليها ليس صحيحًا عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبرًا لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله: خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقوله: والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب قد تقع بعدَها نحو: خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ برفعِ زيد ونصبِه على الاشتغال. وقوله: والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل: خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ فالمعنى: أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه انتهى ما رَدَّ به.
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لاسيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنى.
وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه {فَأَلْقَوْا فإذا}، ف إذا في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه أَلْقَوْ. وفي هذا نظر؛ لأنَّ أَلْقَوْا هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جوابًا حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ. وقولُه ظرف مكانٍ، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضًا، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان. وقوله: إن العامل فيها {فأَلْقَوا} لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده: ولأنَّ إذا هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو {حبالُهم وعِصٍيُّهم} إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن يكونَ الخبرُ {يُخَيَّل}، ويجوز أَنْ تكونَ إذا و{يُخَيَّل} في موضعِ الحال.
وهذا نظير: خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضًا فإذا رَفَعْتَ رابضًا كانت إذا معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت إذا خبرًا. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلامًا، نحو: خَرَجْتُ فإذا الأسدُ.
قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} قرأ العامَّة {يُخَيَّل} بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنيًا للمفعول. و{أنَّها تَسْعى} مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ {تُخَيَّل} بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قوله: {أنها تسعى} وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في {يُخَيَّل}. والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضًا. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلى هذا، وأيضًا فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: جاء زيدٌ أَنْ يركضَ تريد ركضًا، بمعنى ذا ركض، لم يَجُزْ.
وقرأ ابن ذكوان {تُخَيَّلُ} بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي: تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ، و{أنَّها تَسْعَى} بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ {أنَّها تَسْعى} حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقوله: {أنَّها تَسْعى} كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله:
شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ

وقوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
وقرأ أبو السَّمَّال {تَخَيَّلُ} بفتح التاءِ والياء مبنيًا للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4]، و{أنَّها تسعى} بدلُ اشتمالٍ أيضًا من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضًا أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال {تُخَيِّل} بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و{أنها تسعى} مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ: {نُخَيِّل} بنونِ العظمة، و{أنها تسعى} مفعولٌ به أيضًا على هذه القراءةِ.
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ {عُصِيُّهم} بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعًا للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعًا للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالًا لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعًا. ونقل صاحبُ اللوامح أنَّ قراءةَ الحسنِ {عُصْيهُم} بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضًا جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
والجملةُ من {يُخَيَّل} يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبرًا ل هي على أن إذا الفجائية فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، على أنَّ إذا الفجائية هي الخبر. والضميرُ في {إليه} الظاهرُ عَوْدُه على موسى. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى}.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا}.
قوله: {تَلْقَفْ}: قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر. وقد تقدم أنَّ حَفْصًا يقرأ: {تَلْقَفْ} بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف. وقرأ ابن ذكوان هنا {تَلْقَفُ} بالرفع: إمَّا على الحالِ، وإمَّا على الاستئناف. وأَنَّثَ الفعلَ في {تَلْقَف} حَمْلًا على معنى {ما} لأنَّ معناها العصا، ولو ذُكِّر ذهابًا إلى لفظِها لجاز، ولم يُقرأ به.
وقال أبو البقاء: يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ {تَلْقَف} ضميرَ موسى فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ {تلقفُ} في قراءة الرفع حالًا من {موسى}. وفيه بُعْدٌ.
قوله: {كَيْدُ سَاحِرٍ} العامَّةُ على رَفْع {كَيْدُ} على أنه خبرُ {إنَّ} و{ما} موصولةٌ. و{صَنَعُوا} صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ، والموصولُ هو الاسمُ، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ. ويجوز أَنْ تكونَ {ما} مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد، والإِعرابُ بحالِه. والتقدير: إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على {كَيْدَ} بالنصب على أنه مفعولٌ به، و{ما} مزيدة مُهَيِّئَةٌ.
وقرأ الأخَوان: {كيدُ سِحْر} على أنَّ المعنى: كيدُ ذوي سِحْرٍ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْرًا وغيرَ سحرٍ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو: مئة درهمٍ، وألف دينار. ومثلُه: علمُ فقه، وعلمُ نحو. وقال أبو البقاء: {كيدُ ساحر} إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و{كيدُ سِحْر} إضافةُ الجنسِ إلى النوع.
والباقون {ساحر}. وأفرد/ ساحرًا، وإنْ كان المرادُ به جماعةً. قال الزمخشري: لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العددِ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}.
أظهروا من أنفسهم التجلَّدَ ظنَّا بأَنَّ النصرةَ لهم، وإخلادًا إلى ما كان السَّحَرَةُ يُسوِّلون لهم، فَخَيَّروا موسى في الابتداء بناءً على ما توهموا من الإلقاء، فقال لهم موسى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهْم أَنَّهَا تَسْعَى}.
قال لهم موسى بل ألقوا أنتم، وليس ذلك إذْنًا لهم في السحر، ولكن أراد الحقُّ إظهارَ تمويههم، فلمَّا خَيَّلوا للناس بإلقاءِ الحِبال أنها حياتٌ ابتَلَعَتْ عصا موسى جُمْلَةَ أوقار الحِبَال، وصار الثعبانُ عَصًَا كما كان، فسجدوا لله مؤمنين، وانقلب فرعونُ وقومُه خائِبين، وتَوَعَّدَهم بالقتل والصَّلْب، وفنونٍ من العذابِ الصعب، وبعدما كانوا يقْسِمُون بِعِزَّةِ فرعونَ صاروا يَحْلِفُونَ بالله. اهـ.

.تفسير الآيات (70- 71):

قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فعلم كل من رأى ذلك حقيته وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام وحذف ذكر الإلقاء وما سببه من التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية: {فألقي السحرة} أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر {سجدًا} على وجوههم؛ قال الأصبهاني: سبحان الله! ما أعظم شأنهم! ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة الشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين.
فكأن قائلًا قال: هذا فعلهم فما قالوا؟ فقيل: {قالوا آمنا} أي صدقنا.
ولما كان سياق هذه السورة مقتضيًا لتقديم هارون عليه السلام قال: {برب هارون وموسى} بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له، فيجعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس، وقبائلهم أقل القبائل، مع ما في ذلك من الدليل على صدق إيمانهم وخلوص ادعائهم بتقديم الوزير المترجم ترقيًا في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكرًا للمنعمين بالتدريج «لا يشكر الله من لم يشكر الناس» وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئًا، فكانوا أول النهار سحرة، وآخر شهداء بررة، وهذه الآية في أمثالها من أي هذه السور وغيرها مما قدم فيه ما يتبادر أن حقه التأخير وبالعكس لأنحاء من المعاني دقيقة، هي التي حملت بعض من لم يرسخ إلى أن يقول: إن القرآن يراعي الفواصل كما يتكلف بلغاء العرب السجع، وتبعه جمع من المتأخرين تقليدًا، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال: «سجع كسجع الجاهلية» أو قال: «الكهان» وقد علم مما ذكرته أن المعنى الذي بنيت عليه السورة ما كان ينتظم إلا بتقديم هارون، ويؤيد ذلك أنه قال هنا {إنا رسولا} وفي الشعراء {رسول}، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي كما حكاه عنه الشيخ أبو حيان في سورة فاطر من النهر: لا يقال في شيء من القرآن: أنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن: ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه، ثم رد على المخالف بأن قال: والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعًا لأن السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع.
وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعًا للمعنى، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظمًا دون اللفظ.
ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره.
ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبًا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى، ثم استدل على ذلك بأشياء نفيسة أطال فيها وأجاد- رحمه الله، وقد تقدم في آخر سورة التوبة ما ينفع جدًا في هذا المرام.
ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجئه ذلك فقال: {قال} أي فرعون للسحرة منكرًا عليهم، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة الرفق بالمدعوين والحلم عنهم، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام: {آمنتم} أي بالله {له} أي مصدقين أو متبعين لموسى {قبل أن ءاذن لكم} في ذلك، إبهامًا بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن؛ ثم استأنف قوله معللًا مخيلًا لأتباعه صدًا لهم عن الاقتداء بهم: {إنه لكبيركم} أي في العلم {الذي علمكم السحر} فلم تتبعوه لظهور الحق، بل لإرادتكم شيئًا من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق.
ولما خيلهم، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال: {فلأقطعن} أي سبب ما فعلتم {أيديكم} على سبيل التوزيع {وأرجلكم} أي من كلٍّ يدًا ورجلًا {من خلاف} فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى {ولأصلبنكم} وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال: {في جذوع النخل} تبشيعًا لقتلكم ردعًا لأمثالكم {ولتعلمن أينا} أنا أورب موسى الذي قال: إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى {أشد عذابًا وأبقى} أي من جهة العذاب، أي أينا عذابه أشد وأطول زمانًا. اهـ.