فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)}.
فكأنهم كانوا يشيرون بقولهم: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] إلى فرعون، والآن يشيرون إلى أنفسهم، وما سلكوه من طريق الإيمان {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات} [طه: 75].
فجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان هو الينبوع الوجداني الذي تصدر عنه الحركات النزوعية على وَفْق المنهج الذي آمنت به، وإلا فما فائدة أنْ تؤمنَ بشيء، ولا تعمل له، وكثيرًا ما جمع القرآن بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله: {فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} [طه: 75] الدرجات أي: درجات الجنة، فالجنة درجات، بعضها فوق بعض، أما النار فدركات، بعضها تحت بعض.
وقد جعل الحق تبارك وتعالى الجنة درجات؛ لأن أهلها متفاوتون في الأعمال، كما أنهم متفاوتون حتى في العمل الواحد؛ لأن مناط الإخلاص في العمل متفاوت.
لذلك جاء في الأثر: الناس على خطر إلا العالمون، والعالمون على خطر إلا العاملون، والعاملون على خطر إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.
والعُلاَ: جمع عُليا. فما الدرجات العُلاَ؟
{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
عدن: أي إقامة. مِنْ عَدَنَ في المكان: أقام فيه، فالمراد جنات أعِدَّتْ لإقامتك، وفرْق بين أنْ تُعِد المكان للإقامة وأنْ تُعِدَّ مكانًا لعابر، كما أن المكان يختلف إعداده وترفه حَسْب المُعِدْ وإمكاناته، فالإنسان العادي يُعِد مكانًا غير الذي يعده عظيم من العظماء، فما بالك إذنْ بمكان أعدّه لك ربك عز وجل بقدراته وإمكاناته؟
وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} [طه: 76].
نعلم أن الماء من أهم مقومات الحياة الدنيا، فبه تنبت الأرض النبات، وفيه تذوب العناصر الغذائية، وبدونه لا تقوم لنا حياة على وجه الأرض. والحق سبحانه وتعالى ساعةَ يُنزِل مطرًا من السماء قد لا ينتفع بالمطر مَنْ نزل عليه المطر، فربما نزل على جبل مثلًا، فالنيل الذي نحيا على مائه يأتي من أين؟ من الحبشة وغيرها.
لذلك جعل الخالق عز وجل كلمة {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [طه: 76] رمزًا للخضرة وللنضارة وللنماء وللحياة السعيدة الهانئة، حتى الإنسان وإنْ لم يكُنْ محتاجًا للطعام بأنْ كان شبعان مثلًا، يجد لذة في النظر إلى الطبيعة الخضراء، وما فيها من زرع وورود وزهور، فليس الزرع للأكل فقط، بل للنظر أيضًا، وإنْ كنتَ تأكل في اليوم ثلاث مرات، والأكل غذاء للجسم، فأنت تتمتع بالمنظر الجميل وتُسَرُّ به كلما نظرتَ إليه، والنظر متعة للروح، وسرور للنفس.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا: لا تقصروا انتفاعكم بنعم الله على ما تملكون، فتقول مثلًا: لا آكل هذه الفاكهة لأنها ليست مِلْكي، لأن هناك متعةً أخرى: {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] فقبل أن تأكل انظر، فالنظر متعة، وغذاء مستمر.
فقوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [طه: 76] لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخُضْرة والخِصْب والإيناع، و{مِن تَحْتِهَا} [طه: 76] أي: أن الماء ذاتيّ فيها، ونابع منها، ليس جاريًا إليك من مكان آخر، ربما يُمنَع عنك أن تُحرم منه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} [التوبة: 100] فتحتها أنهار جارية، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر.
ونسب الجريان إلى النهر، لا إلى الماء للمبالغة. فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء.
ثم يقول تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [طه: 76] وهذا هو التأمين الحقّ للنعيم؛ لأن آفة النعم أنْ تزولَ، إمّا بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي، أما نعيم الجنة فقد سَلَّمه الله تعالى من هذه الآفة، فهو خالد بَاقٍ، لا يزول ولا يُزال عنه.
{وذلك جَزَاءُ مَن تزكى} [طه: 76] الزكاة: تُطلَق على الطهارة وعلى النماء، فالطهارة: أن يكون الشيء في ذاته طاهرًا، والنماء: أنْ توجَد فيه خصوصية نمو فيزيد عَمَّا تراه أنت عليه.
كما ترى مثلًا الورد الصناعي والورد الطبيعي في البستان، وفيه المائية والنضارة والرائحة الطيبة والألوان المختلفة والنمو، وكلها صفات ذاتية في الوردة، على خلاف الورد الصناعي فهو جامد على حالة واحدة.
وهذا هو الفرق بين صَنْعة البشر وصَنْعة الخالق للبشر؛ لذلك كانت صنعة الله أخلد وأبقى، وصدق الله العظيم حين قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
وتلحظ أنه لم يَضِنّ عليك بصفة الخَلْق؛ لأنك استعملتَ الأسباب وأَعلمتَ الفكر، فكان لك شيء من الخلق، لكن ربَّك أحسنُ الخالقين؛ لأنك خلقتَ من باطن خِلْقته، خلقتَ من موجود، وهو سبحانه يخلق من عدم، خلقتَ شيئًا جامدًا لا حياة فيه، وخلق سبحانه شيئًا ناميًا، يتكاثر بذاته.
ومن هنا سُمِّي المال الذي تُخرجه للفقراء زكاةً؛ لأنه يُطهِّر الباقي ويُنمِّيه. ومن العجائب أن الله تعالى سَمّى ما يخرج من المال زكاة ونماءً، وسَمَّى زيادة الربا مَحْقًا.
فمعنى: {وذلك جَزَاءُ مَن تزكى} [طه: 76] أي: تطهَّر من المعاصي، ثم نَمَّى نفسه، ومعنى التنمية هنا ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق، فهو مؤمن بداية، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقي يومًا بعد يوم، وكلما ازداد إيمانه ازداد قُرْبه من ربه، وازدادت فيوضات الله عليه. والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
إذن: زكَّى نفسه: طهَّرها أولًا، ثم يُنمِّيها ثانيًا، كمَنْ يريد التجارة، فعليه أولًا أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم يُنمِّيه، لكن لا تأتي برأس المال مُدنّسًا ثم تُنمِّيه بما فيه من دَنَسٍ.
وكلما نَمَّى الإنسانُ إيمانَهُ ارتقى في درجاته، فكانت له الدرجات العُلاَ في الآخرة. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)}.
التفسير:
منّ عليه منًا أنعم، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى: إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال، أو كنت ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك ردًا بعد القبول وحرمانًا بعد الأحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي. قالوا: المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى. فقوله: {ولقد مننا عليك} يكون من المن لا من المنة، قلت: يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبهًا علىلنعم وإيقاظًا من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة. وإنما قال: {مرة أخرى} لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على منن كثيرة، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلًا، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله: {وإذ قالت الملائكة يا مريم} [آل عمران: 42] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها، أو ألهمها بذلك، أو لعل الأنياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها. ومعنى {ما يوحى} ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي. وأن هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في البقرة في قصة طالوت. قال جار الله: الضميران الباقيان في قوله: {فاقذفيه في اليم فليلقه} عائدان إلى موسى أيضًا لئلا يؤدي إلى تنافر النظم، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضًا مقذوفًا وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله: {عدوّ له} لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة.
وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضًا له، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة إلى العدول اعتمادًا على القرينة. واليم هو البحر، والمراد هاهنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر. وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد: هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول. قال أهل الإشارة: من خصوصة انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته. يروى أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع اسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجهًا فأحبه عدوّ الله حبًا شديدًا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة. أما كون فرعون عدوًا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر، وأما كونه عدوًّا لموسى وهو صغير فباعتباره المآل، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه. قالوا: كان بحضرة فرعون حينئذٍ أربعمائة غلام وجارية، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعًا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل. والنكتة فيه أن عدوّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وإن وقع لبعضهم تقصير في العمل. قوله: {مني} إما أن يتعلق ب {ألقيت} أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبرعنه من رآه. قال القاضي. هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب. ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله: {ولتصنع على عيني} أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه، ولما كان العالم بالشيء حارسًا له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه.
وأيضًا العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب، ويقال: عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضميرالمبني للمفعول في {لتصنع} وجوز في الكشاف أن يكون {إذ تمشي} ظرفًا {لتصنع} وليس بذلك وإنما هو ظرف ب {ألقيت} أو بدل من {إذ أوحينا} على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل: لقيت فلانًا سنة كذا، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها.
يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذو غلامًا في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه {وحرمنا عليه المراضع} [القصص: 12] جاءت أخت موسى عليه السلام واسمها مريم متنكرة فقالت {هل أدلكم على من يكفله} فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله: {فرجعناك إلى أمك} وقال في القصص {فرددناه إلى أمه} [القصص: 13] تصديقًا لقوله: {إنا رادوه إليك} [القصص: 7] {كي تقر عينها} بلقائك {ولا تحزن} بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك {وقتلت} وأنت ابن اثنتي عشرة سنة {نفسًا} هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص {فنجيناك من الغم} وهو اقتصاص فرعون منك. وقيل: الغم هو القتل بلغة قريش، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله: {فاغفر لي فغفر له} [القصص: 16] {وفتناك فتونًا} مصدر على فعول في المتعدي كالشكور والكفور، أو جمع فتن كالظنون للظن، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة، وحجوز في حجزة، والقتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] وفيها معنى التخليص من قولهم فتنت الذهب إذا أردت تخليصه. عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال: أي خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطيًا، وأجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير. قال العلماء: لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء {وفتناك} لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز. قوله: {على قدر} أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره. والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفًا قبيحًا أي فعل، والاصطناع افتعال منه واستعماله في الخير أكثر، واصطنع فلان فلانًا إذا اتخذه صنيعة، واصطنعت فلانًا لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ.
وقوله: {لنفسي} أي لأصرفن جوامع همتك في أوامري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة. وقال جار الله: مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلًا للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه. وقال غيره من المعتزلة: إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم، ومن حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعًا، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه.
ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمرًا ونهيًا. أما الأمر فقوله: {اذهب أنت وأخوك} وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة. {بآياتي} أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد. وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين، أو لأن كلًا منهما مشتملة على آيات أخر، أو لأنه يستدل بكل منهما على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيوانًا والمظلم مستنيرًا ومثله قوله: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} [آل عمران: 97] وقيل: هما مع حل العقدة. وقيل: أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها. وأما النهي فقوله: {ولا تنيا} بكسر النون مثل تعدا وقرئ {تنيا} بكسر حرف المضارعة أيضًا للإتباع. والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمرًا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره. وأن يستحقر في نظره ما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه. وقيل: أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلًا عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة. وقيل اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب. ما الفائدة في تكرير قوله: {اذهبا إلى فرعون}؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معًا لا أن ينفرد به موسى، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي. ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل، أو هو كقوله: {وإذ قتلتم نفسًا} [البقرة: 72] والقاتل واحد منهم.
ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ فقد روى أن الله عز وجلّ أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى.
وقيل: ألهم بذلك. وقيل: سمع بخبره فتلقاه.
سؤال: لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتوًا وعلوًا. وقيل: لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة. وكيف ذلك القول اللين؟ الأصح أنه نحو قوله تعالى: {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات: 18، 19] لأن ظاهره الاستفهام والمشورة وعرض ما فيه صلاح الدارين. وقيل: أراد عداه شبابًا لا يهرم بعده، وملكًا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. حكى عمرو بن دينار قال: بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعًا وستين سنة. فقال له موسى: إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة. وقيل: أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة. بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارًا فعالج حدته باللين ليكون حليمًا في أداء الرسالة. ومعني الترجي في {لعله} يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعًا كليًا إذا تأمل فأنصف {أو يخشى} فيقل: إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة: جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة: العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان. قالوا: إنه كمن يدفع سكينًا إلى من علم قطعًا أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة {فقولا له قولًا لينًا} وسأقسي قلبه فلا يؤمن {قالا ربنا} فيه دليل على أن هارون أيضًا كان حاضرًا وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا {إننا نخاف} فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت: لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله: {أن يفرط علينا} أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة {وأن يطغى} أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضًا الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقانًا وطمأنينة ولهذا {قال لا تخافا إنني معكما} أي بالنصرة والتأييد {أسمع وأرى} ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما.