فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يقال: آمن له وآمن به {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر} لعظيمكم أو لمعلمكم، تقول أهل مكة للمعلم: أمرني كبيري {فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال، و{من} لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشىء من مخالفة العضو، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال يعني لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضًا فقد اتصفت بالاختلاف، شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف فلهذا قال: {وَلأُصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} وخص النخل لطول جذوعها {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا} أنا على ترك إيمانكم بي أو رب موسى على ترك الإيمان به.
وقيل: يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله: {آمنتم له} واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] {وأبقى} أدوم.
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك {على مَا جَاءنَا مِنَ البينات} القاطعة الدالة على صدق موسى {والذى فَطَرَنَا} عطف على {مَا جَاءنَا} أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا، أو قسم وجوابه {لَن نُّؤْثِرَكَ} مقدم على القسم {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب قال:
وعليهما مسرودتان قضاهما

أي صنعهما أو احكم ما أنت حاكم {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي في هذه الحياة الدنيا فانتصب على الظرف أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا.
{أَنَاْ ءامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ} ما موصولة منصوبة بالعطف على {خطايانا} {مِنَ السحر} حال من ما، روي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فكرهوا معارضته خوف الفضيحة فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر وضر فرعون جهله به ونفعهم علمهم بالسحر فكيف بعلم الشرع {والله خَيْرُ} ثوابًا لمن أطاعه {وأبقى} عقابًا لمن عصاه وهو رد لقول فرعون {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى}.
{أَنَّهُ} هو ضمير الشأن {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} كافرًا {فَإِنَّ لَهُ} للمجرم {جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح بالموت {وَلاَ يحيى} حياة ينتفع بها {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} مات على الإيمان {قَدْ عَمِلَ الصالحات} بعد الإيمان {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى} جمع العليا {جنات عَدْنٍ} بدل من. {تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} دائمين {وذلك جَزَاء مَن تزكى} تطهر من الشرك بقول لا إله إلا الله.
قيل: هذه الآيات الثلاث حكاية قولهم.
وقيل: خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية وهو أظهر {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} لما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بهم من مصر ليلًا ويأخذ بهم طريق البحر {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا في البحر} اجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهمًا {يَبَسًا} أي يابسًا وهو مصدر وصف به يقال: يبس يَبسا ويُبسا {لاَّ تَخَافُ} حال من الضمير في {فاضرب} أي اضرب لهم طريقًا غير خائف.
{لاَ تَخَفْ} حمزة على الجواب {دَرَكًا} هو اسم من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك {وَلاَ تخشى} الغرق وعلى قراءة حمزة {وَلاَ تخشى} استئناف أي وأنت لا تخشى أو يكون الألف للإطلاق كما في {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] فخرج بهم موسى من أول الليل وكانوا سبعين ألفًا وقد استعاروا حليهم فركب فرعون في ستمائة ألف من القبط فقص أثرهم فذلك قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} هو حال أي خرج خلفهم ومعه جنوده {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم} أصابهم من البحر {مَا غَشِيَهُمْ} هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} عن سبيل الرشاد {وَمَا هدى} وما أرشدهم إلى الحق والسداد وهذا رد لقوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29].
ثم ذكر منته على بني إسرائيل بعد ما أنجاهم من البحر وأهلك فرعون وقومه بقوله: {يا بنى إسراءيل} أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وقلنا يا بني إسرائيل {قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ} أي فرعون {وواعدناكم} بإيتاء الكتاب {جَانِبِ الطور الأيمن} وذلك أن الله عز وجل وعد موسى أن يأتي هذا المكان ويختار سبعين رجلًا يحضرون معه لنزول التوراة.
وإنما نسب إليهم المواعدة لأنها كانت لنبيهم ونقبائهم وإليهم رجعت منافعها التي قام بها شرعهم ودينهم.
و{الأيمن} نصب لأنه صفة {جَانِبٍ} وقرئ بالجر على الجواز {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} في التيه وقلنا لكم.
{كُلُواْ مِن طيبات} حلالات {مَا رزقناكم} {أنجيتكم} {وواعدتكم} {ورزقتكم} كوفي غير عاصم {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} ولا تتعدوا حدود الله فيه بأن تكفروا النعم وتنفقوها في المعاصي أو لا يظلم بعضكم بعضًا {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} عقوبتي {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى} هلك أو سقط سقوطًا لا نهوض بعده، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك وتحقيقه سقط من شرف الإيمان إلى حفرة من حفر النيران.
قرأ علي {فَيَحِلَّ} {ويحلل} والباقون بكسرهما.
فالمكسور في معنى الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه، والمضموم في معنى النزول {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} عن الشرك {وَءامَنَ} وحد الله تعالى وصدقه فيما أنزل {وَعَمِلَ صالحا} أدى الفرائض {ثُمَّ اهتدى} ثم استقام وثبت على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا}.
بصرناه إياها أو عرفناه صحتها. {كُلَّهَا} تأكيد لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد، على أن المراد بآياتنا آيات معهودة وهي الآيات التسع المختصة بموسى، أو أنه عليه السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات {فَكَذَّبَ} موسى من فرط عناده. {وأبى} الإِيمان والطاعة لعتوه.
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} أرض مصر. {بِسِحْرِكَ ياموسى} هذا تعلل وتحير ودليل على أنه علم كونه محقًا حتى خاف منه على ملكه، فإن الساحر لا يقدر أن يخرج ملكًا مثله من أرضه.
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} مثل سحرك. {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَّوْعِدًا} وعدًا لقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ} فإن الإِخلاف لا يلائم الزمان والمكان وانتصاب. {مَكَانًا سُوًى} بفعل دل عليه المصدر لا به لأنه موصوف، أو بأنه بدل من {مَّوْعِدًا} على تقدير مكان مضاف إليه وعلى هذا يكون طباق الجواب في قوله.
{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول، أو وعدكم وعد يوم الزينة، وقرئ {يوم} بالنصب وهو ظاهر في أن المراد بهما المصدر، ومعنى سوى منتصفًا يستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم: قوم عدي في الشذوذ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بالضم، وقيل في {يَوْمُ الزينة} يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم عيد كان لهم في كل عام، وإنما عينه ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار. {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} عطف على ال {يوم} أو {الزينة}، وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون والياء على أن فيه ضمير ال {يوم} أو ضمير {فرعون} على أن الخطاب لقومه.
{فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} ما يكاد به يعني السحرة وآلاتهم. {ثُمَّ أتى} الموعد.
{قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِبًا} بأن تدعوا آياته سحرًا. {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} فيهلككم ويستأصلكم، وبه قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب بالضم من الاسحات وهو لغة نجد وتميم، والسحت لغة الحجاز. {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.
{فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه فقال بعضهم: ليس هذا من كلام السحرة. {وَأَسَرُّواْ النجوى} بأن موسى إن غلبنا اتبعناه أو تنازعوا واختلفوا فيما يعارضون به موسى وتشاوروا في السر. وقيل الضمير لفرعون وقومه وقوله: {قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران} تفسير ل {أَسَرُّواْ النجوى} كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرًا أن يغلبا فيتبعهما الناس، و{هذان} اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديرًا. وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و{هاذان لساحران} خبرها. وقيل {إِن} بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ. وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف، وقرأ أبو عمرو: {أن هذين} وهو ظاهر، وابن كثير وحفص {أَنْ هاذان} على أنها هي المخففة واللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا. {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} بالاستيلاء عليها. {بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله: {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} فأزمعوه واجعلوه مجمعًا عليه لا يتخلف عنه واحد منكم. وقرأ أبو عمرو {فَأَجمعوا} ويعضده قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} والضمير في {قَالُواْ} إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. {ثُمَّ ائتوا صَفًّا} مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. قيل كانوا سبعين ألفًا مع كل واحد منهم حبل عصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة. {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض.
{قَالُواْ يَا موسى إَمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و{أن} بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف، أي اختر إلقاءك أولًا أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.
{قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} مقابلة أدب بأدب وعدم مبالاة بسحرهم، وإسعافًا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ، ولأن يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} أي فألقوا فإذا حبالهم وعصيهم، وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضًا ظرفية تستدعي متعلقًا ينصبها وجملة تضاف إليها، لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح {تخيل} بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال، والعصي وإبدال أنها {تسعى} منه بدل الاشتمال، وقرئ {يخيل} بالياء على إسناده إلى الله تعالى، و{تخيل} بمعنى تتخيل.
{فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} فأضمر فيها خوفًا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية، أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه.
{قُلْنَا لاَ تَخَفْ} ما توهمت. {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} تعليل للنهي وتقرير لغلبته مؤكدًا بالاستئناف، وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.
{وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ} أبهمه ولم يقل عصاك تحقيرًا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة التي في يدك، أو تعظيمًا لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرًا فألقه. {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} تبتلعه بقدرة الله تعالى، وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستنئاف، وحفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته. {إِنَّمَا صَنَعُواْ} أن الذي زوروا وافتعلوا. {كَيْدُ سَاحِرٍ} وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا. وقرأ حمزة والكسائي {سحر} بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحرًا على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه، وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر} أي هذا الجنس وتنكير الأول لتنكير المضاف كقول العجاج:
يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّت ** فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَما قَدْ مَدَّتْ

كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري. {حَيْثُ أتى} حيث كان وأين أقبل.
{فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّدًا} أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدًا لله توبة عما صنعوا وإعتابًا وتعظيمًا لما رأوا. {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هارون وموسى} قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية، أو لأن فرعون ربى موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع. روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها.
{قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ} أي لموسى واللام لتضمن الفعل معنى الاتباع. وقرأ قنبل وحفص {آمنتم له} على الخبر والباقون على الاستفهام. {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} في الإِيمان له. {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به أو لأستاذكم. {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن ابتدائية كأن القطع ابتدأ من مخالفة العضو العضو وهي مع المجرور بها في حيز النصب على الحال، أي لأقطعنها مختلفات وقرئ {لأقطعن} {ولأصلبن} بالتخفيف. {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف وهو أول من صلب. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} يريد نفسه وموسى لقوله: {آمنتم له} واللام مع الإِيمان في كتاب الله لغير الله أراد به توضيع موسى والهزء به، فإنه لم يكن من التعذيب في شيء. وقيل رب موسى الذي آمنوا به. {أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} وأدوم عقابًا.
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك. {على مَا جَاءَنَا} موسى به، ويجوز أن يكون الضمير فيه لما. {مِنَ البينات} المعجزات الواضحات. {والذى فَطَرَنَا} عطف على ما جاءنا أو قسم. {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به. {إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيا} إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الدنيا {والأخرة خَيْرٌ وأبقى} فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده. وقرئ {تقضي هذه الحياة الدنيا} كقولك: صيم يوم الجمعة.
{إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} من الكفر والمعاصي. {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} من معارضة المعجزة. روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائمًا فوجدوه تحرسه العصا فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه. {والله خَيْرٌ وأبقى} جزاء أو خير ثوابًا وأبقى عقابًا.
{إِنَّهُ} إن الأمر. {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} بأن يموت على كفره وعصيانه. {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح. {وَلاَ يَحْيَا} حياة مهنأة.
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات} في الدنيا. {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى} المنازل الرفيعة.
{جنات عَدْنٍ} بدل من الدرجات. {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} حال والعامل فيها معنى الإِشارة أو الاستقرار. {وذلك جَزَاءُ مَن تزكى} تطهر من أدناس الكفار والمعاصي، والآيات الثلاث يحتمل أن تكون من كلام السحرة وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى.
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي من مصر. {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا} فاجعل لهم، من قولهم ضرب له في ماله سهمًا أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله. {فِى البحر يَبَسًا} يابسًا مصدر وصف به يقال يبس يبسًا ويبسًا كسقم سقمًا وسقمًا، ولذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها، وقرئ {يبْسا} وهو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله:
كَأَنَّ قُتُودَ رَحْلِي حِينَ ضَمَّت ** حَوَالِبَ غُرزًا وَمَعِيَ جِيَاعًا

أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقًا. {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا} حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو، أو صفة ثانية والعائد محذوف، وقرأ حمزة {لا تخف} على أنه جواب الأمر. {وَلاَ تخشى} استئناف أي وأنت لا تخشى، أو عطف عليه والألف فيه للإِطلاق كقوله: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} أو حال بالواو والمعنى ولا تخشى الغرق.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} وذلك أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل فَأُخْبِرَ فرعون بذلك فقص أثرهم، والمعنى فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده فحذف المفعول الثاني. وقيل {فَأَتْبَعَهُمْ} بمعنى فأتبعهم ويؤيده القراءة به والباء للتعدية وقيل الباء مزيدة والمعنى: فاتبعهم جنوده وذادهم خلفهم. {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} الضمير لجنوده أوله ولهم، وفيه مبالغة ووجازة أي: غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله. وقرئ {فغشاهم ما غشاهم} أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو الله تعالى أو ما غشاهم أو فرعون لأنه الذي ورطهم للهلاك.
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} أي أضلهم في الدين وما هداهم وهو تهكم به في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أو أضلهم في البحر وما نجا.
{يَا بَنِى إسراءيل} خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون على إضمار قلنا، أو للذين منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل بآبائهم. {قَدْ أنجيناكم مِّنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون وقومه. {وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن} بمناجاة موسى وإنزال التوراة، وإنما عد المواعدة إليهم وهي لموسى أو له وللسبعين المختارين للملابسة. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} يعني في التيه.
{كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} لذائذه أو حلالاته، وقرأ حمزة والكسائي {أنجيتكم} {وواعدتكم} و{ما رزقتكم} على التاء. وقرئ {ووعدتكم} {ووعدناكم}، والأيمن بالجر على الجوار مثل: حجر ضب خرب. {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} فيما رزقناكم بالإِخلال بشكره والتعدي لما حد الله لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} فيلزمكم عذابي ويجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه. {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى} فقد تردى وهلك. وقيل وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي {يحل} و{يُحْلِلْ} بالضم من حل يحل إذا نزل.
{وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} عن الشرك. {وَآمَنَ} بما يجب الإِيمان به. {وَعَمِلَ صالحا ثُمَّ اهتدى} ثم استقام على الهدى المذكور. اهـ.