فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعدما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض.
وقيل: إنشاء خطاب اللذين كانوا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على معنى أنه تعالى قدمن عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعًا، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ} [طه: 83].. إلخ. ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفًا على {أَوْحَيْنَا} [طه: 77] أي وقلنا يا بني إسرائيل {قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ} فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.
وقرأ حميد {نجيناكم} بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة {أنجيتكم} بتاء الضمير {عَدُوّكُمْ وواعدناكم جَانِبَ الطور الايمن} بالنصب على أنه صفة المضاف.
وقرئ بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو هذا جحر ضب خرب.
وتعقبه أبوحيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه وقال: الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اهـ.
والحق أن القلة لم تصل إلى جد منع تخريج القراءة لاسيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه، قوله: وإما لكونه.. إلخ. غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال: وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحًا، ونصب {جَانِبٍ} على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب وابن مالك في شرح التسهيل من أنه سمع نصب جنب وما بمعناه على الظرفية.
ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبًا على أنه مفعول واعدنا على الاتساع أو بتقدير مضاف أي إتيان جانب إلخ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء.
وإذا كان ظرفًا فالمفعول مقدرًا أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظرًا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في التسبة وفي ذلك إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه.
وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفًا {وواعدتكم} بتاء الضمير أيضًا.
وقرئ {ووعدناكم} من الوعد.
{الايمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السماني فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه.
{كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع.
وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكرهم وإتمامًا للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفًا {رزقتكم} وقدم سبحانه نعمة الانجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلًا إلينا، وثنى جلا وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبًا لمن يبيع الدين بالدنيا {رزقناكم وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فميا رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدى حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي لا يظلم بعضكم بعضًا فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل: أي لا تدخروا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {وَلاَ تَطْغَوْاْ} بضم الغين {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب إداؤه وأصله من الحلو وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى} أي هلك وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل: أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج.
وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرًا يرمي الكافر من أعلاه فيهوى في جهنم أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى: {فَقَدْ هوى} فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه.
وقرأ الكسائي {فَيَحِلَّ} بضم الحاء {وَمَن يَحْلِلْ} بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عبتبة في {يَحْلِلْ} فضم، وفي الاقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة {لا يَتْلُو عَلَيْكُمْ} بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي كتاب اللوامح قرأ قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش {فَيَحِلَّ} بضم الياء وكسر الحاء من الاحلال ففاعله ضمير الطغيان و{غَضَبِى} مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في الكشاف.
وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وفي الحديث {اتقوا الغضب فَإِنَّهُ} وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعًا وأريد معنى لاثق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلول حقيقة على بعض الاحتمالات ومجاز على بعض آخر، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلو لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» على التأويل المعروف أوعبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيرًا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها {رزقناكم وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى وَإِنّى لَغَفَّارٌ} كثير المغفرة {لّمَن تَابَ} من الشرك على ما روى عن ابن عباس، وقيل: منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق {وَامَنَ} بما يجب الإيمان به.
واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الإيمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصادر على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك {وَعَمِلَ صالحا} أي عملًا مستقيمًا عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والنسة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بإداء الفرائض {ثُمَّ اهتدى} أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر.
والهدي يحتمل أن يراد به الإيمان، وقد صرح بحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} [فصلت: 30].
وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح وأيًا ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل:
لكل إلى شاو العلى وثبات ** ولكن قليل في الرجال ثبات

وقيل: المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابًا يجزي عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل: المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة كالعجب والحسد والكبر وغيرها، وقال ابن عطية: الذي يقوى في معنى {ثُمَّ اهتدى} أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح، وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فوالله لو أن رجلًا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولا يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه.
وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذا ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار.
نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلى أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت: علام بعثوا؟ قال: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم باسمائهم ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أسماءهم واحدًا بعد واحد إلى المهدي وهو خبر طويل يتفجر الكذب منه.
ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل. والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة.
وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم تحقيقها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق اعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلًا للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتك الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولًا ثم الإتيان بالإيمان ثانيًا لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضًا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضى للمغايرة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {يا بني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن}.
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: امتنانه على بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، وأنه نزل عليهم المن والسلوى، وقال لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم. وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع. كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، وقوله في الأعراف: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: 141]، وقوله في الدخان: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المسرفين} [الدخان: 30-31]، وقوله في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]، وقوله في الشعراء {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] الآية، وقوله في الدخان {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 28]، وقوله في الأعراف: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] الآية، وقوله في القصص: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5] إلى قوله: {يَحْذَرونَ} [القصص: 6] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] الآية، وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] الآية، وقوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [طه: 86] وهو الوعد بإنزال التوراة. وقيل فيه غير ذلك.
وقوله هنا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع. كقوله في البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [البقرة: 57] وقوله في الأعراف {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} [الأعراف: 160] وأكثر العلماء على أن المن: الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض. والسلوى: طائر يشبه السمانى. وقيل هو السمانى. وهذا قول الجمهور في المن والسلوى. وقيل: السلوى العسل. وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل. والتحقيق: أن {السلوى} يطلق على العسل لغة. ومنه قول خالد بن زهير الهذلي:
وقاسمها بالله جهدًا لأنتم ألذ ** من السلوىإذا ما نشورها

يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها. لأن النشور: استخراج العسل. قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة.
سمي به لأنه يسلي. قاله القرطبي. إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية. واختلفوا في السلوى. هل هو جمع أو مفرد؟ فقال بعضهم: هو جمع، واحده سلواة، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك هزة ** كما انتفض السلواة من بلل القطر

ويروى هذا البيت:
كما انتفض العصفور بلله القطر

وعليه فلا شاهد في البيت. وقال الكسائي: السلوى مفرد وجمعه سلاوى. وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له من لظفه. مثل الخير والشر، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته. كما قالوا: دفلى وسمانى وشكاعى في الواحد والجمع. والدفلى كذكرى: شجر أخضر مر حسن المنظر، يكون في الأودية. والشكاعى كحبارى وقد تفتح: نوع من دقيق النبات صغيرًا أخضر، دقيق العيدان يتداوى به. والسمانى: طائر معروف.
قال مقيده عفا الله عنه: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه. ويشمل غير ذلك مما يماثله. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين».
والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا إنه السمانى، أو طائر يشبهه، لإطباق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك. مع أن السلوى، يطلق لغة على العسل، كما بينا.
وقوله في آية طه هذه: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان.
وقد ذكر ذلك أيضًا في غير هذا الموضع، كقوله في البقرة {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، وقوله في الأعراف: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 160]، وقوله: {كُلُواْ} في هذه الآيات مقول قول محذوف، أي وقلنا لهم كلوا، والضمير المجرور في قوله: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} راجع إلى الموصول الذي هو ما أي كلوا من طيبات الذي رزقناكم {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فيما رزقناكم. ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك.
وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا، لأن الفاء في قوله: {فَيَحِلَّ} سببية، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، لأنه بعد النهي وهو طلب محض، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
وبعد فالجواب نفي أو طلب ** محضين أن وسترها حتم نصب

وقرأ هذا الحرف الكسائي {فَيَحُلَّ} بضم الحاء {وَمَن يَحْلِلْ} بضم اللام. والباقون قرؤوا {يَحِلَّ} بكسر الحاء و{يَحْلِلْ} بكسر اللام. وعلى قراءة الكسائي {فَيَحُلَّ} بالضم أي ينزل بكم غضبي. وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر: إذا وجب، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه. ومنه {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33]. وقوله: {فَقَدْ هوى} أي هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر:
هوى من رأس مرقبة ** ففتت تحتها كبده

ويقولون: هوت أمه، أي سقط سقوطًا لا نهوض بعده. ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديًا ** وماذا يرد الليل حين يؤوب

ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] وعن شفى بن مانع الأصبحي قال: إن في جهنم جبلًا يدعى صعودًا يطلع فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يرقاه. قال الله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] وإن في جهنم قصرًا يقال له هوى، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفًا قبل أن يبلغ أصله، قال الله تعالى: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} قال القرطبي وابن كثير، والله تعالى أعلم.
واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته، تظهر آثارها في المغضوب عليهم. نعوذ بالله من غضبه جل وعلا. ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فتصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك. مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة الأعراف وقرأ حمزة والكسائي في هذه الآية {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْتكم} بتاء المتكلم فيهما. وقرأه الباقون {وَوَاعَدْنَاكُمْ وَأَنجَيْنَاكُم} بالنون الدالة على العظمة، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم. وقرأ أبو عمرو {وَوَعَدْنَاكُمْ} بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم.
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه غفار أي كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحًا ثم اهتدى. وقد أوضح هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه، كقوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] الآية. وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 74]، وقوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} [الزمر: 53-54] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ثُمَّ اهتدى} أي استقام وثبت على ما ذكر من التوبة والإيمان والعمل الصالح ولم ينكث. ونظير ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30]، وفي الحديث: «قل آمنت بالله ثم استقم» وقال تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} [هود: 112] الآية. اهـ.