فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا}.
وقعت جملة {قَالُوا} غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جوابًا عن كلام موسى عليه السلام.
وضمير {قَالُوا} عائد إلى القوم وإنما القائل بعضهم، تصدّوا مجيبين عن القوم كلّهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم.
وقوله: {بمَلْكنا} قرأه نافع، وعاصم، وأبو جعفر بفتح الميم.
وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر الميم.
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بضم الميم.
وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة، ومعناها: بإرادتنا واختيارنا، أي لإخلاف موعدك، أي ما تجرّأنا ولكن غرّهم السامريّ وغلبهم دهماء القوم.
وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم.
والاستداك راجع إلى ما أفاده نفيُ أن يكون إخلافهم العهدَ عن قصد للضلال.
والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حُصول المقصود من التنصّل من تبعة نكث العهد.
ومحل الاستدراك هو قوله فقالوا {هذا إلهكم وإله موسى} وما قبله تمهيد له، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غُلبوا على رأيهم بتضليل السامريّ.
فأُدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما مُوّه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب {حُمّلنا} بضمّ الحاء وتشديد الميم مكسورة، أي حَمّلنَا منْ حَمّلَنا، أو حَمّلْنا أنفسنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، وأبو عمرو، والكسائي، ورَوحٌ عن يعقوب بفتح الحاء وفتح الميم مخففة.
والأوزار: الأثقال.
والزينة: الحلي والمصوغ.
وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كلّ واحد من جاره القبطي حَليًا فضةً وذهبًا وأثاثًا، كما في الإصحاح 12 من سفر الخروج.
والمعنى: أنهم خشُوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون.
والقذف: الإلقاء.
وأُريد به هنا الإلقاء في نار السامريّ للصوغ، كما يومىء إليه الإصحاح 32 من سفر الخروج.
فهذا حكاية جوابهم لموسى عليه السلام مجملًا مختصرًا شأنَ المعتذر بعذر وَاهٍ أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام.
ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادرًا من قائل الكلام المفرّع عليه.
والمعنى: فمثلَ قذفنا زينةَ القوم، أي في النّار، ألقى السامريّ شيئًا من زينة القوم فأخرج لهم عجلًا.
والمقصود من هذا التشبيه التخلّصُ إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه.
وضميرا الغيبة في قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} وقوله: {فَقَالُوا} عائدان إلى غير المتكلمين.
علّق المتكلمون الإخرَاجَ والقولَ بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعَوا دهماء القوم، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى.
وعلى هذا درج جمهور المفسرين، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى، ويكون ضمير {فأخرج لهم} التفاتًا قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم، أي أخرجَه لمن رغِبوا في ذلك.
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله، وهو اختيار أبي مسلم، فيكون اعتراضًا وإخبارًا للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمّة.
وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا تَرِد للاستئناف على التحقيق، فتكون الفاء للتفريع تفريعَ أخبار على أخبار.
والمعنى: فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليَذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلًا جسدًا.
فإنّ فعل {ألقى} يحكي حالة مشبهة بحالة قَذفهم مصوغَ القبط.
والقذف والإلقاء مترادفان، شبه أحدهما بالآخر.
والجسد: الجسم ذو الأعضاء سواء كان حيًا أم لا؛ لقوله تعالى: {وألْقينا على كرسيه جسدًا} [ص: 34].
قيل: هو شِق طفل ولدتْه إحدى نسائه كما ورد في الحديث.
قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يَعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب.
وفي سفر الخروج أنّه كان من ذهب.
والإخْراج: إظهار ما كان محجوبًا.
والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه.
والخُوار: صوت البقر.
وكان الذي صنع لهم العجل عارفًا بصناعة الحِيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.
وصنع لهم السامريّ صنمًا على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل ايبيس، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرَفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خوارًا، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم: {هذا إلهكم وإله موسى} لأنهم رأوه من ذهب أو فضة، فتوهموا أنّه أفضل من العجل إيبيس.
وإذ قد كانوا يثبتون إلهًا محجوبًا عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته، فقالوا لموسى: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة.
وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التّوراة غير ملائمة للنظر السليم.
وتفريع {فَنَسِى} يحتمل أن يكون تفريعًا على {فقال هذا إلهكم} تفريعَ علة على معلول، فالضمير عائد إلى السامريّ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي؛ أو تفريعَ معلول على علّة، أي قال ذلك، فكان قوله سببًا في نسيانه ما كان عليه من هَدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعدُ.
والنسيان: مستعمل في الإضاعة، كقوله تعالى: {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها} [طه: 126] وقوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5].
وعلى هذا يكون قوله: {فَنَسِيَ} من الحكاية لا من المحكي، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله: {أفلا يرون} [طه: 89] ويكون اعتراضًا.
وجعله جمع من المفسرين عائدًا إلى موسى، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه، أي غفل عنه، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.
والنسيان: يكون مستعملًا مجازًا في الغفلة.
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}.
يجوز أن يكون اعتراضًا وليس من حكاية كلام القوم، فهو معترض بين جملة {فكذلك ألقى السامريّ} [طه: 87] وجملة {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن} [طه: 92، 93].. إلخ، فتكون الفاء لتفريع كلاممِ متكلممٍ على كلام غيره، أي لتفريع الإخبار لا لتفريع المخبر به، والمخبِر متعدد.
ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدّوا لخطاب موسى عليه السلام من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد.
والاستفهام: إنكاري، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جَرْيهم على موجَب البصر، فأُنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره، أي كيف يدّعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعًا ولا ضرًا.
والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملةً في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم، ولاسيما بالنسبة لجملة {ولاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًا ولا نَفْعًا} فإن ذلك لا يُرى بالبصر بخلاف {لا يرجع إليهم قولًا}.
ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلّم وانتفاءِ عدم نفعهم وضرهم، لأنّ الإنكار مسلّط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملكَ لهم ضرًّا ونفعًا.
ومعنى {يَرْجِعُ} يَرُدّ، أي يجيب القول، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يَدْعُونه ويُثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يَعِدهم باستجابة، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقّى طِلبة أن يجيب.
ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضرّ، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدّو أو مرض.
فهم قد شاهدوا عدم غنائه عنهم، ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأنّ حاله مما يُرى.
ولامَ {لَهُمْ} متعلّق ب {يَمْلِكُ} الذي هو في معنى يستطيع كما تقدّم في قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا} في سورة العقود.
(76).
وقدم الضرّ على النفع قطعًا لعُذرهم في اعتقاد إلهيته، لأن عذر الخائف من الضرّ أقوى من عذر الراغب في النفع.
وأنْ في قوله: {ألاَّ يَرْجِعُ} مخفّفة من أنّ المفتوحة المشددة واسمها ضمير شأن محذوف، والجملة المذكورة بعدها هي الخبر، ف {يرجعُ} مرفوع باتفاق القراءات ما عدا قراءات شاذة.
وليست {أنْ} مصدرية لأن {أن} المصدرية لا تقع بعد أفعال العلم ولا بعد أفعال الإدراك.
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ}.
الجملة في موضع الحال من ضمير {أفلا يرون} [طه: 89] على كلا الاحتمالين، أي كيف لا يستدلّون على عدم استحقاق العجل الإلهيّة، بأنه لا يرجع إليهم قولًا ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أنّ هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكّرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامريّ، وأن ربّهم هو الرحمان لا ما لا يملك لهم نفعًا فضلًا عن الرحمة، وأمرهم بأن يتبعوا أمره، وتلك دلالة سمعيّة.
وتأكيد الخبر بحرف التحقيق ولام القسم لتحقيق إبطال ما في كتاب اليهود من أن هارون هو الذي صنَع لهم العِجل، وأنه لم ينكر عليهم عبادته.
وغاية الأمر أنه كان يستهزىء بهم في نفسه، وذلك إفك عظيم في كتابهم.
والمضاف إليه {قبلُ} محذوف دل عليه المقام، أي من قبللِ أن يرجعَ إليهم موسى وينكر عليهم.
وافتتاح خطابه ب {يا قوم} تمهيد لمقام النصيحة.
ومعنى {إنَّمَا فُتِنْتُم بِه} ما هو إلاّ فتنة لكم وليس ربًّا، وإن ربّكم الرحمان الذي يرحمكم في سائر الأحوال، فأجابوه بأنّهم لا يزالون عاكفين على عبادته حتى يرجع موسى فيصرّح لهم بأن ذلك العجل ليس هو ربّهم.
ورتب هارون خطابه على حسب الترتيب الطبيعي لأنه ابتدأه بزجرهم عن الباطل وعن عبادة ما ليس برب، ثمّ دعاهم إلى معرفة الرب الحق، ثمّ دعاهم إلى اتباع الرسول إذ كان رسولًا بينهم، ثم دعاهم إلى العمل بالشرائع، فما كان منهم إلاّ التصميم على استمرار عبادتهم العجل فأجابوا هارون جوابًا جازمًا.
و{عَلَيهِ} متعلّق ب {عاكفين} قدم على متعلقه لتقوية الحكم، أو أرادوا: لن نبرح نخصه بالعكوف لا نعكف على غيره.
والعكوف: الملازمة بقصد القربة والتعبد، وكان عبَدة الأصنام يَلزمونها ويطوفون بها. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}.
مادة ملك لها صور ثلاثة، لكل منها معنى، وليست بمعنى واحد كما يدَّعِي البعض، فتأتي مَلْك بفتح الميم، ومِلْك بكسرها، ومُلْك بضم الميم، وجميعها تفيد الحيازة والتملُّك، إلا أن مَلْك تعني تملك الإنسان لنفسه وذاته وإرادته، دون أنْ يملكَ شيئًا آخر مِمَّا حوله.
ومِلْك: لتملك ما هو خارج عن ذاتك.
ومُلْك: أنْ تملك شيئًا، وتملك مَنْ ملكه.
إذن: هذه الثلاثة ليستْ مترادفات بمعنى واحد. فقوله تعالى: {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] أي: بإرادتنا، بل أمور أخرى خارجة عن إرادتنا حملتنا على إخلاف الوعد، فما هذه الأمور الخارجة عن إرادتكم؟
قالوا: {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ القوم} [طه: 87] {أَوْزَارًا} جمع وِزْر، وهو الشيء الثقيل على النفس، ويطلق الوِزْر على الإثم؛ لأنه ثقيل على النفس ثِقَلًا يتعدىَ إلى الآخرة أيضًا، حيث لا ينتهي ألم الحمْل فيها؛ لذلك يقول تعالى: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلًا} [طه: 101].
وكانت هذه الأوزار من زينة القوم: أي: قوم فرعون. وقالوا إنهم كانوا في أعيادهم يستعيرون الحُليّ من جيرانهم ومعارفهم من قوم فرعون يتزيَّنون بها. فلماذا لم يردُّوا الأمانات هذه إلى أصحابها قبل أنْ يخرجُوا إلى الميقات الذي واعدهم عليه؟