فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجدًا لله تعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى. فهداهم ألله بذلك البرهان الإلهي، هذه الهداية العظيمة. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الأعراف: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117-117] {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الأعراف: 120-122]، وقوله في الشعراء: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 45-48]، وقوله: {فَأُلْقِيَ} يدل على قوة البرهان الذي عاينوه. كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها. وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم. والظاهر أ، ذلك من نوع الإسرائيليات، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظرًا إلى حالهم الماضية. كقوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظرًا إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله.
والظاهر أن تقديم هارون على موسى في هذه الآية لمراعاة فواصل الآيات.
واعلم أن علم السحر مع خسته، وأن الله صرح بأنه يضر ولا ينفع، قد كان سببًا لإيمان سحرة فرعون. لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا خارجة عن طور السحر، وأنها أمر إلهي فلم يداخلهم شك في ذلك. فكان ذلك سببًا لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد والتهديد. ولو كانوا غير عالمين بالسحر جدًا، لأمكن أن يظنوا أن مسألة العصا من جنس الشعوذة. والعلم عند الله تعالى.
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكرًا عليهم: {آمَنتُمْ لَهُ} أي صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم. يعني أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم، لأنه يزعم أنهم لا يحق لهم أن يفعلوا شيئًا إلا بعد إذنه هو لهم. وقال لهم أيضًا: إن موسى هو كبيرهم. أي كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر. ثم هددهم مقسمًا على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلًا. لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة. لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح، بخلاف قطعهما من خلاف. فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم. وأنه يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع كما هو معروف.
وما ذكره جل وعلا عنه هنا أوضحه في غير هذا الموضع أيضًا. كقوله في سورة الشعراء: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49]. وذكر هذا أيضًا في سورة الأعراف وزاد فيها التصريح بفاعل قال: وادعاء فرعون أن موسى والسحرة تمالؤوا على أن يظهروا أنه غلبهم مكرًا ليتعاونوا على إخراج فرعون وقومه من مصر. وذلك في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 123_124] وقوله في طه: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} يبين أن التصليب في جذوع النخل هو مراده بقوله في الأعراف، والشعراء: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. أي في جذوع النخل وتعدية التصليب ب {في} أسلوب عربي معروف، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ** فلا عطصت شيبان إلا بأجدعا

ومعلوم عند علماء البلاغة: أن في مثل هذه الآية استعارة تبعية في معنى الحرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح كلامهم في ذلك ونحوه في سورة القصص. وقد أوضحنا في كتابنا المسمى منع جواز المجاز في المنزل التعبد والإعجاز. أن ما يسميه البلاغيون من أنواع المجاز مجازًا كلها أساليب عربية نطقت بها العرب في لغتها. وقد بينا وجه عدم جواز المجاز في القرآن وما يترتب على ذلك من المحذور.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} قال بعض أهل العلم: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ}: يعني أنا، أم رب موسى أشد عذابًا وأبقى.
واقتصر على هذا القرطبي. وعليه ففرعون يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله. وهذا كقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]، وقوله: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29]. وقال بعضهم: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ} أنا، أم موسى أشد عذابًا وأبقى. وعلى هذا فهو كالتهكم بموسى لاستضعافه له، وأنه لا يقدر على أن يعذب من لم يطعمه. كقوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] الآية. والله جل وعلا أعلم.
واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به، أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم. وقوم أنكروا ذلك، وأظهروهما عندي: أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى. لأن اله يقول لموسى وهارون {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} [القصص: 35] والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}.
الفاء عاطفة على محذوف يدلّ عليه قوله: {وألق ما في يمينك} [طه: 69].
والتقدير: فألقى فتلقفت ما صنعوا، كقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63].
والإلقاء: الطرح على الأرض.
وأسند الفعل إلى المجهول لأنّهم لا ملقي لهم إلاّ أنفسهم، فكأنّه قيل: فألقوا أنفسهم سُجّدًا، فإنّ سجودهم كان إعلانًا باعترافهم أنّ موسى مرسل من الله.
ويجوز أن يكون سجودهم تعظيمًا لله تعالى.
ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيمًا له.
ويجوز أن يريدوا به تعظيم فرعون، جعلوه مقدمة لقولهم {ءَامَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} حذرًا من بطشه.
وسُجّد: جمع ساجد.
وجملة {قَالُوا} يصح أن تَكون في موضع الحال، أي ألقَوْا قائلين.
ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة {فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون.
وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنّهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنّهم أئمّة السحر فعلموا أنّه آية من عند الله.
وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أربابًا يعبدونها ويعبدها فرعون.
وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف (121، 122): {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره، لأنّ الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه، فهم عرفوا الله بأنه ربّ هذين الرجلين؛ فحكي كلامهم بما يدلّ على ذلك؛ ألا ترى أنه حكي في سورة الأعراف (121) قول السحرة {قالوا آمنا برب العالمين}، ولم يحك ذلك هنا، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة.
ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي، إذ وقع في الآية الأخرى {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} [الشعراء: 47، 48].
ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة، فيكون صدر منهم قولان، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتبارًا بكبر سنّه، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتبارًا بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين.
ويقال: آمن له، أي حصل عنده الإيمانُ لأجله.
كما يقال: آمن به، أي حصل الإيمان عنده بسببه.
وأصل الفعل أن يتعدى بنفسه لأنّ آمنه بمعنى صَدقه، ولكنه كاد أن لا يستعمل في معنى التصديق إلاّ بأحد هذين الحرفين.
وقرأ قالون وورش من طريق الأزرق، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وروحٌ عن يعقوب {ءامنتم} بهمزة واحدة بعدها مَدّة وهي المدّة الناشئة عن تسهيل الهمزة الأصلية في فعل آمن، على أنّ الكلام استفهام.
وقرأه ورش من طريق الأصفهاني، وابنُ كثير، وحفص عن عاصم، ورويسٌ عن يعقوب بهمزة واحدة على أنّ الكلام خبر، فهو خبر مستعمل في التوبيخ.
وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بهمزتين على الاستفهام أيضًا.
ولما رأى فرعون إيمان السحرة تغيّظ ورام عقابهم ولكنه علم أنّ العقاب على الإيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفّي من الذين آمنوا علّة إعلانهم الإيمان قبل استئذانِ فرعون، فعدّ ذلك جرأة عليه، وأوهم أنّهم لو استأذنوه لأذن لهم، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطؤوا مع موسى من قبلُ فأظهروا العجز عند مناظرته.
ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأنّ موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالًا للشكّ على نفوس الذين شاهدوا الآيات.
وهذه شِنْشِنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر.
ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.
وضمير {لَهُ} عائد إلى موسى مثل ضمير {إنه لكبيركُم} ومعنى {قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُم} قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به.
يقال: أذِن له، إذ أباح له شيئًا.
والتقطيع: شدّة القطع.
ومرجع المبالغة إلى الكيفية، وهي ما وصفه بقوله: {مِن خِلاف} أي مختلفة؛ بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين، أي تقطع اليد ثمّ الرجلُ من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى.
والظاهر: أنّ القطع على هذه الكيفية كان شعارًا لقطع المجرمين، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدّة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعًا.
وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطّل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جرّاء قطع يَد ثمّ رجل من جهة واحدة، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين.
و{من} في قوله: {مِنْ خلاف} للابتداء، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع.
والمجرور في موضع الحال، وقد تقدّم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة.
والتصليب: مبالغة في الصلب.
والصلب: ربط الجسم على عود مُنتصب أو دَقُّهُ عليه بمسامير، وتقدم عند قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه} في سورة النساء (157).
والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضًا بشدّة الدقّ على الأعواد.
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيهًا لشدّة تمكّن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه.
والجذوع: جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} [مريم: 25].
وتعدية فعل {ولأُصلّبَنَّكُم} بحرف {في} مع أنّ الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يُشبه حصول المظروف في الظرف، فحرف {في} استعارة تبعيّة تابعة لاستعارة متعلَّق معنى {في} لمتعلَّق معنى على.
وأيّنا: استفهام عن مشتركيْن في شدّة التعذيب.
وفعل {لتعلمُن} معلق عن العمل لوقوع الاستفهام في آخره.
وأراد بالمشتركين نفسَه وربّ موسى سبحانه لأنه علم من قولهم {آمنا برب هارون وموسى} [الشعراء: 47] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون {ويلكم لا تفتروا على الله كذبًا فيسحتكم بعذاب} [طه: 61]، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حُذرتموه.
وهذا من غروره.
ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله: {أينا أشدّ عذابًا وأبقى بقولهم والله خير وأبقى} [طه: 73]، أي خير منك وأبقى عملًا من عملك، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}.
قال الزجاج في هذا الموقف: عجيب أمر هؤلاء، فقد ألقوا حبالهم وعِصيّهم للكفر والجحود، فإذا بهم يُلْقُون أنفسهم للشكر والسجود.
نعم، لقد دخلوا كافرين فجرة فخرجوا مؤمنين بررة، لأنهم جاءوا بكل ما لديهم من الكَيْد، وجمعوا صَفْوة السحر وأساتذته ممنْ يَعْلمون السحر جيدًا، ولا تنطلي عليهم حركات السحرة وألاعيبهم، فلما رَأوا العصا وما فعلتْ بسحرهم لم يخالطهم شكٌّ في أنها معجزة بعيدة عَمّا يصنعونه من السحر؛ لذلك سارعوا ولم يترددوا في إعلان إيمانهم بموسى وهارون.
وهذا يدلُّنا على أن الفطرة الإيمانية في النفس قد تطمسها الأهواء، فإذا ما تيقظتْ الفطرة الإيمانية وأُزيلَتْ عنها الغشاوة سارعتْ إلى الإيمان وتأثرتْ به.
لقد سارع السحرة إلى الإيمان، وكان له هَوىً في نفوسهم، بدليل أنهم سيقولون فيما بعد: {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [السحر: 73] فكانوا مكرهين، كانوا أيضًا مُسخَّرين، بدليل قولهم: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113].
كأنهم كانوا لا يأخذون على السحر أجرًا، فلما كانت هذه المهمة صعبة طلبوا عليها أجرًا، فهي معركة تتوقف عليها مكانته بين قومه، أما ممارستهم للسحر إرهابًا للناس وتخويفًا لمن تُسوِّل له نفسه الخروج والتمرد على فرعون، فكان سُخْرة، لا يتقاضَوْن عليه أجرًا.
لذلك لم يعارض فرعون سحرته في طلبهم، بل زادهم منحة أخرى {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 114] فسوف تكونون سدنة الفرعونية، يريد أنْ يشحن هِمَمهم، ويشحذَ عزائمهم، حتى لا يدخروا وُسْعًا في فَنِّ السحر في هذه المعركة.
إذن: فطباعهم وفطرتهم تأبى هذا الفعل، وتعلم أنه كذب وتلفيق، لكن مذا يفعلون وكبيرهم يأمرهم به، بل ويُكرههم عليه، ويلزمهم أنْ يُعلِّموا غيرهم، لماذا؟ لأن السحر والشعوذة والتلفيق هي رأس ماله وبضاعته التي يسعى إلى ترويجها، فعليها يقوم مُلْكه وتُبْنى ألوهيته.
وقوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّدًا} [طه: 70] فَرْق بين {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44] وهذا منهم عمل اختياري، وبين {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّدًا} [طه: 70]: يعني على غير اختيارهم وعلى غير إرادتهم، كأن صَوْلة الحق فاجأتْ صحوة الفطرة، فلم يملكوا إلا أنْ خرُّوا لله ساجدين، فالإلقاء هنا عمل تلقائي دون تفكير منهم ودون شعور، فقد فاجأهم الحق الواضح والمعجزة الباهرة في عصا موسى، لأنها ليستْ سِحْرًا فهم أعلم الناس بالسحر.
ونلحظ في هذه الآية أنها جاءت بصيغة الجمع؛ أُلقى السحرةُ، قالوا، آمنا. لتدل على أنهم كانوا يَدًا واحدة لم يشذْ منهم واحد، مما يدل على أنهم كانوا مكرهين مُسخَّرين.