فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ولما كان المقام لتعظيم القدرة عطف عليه قوله تعالى: {ولقد أريناه}.
أي: أبصرناه {آياتنا كلها} أي: التسع المختصة بموسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل {فكذب} بها وزعم أنها سحر {وأبى} أن يسلم، فإن قيل: قوله تعالى: كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات فإنّ من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى عليه السلام وبعده؟
أجيب: بأنّ لفظ الكل وإن كان للعموم قد يستعمل في الخصوص مع القرينة كما يقال: دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال: إنّ موسى عليه السلام أراه آياته وعدّد عليه آيات غيره من الأنبياء فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى سبحانه وتعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم كأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه فقيل:
{قال} حين علم حقيقة ما جاء به موسى وظهوره وخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ووهن في نفسه وهنًا عظيمًا {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا} أي: الأرض التي نحن مالكوها ويكون لك الملك فيها فصارت فرائصه ترعد خوفًا مما جاء به موسى لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأنّ المحق لو أراد قود الجبال لانقادت له وإن مثله لا يخذل ولا يذل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة ثم خيل لأتباعه أن ذلك سحر بقوله: {بسحرك يا موسى} فكان ذلك مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال صارفًا لهم عن اتباع ما رأوه من البيان ثم أظهر لهم أنه يعارضه بمثل ما أتى به بقوله: {فلنأتينك بسحر مثله} أي: مثل سحرك يعارضه {فاجعل بيننا وبينك موعدًا} أي: من الزمان والمكان {لا نخلفه} أي: لا نجعله خلفنا {نحن ولا أنت} أي: لا نجاوزه ولما كان كل من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: {مكانًا} وآثر ذلك المكان لأجل وصفه بقوله: {سوى} أي: عدلًا وقال ابن عباس نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم، وقيل: معنى سوى أي: سوى هذا المكان، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح، وقيل: المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي: بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله: {قال موعدكم يوم الزينة} فإنه لا يطابقه.
تنبيه:
يحتمل أنّ قوله: قال موعدكم يوم الزينة أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى عليه السلام وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه؛ الأوّل: أنه جواب لقول فرعون: {فاجعل بيننا وبينك موعدًا} الثاني: وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ثالثها: أن قوله: موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز، فإذا جعلناه من موسى عليه السلام استقام الكلام واختلف في يوم الزينة فقال مجاهد وقتادة: النيروز، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو يوم عاشوراء، وقيل: كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة، وقيل: يوم كانوا يتخذون فيه سوقًا ويتزينون ذلك اليوم.
وبنى قوله: {وأن يحشروا} للمفعول؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين {الناس} أي: يجتمعوا {ضحى} أي: وقت الضحوة، فيكون أظهر لما يعمل، وأجلى، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
{فتولى} أي: أعرض {فرعون} عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى {فجمع كيده} أي: مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى عليه السلام بجميع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة حشرهم من كل فج، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحرًا، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناءً بالسحر، وأمهر ما كانوا وأكثر {ثم أتى} للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها، ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى: {قال لهم} أي: لأهل الكيد والعناد، وهم السحرة وغيرهم {موسى} حين رأى اجتماعهم ناصحًا لهم {ويلكم} يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته {لا تفتروا} أي: لا تتعمدوا {على الله كذبًا} بإشراك أحد معه {فيسحتكم} قال مقاتل: يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم {بعذاب} من عنده، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء من الإسحات، وهو لغة نجد وتميم، والباقون بفتحهما، والسحت لغة الحجاز {وقد خاب من افترى} كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له، فلم ينفعه.
{فتنازعوا} أي: تجاذب السحرة {أمرهم بينهم} لما سمعوا هذا الكلام علمًا منهم أنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه {وأسروَّا النجوى} قال الكلبي: قالوا سرًا: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقال محمد بن إسحاق: لما قال لهم موسى: لا تفتروا على الله كذبًا، قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، وبالغوا في إخفاء ذلك، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل:
{قالوا} أي السحرة: {إن هذان لساحران} أي: موسى وهارون، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من إن، وشدَّدها الباقون، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازمًا في كل حال، قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة، وقال شاعرهم:
تزوّد مني بين أذناه ضربة

يريد أذنيه، وقال آخر:
إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها

وقيل: تقدير الآية أنه هذان، فحذف الهاء، وذهب جماعة إلى أن حرف أن هاهنا بمعنى نعم، أي: نعم هذان، روي أن أعرابيًا سأل ابن الزبير شيئًا، فحرمه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إنَّ وصاحبها، أي: نعم، وشدَّد ابن كثير النون، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام، وتزويره خوفًا من غلبتهما، وتثبيطًا للناس عن اتباع موسى وهارون {يريدان} أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها {أن يخرجاكم} أيها الناس {من أرضكم} هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفًا عن سلف {بسحرهما} الذي أظهراه لكم وغيره. ولما كان كل حزب بما لديهم فرحين قالوا: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} مؤنث الأمثل، وهو الأفضل، أي: بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه، وإعلاء دينه لقوله تعالى: {إني أخاف أن يبدل دينكم} غافر وقيل: أراد أهل طريقتكم، وهم بنو إسرائيل، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى: {أرسل معنا بني إسرائيل} الشعراء، وقيل: الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.
{فأجمعوا كيدكم} أي: من السحر وغيره، فلا تدعوا منه شيئًا إلا جئتم به، وقرأ أبو عمرو بهمزة الوصل بين الفاء والجيم، وفتح الميم، والباقون بهمزة مقطوعة وكسر الميم {ثم ائتوا} أي: للقاء موسى وهارون {صفًا} أي مصطفين؛ لأنه أهيب في صدور الرائين.
تنبيه:
اختلفوا في عدد السحرة، فقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا؛ اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، وقال عكرمة: كانوا تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الاسكندرية، وقال وهب: خمسة عشرة ألفًا، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفًا، وقال القاسم بن سلام: كانوا سبعين ألفًا، وقيل: اثني عشر ألفًا مع كل منهم على كل قول حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال.
ولما كان التقدير: فمن أتى كذلك فقد استعلى عطف عليه قوله: {وقد أفلح اليوم} في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط {من استعلى} أي: فاز بالمطلوب من غلب، فلما أتى السحرة موسى.
{قالوا} له متأدبين؛ لأنّ لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر؛ بل نفعهم قال بعضهم: ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته {يا موسى إما أن تلقي} أي: ما معك مما تناظرنا به أولًا {وإما أن نكون} نحن {أوّل من ألقى} ما معه {قال} لهم موسى عليه السلام مقابلًا لأدبهم بأحسن منه، ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر، فتكون له العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم، فلا يكون بعدها شك لا ألقي أنا أولًا {بل ألقوا} أنتم أولًا، فانتهزوا الفرصة؛ لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تغيير السياق والتصريح بالأول، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي {فإذا حبالهم وعصيّهم} أي: التي ألقوها قد فاجأت أنه {يخيل إليه} تخييلًا مبتدًا {من سحرهم} أي: الذي قد فاقوا به أهل الأرض {أنها} لشدة اضطرابها {تسعى} فإن قيل: كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام: بل ألقوا فيأمرهم بما هو سحر أجيب: بأن ذلك الأمر كان مشروطًا، والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين؛ كما في قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله}، أي: إن كنتم صادقين، وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات، وكانت قد أخذت ميلًا من كل جانب، ورأوا أنها تسعى، وقيل: لطخوها بالزئبق، فلما وقعت عليها الشمس اضطربت، فخيل إليهم أنها تتحرك، وقرأ ابن ذكوان تخيل بالتاء الفوقية على التأنيث، والباقون بالياء على إسناده إلى ضمير الحبال.
{فأوجس} أي: أحس {في نفسه خيفة موسى} عليه الصلاة والسلام فإن قيل: كيف استشعر الخوف، وقد عرض عليه المعجزات الباهرات كالعصا واليد، ثم إن الله تعالى قال له بعد ذلك: إنني معكما أسمع وأرى فكيف وقع الخوف في قلبه؟
أجيب بأوجه أحدها: أنه خاف من جهة أن سحرهم من جنس معجزته أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به، الثاني: أنه خوف طبع البشرية مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك، الثالث: لعله كان مأمورًا أن لا يفعل شيئًا إلا بالوحي، فلما تأخَّر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الوحي في ذلك الجمع، فيبقى الخجل؛ ثم إنه أزال ذلك الخوف بقوله تعالى: {قلنا لا تخف} من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله تعالى، وأكده أنواعًا من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه {إنك أنت} خاصة {الأعلى} أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها {وألقِ ما في يمينك} أبهمه، ولم يقل: عصاك تحقيرًا لها؛ أي: لا تبال بكثرة حبالهم، وعصيهم، وألقِ العويد الذي في يدك، أو تعظيمًا لها أي: لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي: العصا، وهي التي قلنا لك أول ما شرَّفناك بالمناجاة: {وما تلك بيمينك يا موسى} ظه، ثم أريناك منها ما أريناك {تلقف} أي: تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك {ما صنعوا} أي: فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم، ثم أخذت تزداد عظمًا حتى ملأت الوادي، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعًا، فصاح بموسى، فأخذها، فإذا هي عصا كما كانت، ونظرت السحرة، فإذا هي لم تدع من حبالهم، وعصيهم شيئًا إلا أكلته، وعرفوا أنه ليس بسحر، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف، والباقون بسكونها، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته {إنما} أي: الذي {صنعوا} أي: زوَّروا وافتعلوا وهالك أمره {كيد ساحر} أي: كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحرًا على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
فإن قيل: لم وحد الساحر ولم يجمع؟
أجيب بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا يفلح الساحر} أي هذا الجنس {حيث أتى} أي: كيفما سار، وقال ابن عباس: لا يسعد حيث كان، وقيل: معناه حيث احتال، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له.
فإن قيل: لم نكر أولًا، ثم عرف ثانيًا أجيب بأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ، ثم أنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئًا كثيرًا، فعلم كل من رأى ذلك حقيته، وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه السلام، وحذف ذكر الإلقاء، وما سببه من التلقف؛ لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية.