فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}.
{قَالُواْ} غير مكترثين بوعيده {لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك بالإيمان والانقياد {على مَا جَاءنَا} من الله تعالى على يد موسى عليه السلام {مِنَ البينات} من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليها العصا.
وإنما جعلوا المجىء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد.
وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء.
وقيل العائد محذوف وضمير {جَاءنَا} لموسى عليه السلام أي على الذي جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد.
وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلامًا.
{والذى فَطَرَنَا} أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات.
وهو عطف على {مَا جَاءنَا} وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة.
وإبراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم.
وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عز وجل.
وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية.
وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك إلخ.
ولا مساغ لكون المذكور جوابًا عند من يجوز تقديم الجواب أيضًا لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان: بلن إلا في شاذ من الشعر.
وقولهم: هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله: {آمنتم} [طه: 71] إلخ.
وقوله تعالى: {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} جواب عن تهديده بقوله: {لأقطعن} [طه: 71].. إلخ. أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء إما بمعنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12] وأما بمعناه المعروف.
وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته، وما موصولة والعائد محذوف.
وجوز أبو البقاء كونها مصدري وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيا} مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء، وما كافة و{هذه الحياة} منصوب محلًا على الظرفية لتقضي والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مدر اسم أن وخبرها {هذه الحياة} أي أن قضاءك كائن في هذه الحياة، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف.
وقرأ ابن حيوة وابن أبي عبلة {إِنَّمَا تَقْضِى} بالبناء للمفعول {هذه الحياة} بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولًا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا}.
التي اقترفناه من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بهذا في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به.
وقوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} عطف على {خطايانا} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارًا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستفغار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يتعلمو السحر وقال: علموهم تعليمًا لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا بموسى عليه السلام وهو الذين قالوا: {إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [طه: 37]، وقال الحسن: كان يأخذ ولدار الناس ويجبرهم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المهعارضة حيث روى أنهم قالوا له: أرنا موسى نائم ففعل بوجوده تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضو ولا ينافي ذلك قولهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] لًاكما أن قولهم: {إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113] قبله كما قيل: وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصًا إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لاسيما إذا كان السلطان جبارًا طاغيًا {والله خَيْرُ} في حَد ذاته تعالى {وأبقى} أي وأدوم جزاء ثوابًا كان أو عقابًا أو خير ثوابًا وأبقى عذابًا، وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا}.
{إِنَّهُ} إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشيطان الخطير هذا أي قوله تعالى: {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} بأن مات على الكفر والمعاصي.
{فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى {وَلاَ يحيى} حياة ينفتع بها.
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} به عز وجل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدنا {قَدْ عَمِلَ الصالحات} من الأعمال {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى {مِنْ} والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيها من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات {لَهُمْ} بسبب إيمانهم وعملهم ذلك. أي المنازل الرفيعة.
{جنات عَدْنٍ} بدل من. [طه: 75] أو بيان وقد تقدم في عدن {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات، وقوله تعالى: {خالدين فِيهَا} تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في {لهم} [طه: 75]، والعالم فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في {أولئك} [طه: 75] من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون {جنات} خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال ما ذكره أبو البقاء {وَذَلِكَ} إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد لما أشير إليه من قرب من التفخيم {جَزَاء مَن تزكى} أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر فيمن الإيمان والأعمال الصالحة.
وهذا تصريح بما أفادته الشرطية، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} [طه: 71]، وقال بعضهم: إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيهًا على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافًا لما حسبه النيسابوري.
هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا: مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة إن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد.
وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرًا ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى: {يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} إلى قوله سبحانه: {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين} [المدثر: 40- 46] وقوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى آخر السورة، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقًا، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنًا.. إلخ. ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم {مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات} [طه: 75] ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضًا إذ لا قائل بالفرق، فإذا قالوا: مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفى المنزلة بين الإيمان والكفر بما هو مذكور في محله.
وعلى تقدير تسليم أن {مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} [طه: 75].. إلخ. لا يعم مرتكب الكبيرة يقال: إن قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ لهم الدرجات العلى} [طه: 75] يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لابد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان.
ولقد أخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» واستدل على شمول {مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} [طه: 75] صاحب الكبيرة بقوله تعالى: {وذلك جَزَاء مَن تزكى} بناء على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم.
ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل: إنه يموت احتجاجًا بما أخرج مسلم وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية أنه {مَن يَأْتِ}.. إلخ. فقال عليه الصلاة والسلام: «أما أهلها يعني جهنم الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل» وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيدًا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم.
وقال بعضهم: إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام بالعذاب، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي في التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدًا بالعصا قتلًا والمراد ضربته ضربًا شديدًا ولا يصح أن يقال: المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعًا من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قيل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ** تعددت الأسباب والموت واحد

واستدل المجسمة بقوله سبحانه {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ على} [طه: 74]، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك. اهـ.

.قال الشوكاني:

{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}.
قوله: {قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ} يقال: آمن له وآمن به، فمن الأوّل: قوله: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، ومن الثاني: قوله في الأعراف: {ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذن لكم} [الأعراف: 123].
وقيل: إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع.
وقرئ على الاستفهام التوبيخي، أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} أي إن موسى لكبيركم، أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، أو معلمكم وأستاذكم كما يدلّ عليه قوله: {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري.
وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر.
قال الواحدي: والكبير في اللغة: الرئيس، ولهذا يقال للمعلم: الكبير.
أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسًا لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة {فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي: والله لأفعلنّ بكم ذلك.
والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، و{من} للابتداء {وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أي على جذوعها كقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أي عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة ** فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

وإنما آثر كلمة فِي للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} أراد: لتعلمنّ هل أنا أشدّ عذابًا لكم أم موسى؟ ومعنى {أبقى}: أدوم، وهو يريد بكلامه هذا: الاستهزاء بموسى، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد: العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا.
وقيل: أراد بموسى ربّ موسى على حذف المضاف.
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات} أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا.
وقيل: إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدّة لهم في الجنة {والذي فَطَرَنَا} معطوف على {ما جاءنا} أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات وعلى الذي فطرنا، أي خلقنا.
وقيل هو قسم، أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك، أو لا نؤثرك، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم: {لأقطعنّ}.. إلخ، والمعنى: فاصنع ما أنت صانع، واحكم ما أنت حاكم، والتقدير: ما أنت صانعه {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية وما كافة، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي، أي أن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} التي سلفت منا من الكفر وغيره {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} معطوف على {خطايانا} أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل: هي نافية، قال النحاس: والأوّل أولى.
قيل: ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدّر، أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا {والله خَيْرٌ وأبقى} أي خير منك ثوابًا وأبقى منك عقابًا، وهذا جواب قوله: {ولتعلمنّ أينا أشدّ عذابًا وأبقى}.
{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي، ومعنى {لا يموت فيها ولا يحيى}: أنه لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه.
قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حال الموت في المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حيّ ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي ** شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة.
وقيل: هو ابتداء كلام.
والضمير في: {إنه} على هذا الوجه للشأن {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات} أي ومن يأت ربه مصدّقًا به قد عمل الصالحات، أي الطاعات، والموصوف محذوف، والتقدير: الأعمال الصالحات، وجملة: {قد عمل} في محل نصب على الحال وهكذا {مؤمنًا} منتصب على الحال، والإشارة ب {أولئك} إلى من باعتبار معناه {لَهُمُ الدرجات العلى} أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات {جنات عَدْنٍ} بيان للدرجات أو بدل منها، والعدن: الإقامة، وقد تقدّم بيانه، وجملة {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات؛ لأنها مضافة إلى عدن، وعدن علم للإقامة كما سبق.
وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال من ضمير الجماعة في لهم، أي ماكثين دائمين، والإشارة {ذلك} إلى ما تقدّم لهم من الأجر، وهو مبتدأ، و{جَزَاء مَن تزكى} خبره، أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} قال: أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَما، قال: علموهم تعليمًا لا يغلبهم أحد في الأرض.
قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم الذين قالوا: {آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {والله خَيْرٌ وأبقى} قال: خير منك إن أطيع، وأبقى منك عذابًا إن عصى.
وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له: الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل» وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» وفي الصحيحين بلفظ: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء». اهـ.