فصل: تفسير الآيات (149– 150):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (149– 150):

قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}.

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوالهم في تنويع شغبهم وجدالهم وكانوا أهل علم وكتاب، وقد مرت لهم دهور وهو موسومون بأنهم على صواب، فاشرأب لذلك النفاق، ودارت رحى الباطل والشقاق، وقامت سوق الفسوق فيما هنالك على ساق، كان الحال مقتضيًا لمزيد تأكيد لأمرها تعظيمًا لشأنها وتوهية لشبه السفهاء فقال تعالى ثانيًا معبرًا بعبارة مشعرة بإمامته صلى الله عليه وسلم وانتظار المصلين له، {ومن حيث خرجت} أي للصلاة المفروضة باتباعك من هذه الجهة التي أنت بها الآن بالمدينة الشريفة التي هي شمال الكعبة المشرفة أو من غيرها من الجهات من الشرق والغرب والجنوب {فول وجهك شطر} أي عين {المسجد الحرام} وأما قلبك فهو إلى الله.
ولما كان التقدير فإنك مأمور بذلك لئلا يظن أن ذلك إنما عمل لتطلعه صلى الله عليه وسلم إليه وهو فيه بالخيار فيظن أن الرجوع إلى القبلة الأولى مصلحة لما انتشر في ذلك من الكلام الذي نفذ في القلوب نفوذ السهام عطف عليه قوله: {وإنه للحق من ربك} مؤكدًا له بأنواع التأكيد مضيفًا له إلى صفة الإحسان بإحسان التربية والنظر في أدبار الأمور وأحكامها.
ولما كان التقدير: وإن ربك عالم بما قالوا من الشبه التي دارت بين الناس وخيفت عاقبتها عطف عليه ما هو أعم منه فقال: {وما الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {بغافل عما} أي عن شيء مما {يعملون} أي السفهاء من اليهود وغيرهم في مستقبل الزمان فيوهيه ويبطل أذاه ويرميه ويبعده ويقصيه، وعلى قراءة الخطاب أنتم في هذا الوقف وبعده فيغلبه ويثبته ويبقيه إن كان خالصًا لوجهه وإلا جعله هباء منثورًا.
قال الحرالي: ومن التفت بقلبه في صلاته إلى غير ربه لم تنفعه وجهة وجه بدنه إلى الكعبة، لأن ذلك حكم حق حقيقته توجه القلب ومن التفت بقلبه إلى شيء من الخلق في صلاته فهو مثل الذي استدبر بوجهه عن شطر قبلته، فكما يتداعى الإجزاء الفقهي باستدبار الكعبة حسًا فكذلك يتداعى القبول باستدبار وجه القلب عن الرب غيبًا، فلذلك أقبل هذا الخطاب على الذين آمنوا والذين أسلموا، لأنه هو صلى الله عليه وسلم مبرأ عن مثله. انتهى.
{ومن حيث خرجت} أي من بقاع الأرض للصلاة بأمتك {فول وجهك} أي اجعله يلي {شطر} أي عين {المسجد الحرام}.
ولما تقرر بما تكرر أن هذا التحويل فرض قي حقه صلى الله عليه وسلم حتم لا فتور عنه ولا رخصة فيه إلا ما استثنى في النفل أدخل معه أمته ليعمهم الحكم وربأ بمنصبه المنيف وقدره الشريف عن أن يكون لأحد عليه ما يسمى حجة بحق أو باطل فقال: {وحيث ما كنتم} أي أيتها الأمة من جميع جهات الكعبة في جميع أقطار الأرض الدانية والقاصية.
قال الحرالي: وذكر في أمته بالكون لا بالخروج إشعارًا يتقاصر الأمة عن علو أحوال الأئمة وأن حال الأمة في خلوتهم كحالهم في جولتهم. انتهى.
{فولوا وجوهكم} أي اجعلوها والية {شطره} للصلاة.
قال الحرالي: وفيه إشعار يلحظ صحة صلواتكم فرادى وفي بيوتكم، كما قال: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت في أهلك، بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن صلاته لا تقع إلا جمعًا من حيث إنه يصلي لهم وأنه إمام لا تقع صلاته فذا. انتهى.
ولما كان ربما ظن أن الرجوع إلى القبلة الأولى يزيل الكلام بين سبحانه وتعالى أن الأمر بخلاف ذلك فقال: {لئلا يكون للناس} أي لأحد منهم {عليكم حجة} بأن يقولوا: النبي المبشر به يستقبل بيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم لا يتحول عنه وهذا لم يفعل، أو يقولوا: ما جاء بشيء جديد وإنما هو تبع لنا في قبلتنا.
ولما كانت الحجة كلامًا ينشأ عن مقدمات يقينية مركبة تركيبًا صحيحًا وقع الاستثناء باعتبار تلبس المستثنى بجزء المعنى الذي نفى عن المستثنى منه بدلالة التضمن فهو قريب من الاستخدام فقال: {إلا الذين} أي الناس الذين {ظلموا منهم} فإنهم لعنادهم ولددهم لا يرجعون إلى الحق الذي يعرفونه بل يكون لهم عليكم مجرد كلام هو مادة الحجة لا حجة بما دل عليه وصفهم بالظلم الذي هو وضع الشيء في غير محله كما هو شأن كل ماش في مأخذ الاشتقاق الذي هو الظلام، ويكون الاستثناء على هذا منقطعًا بمعنى: لئلا يحتج أحد عليكم لكن الذين ظلموا يقولون أو يظهرون فجورًا ولددًا في ذلك كلامًا يسمونه حجة، ولعل السر في تصويره على تقدير الانقطاع بصورة الاستثناء الحث على الثبات على أمر الله سبحانه وتعالى والإعراض عمن خالفه نظرًا إلى ما تأصل من إبطاله واستحضارًا لما ظهر من فاسد أحواله وإن أبدى من الشبه ما يخفى أمره ويصعب على بعض المحقين حله حتى يظن حجة؛ ويجوز أن يراد بالحجة أعم من القطعي والظني فيكون الاستثناء متصلًا، قال السفاقسي: ومثار الخلاف هل الحجة الدليل الصحيح والاستثناء منقطع أو الاحتجاج والخصومة فهو متصل. انتهى.
ووصفها بالاستعلاء عليهم لما يحصل بها من الأذى بدلالتها على العداوة والشقاق لا بتغييرها في وجه شيء من الأدلة، و{الذين ظلموا} إن أريد بهم اليهود فهم يقولون: ما رجع إلى الكعبة إلا محبة لبلده، ولو كان في قبلتنا على أمر من الله سبحانه ما تحول عنه، وإن كان المشركين فهم يقولون: قد استقبل بلدكم ومسجدكم فيوشك أن يدين دينكم.
ولما نفى عن أهل هذه القبلة بالثبات عليها كل سبيل تسبب عنه قوله: {فلا تخشوهم} أي في هذا الأمر ولا غيره، فإني أريد عنكم كيدهم وأوهن أمرهم.
ولما تبين أحكام فعله ومضى ما يريد من ربطه وحله حثهم على لزوم هذه القبلة محذرًا من مخالفته في شيء من الأشياء فقال: {واخشوني} ثم عطف على علة الاستقبال قوله: {ولأتم} أي بهذا الدين المفيد لعز الدارين ونعيمها الذي من جملته هذا الاستقبال {نعمتي عليكم} بالتمكين من الحجج وغيره من أمور الدين حين أنزل عليكم آية: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] كما أتممتها على إبراهيم خليلي صاحب هذا البيت الذي وجهتكم إليه.
قال الحرالي: وفي طيه بشرى بفتح مكة واستيلائه على جزيرة العرب كلها وتمكنه بذلك من سائر أهل الأرض لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها التي انتهى إليها ملك أمته. انتهى.
{ولعلكم تهتدون} أي ولتكونوا على رجاء عند أنفسكم ومن يراكم ممن لا يعلم العواقب من أن تهتدوا إلى الثبات على هذه القبلة وغيرها من أمر هذا الدين سبب خشيتي فإنها جالبة لكل خير ودافعة لكل ضير.
قال الحرالي: وفي كلمة {لعل} على ما تقدم إبهام يشعر بتصنيفهم صنفين: مهتد للثبات على السنة، ومتغير فيه بوجه من وجوه البدعة، لما ذكر من أن ما هو للخلق تردد فهو من الحق تقسيم وإبهام في تعيين ذلك التقسيم والتصنيف، ففيه إعلام لقوم بالاهتداء الدائم بما تفهمه صيغة الدوام وإشعار بانقطاع قوم عن ذلك التمادي بما يفهمه ما هو للخلق بموضع الترجي، وفي طيه إشعار باستبدادهم بالأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسامهم فيه بين ثابت عليه دائم الاهتداء فيه ومتغير عنه كما ظهر فيما كان من ثبات من ثبت بعده وردة من ارتد. انتهى.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

من أسرار التكرار في آيات القبلة الثلاث:
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات: {قَد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أن الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون} [البقرة: 144] ثم ذكر هاهنا ثانيًا قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وذكر ثالثًا قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} فهل في هذا التكرار فائدة أم لا؟
وللعلماء فيه أقوال:
أحدها: أن الأحوال ثلاثة، أولها: أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
وثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
وثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.
والجواب الثاني: أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حق، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقًا مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقًا، وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 79].
والجواب الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلبًا لرضا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال: {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم أنه تعالى قال ثالثًا: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سببًا للطعن في دينكم، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخًا ألبتة.
والجواب الرابع: أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا} [البقرة: 148] أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ للْحَقُّ مِن رَّبّكَ}.
والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللًا ثلاثًا قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال: الزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} ثم يقال: لزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: {فَبِأَيّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 12] وكذلك ما كرر في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 174].
والجواب الخامس: أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات. اهـ.

.قال الماوردي:

أكد الله أمره في استقبال الكعبة، لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين، بإعادته فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تبيينًا لِنَبِيِّهِ وصرفًا له عن الاغترار بقول اليهود: أنهم يتبعونه إن عاد.
{وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقول ذلك ترغيبًا لهم في الخير.
والثاني: تحذيرًا من المخالفة.
ثم أعاد الله تعالى تأكيد أمره، ليخرج من قلوبهم ما استعظموه من تحويلهم إلى غير ما أَلِفُوه، فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأفاد كل واحد من الأوامر الثلاثة مع استوائها في التزام الحكم فائدة مستجده:
أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره، وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أنه لا يتعقبه نسخ.
وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه، لقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبةَ مرتين. وتكرر أنَّه الحقُّ ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرًا للحق في نفوس المسلمين، وزيادةً في الرد على المنكرين التأكيد، من زيادة {ومن حيثُ خرجتَ}، ومن جُمَل معترضة، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال: وهي جملة {وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون الآيات}، وجملة: {وإنه للحق من ربك} وجملة: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} الآيات، وفيه إظهار أحَقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلاّ تصميمًا، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقُّق في معنى الكلام.
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حَفَّ به، ما يدفع قليل السآمة العارضةِ لسماع التكرار، فذُكر قوله: {وإنه للحق من ربك وما الله بغافل} الخ، وذُكر قوله: {لئلا يكون للناس} الخ. اهـ.