فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه. وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال {بَصِرْتُ} بالكسر، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة. وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي: أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به.
وقرأ الأخَوان: {تَبْصُروا} خطابًا لموسى وقومه أو تعظيمًا له كقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] وقوله:
حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ

والباقون بالغَيْبة عن قومه.
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من {قَبْضَة} وهي المرَّةُ من قَبَضَ. قال الزمخشري: وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر قلت: والنحاة يقولون: إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول: هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن ولا تقول: نَسْجَةُ اليمن. ويعترضون بهذه الآية، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث. وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث، وكذلك قوله: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67].
وقرأ الحسن {قُبْضَة} بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض. ورُوي عنه {قُبْصَة} بالصاد المهملة. والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع. وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ، والقَضْمِ بمقدَّمِه. والقَصْمُ: قطعٌ بانفصالٍ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ. وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة.
وأدغم ابن محيصن الضادَ المعجمة في تاءِ المتكلم مع إبقائه الإِطباقَ، كما تقدَّم في {بَسَطْتَ}. وأدغم الأخَوان وأبو عمروٍ الذال في التاء مِنْ {فَنَبَذْتُها}.
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ}.
قوله: {لاَ مِسَاسَ}: قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين. وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل، فهو يقتضي المشاركةَ. وفي التفسير: لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء. ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن يقرأ: {مَسِيس} بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ. ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ: وقرئ {لا مَساسِ} بوزن فَجار. ونحوُه قولهم في الظباء: إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ. فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها.
ويدلُّ أيضًا قولُ صاحبِ اللوامح: هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ فهذا أيضًا تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها. ثم قال صاحب اللوامح: فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ، ولا تدخُلُ عليها لا النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ، نحو لا مالَ لك لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه: لا يكون منك مساسٌ، ومعناه النهيُ أي: لا تَمَسَّني.
وقال ابنُ عطية: لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه. وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ. وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر. ومِن هذا قولُ الشاعر:
تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه ** ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ

فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ {مَساس} على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة.
قوله: {لَّن تُخْلَفَهُ} قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل. والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ. وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ، وضمِّ اللام، وحكى عنه صاحب اللوامح كذلك، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ. وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام.
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها: لن تجدَه مُخلَّفًا كقولك: أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي: وَجَدْتُه مَحْمُودًا وجَبانًا. وقيل: المعنى: سيصلُ إليك، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه. قال الزمخشري: وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفًا. قال الأعشى:
أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا ** فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا

ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك. وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهبًا وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه.
قوله: {ظَلْتَ} العامَّةُ على فتح الظاء، وبعدها لامٌ ساكنة. وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر على كسرِ الظاء. ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضًا. وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى {ظَلِلْتَ} بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ.
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها: حَذْفُ أحدِ المِثْلين، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها، وإنما حُذف تخفيفًا. وعدَّه سيبويه في الشاذ. يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ، وعَدَّ معه ألفاظًا أُخَرَ نحو: مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه:
أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ

وعَدَّ ابنُ الأنباري هَمْتُ في هَمَمْتُ ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ. وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه، وذلك في لغة سُلَيْم.
والذي أقولُه: إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو: ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ. وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري. بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو: غُضْنَ يا نسوةُ أي: أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو: قَرْن يا نسوةُ في المنزل ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها. وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع، ثم نُقِلَتْ، كما تقدّم ذلك في الكسر. وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها. و{عاكفًا} خبرُ ظلَّ.
قوله: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي: واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ. والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد. وفيها تأويلان. أظهرُهما: أنها مِنْ حَرَّقه بالنار. والثاني: أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ. والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ. والمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْدًا نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر {لَنُحْرِقَنَّه} بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء، مِنْ أحرق رباعيًا. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر {لَنَحْرُقَنَّه} كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء. فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل. وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد.
قوله: {لَنَنسِفَنَّهُ} العامَّةُ على فتح النون الأولى وسكونِ الثانية وكسرِ السين خفيفةً. وقرأ عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وكسر السينِ مشددةً. والنَّسْفُ: التفرقةُ والتَّذْرِيَةُ وقيل: قَلْعُ الشيء مِنْ أصله يقال: نَسَفَه يَنْسُِفه بكسر السين وضمها في المضارع، وعليه القراءتان. والتشديد للتكثير. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)}.
كان ذلك تَعَلُّلًا منهم بالباطل، فقالوا إنهم كانوا عازمين على تَرْكِ عبادة العجل؟ إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيدِ وتَرْكِ عبادةِ غير اللَّهِ... ولكنْ كلُّ مُتَعلِّلٍ يَسْتَنِدُ إلى ما يحتج به من الباطل.
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}.
ضاق قلبُ موسى عليه السلام لمَّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل. ولقد كان سمع من الله أَنَّ السامريّ أظلَّهم حين قال: {إنَّا قد فتنا قومك} [طه: 85]، ولكن قديمًا قيل: ليس الخبر كالعيان، فلمَّا عايَنَ ذلك ضاق قلبهُ، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر، وقيل: مَنْ ضاق قلبُه استع لسانُه. ولما ظهر لموسى عليه السلام ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المدارة.. وكذلك الواجب في الصحبة لئلا يرتقي الأمرُ إلى الوحشة، فاستلطفه في الخطاب واستعطفه بقوله: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}.
أنت أمَرْتَنِي أَلاَّ أُفارِقَهم. وقد يُقال إن هارون لو قال لموسى: في الوقتِ الذي احتَجْتَ أنْ تَمْضِيَ إلى فرعون قلتَ: {وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَانًا} [القصص: 34]، وقلت: {فَأَرْسِلْهُ مَعِى} [القصص: 34]، وقلت حين مضيتَ إلى سماع كلام الحق: {أخْلُفْنِى في قَوْمِى} [الأعراف: 142] فما اكتفيت بأَنْ لم تستصحبني. وخَلَّفْتَنِي! وقد عَلِمْتَ أَني بريءُ الساحةِ مما فعلوا فأخذتَ بلحيتي وبرأسي... ألم ترضَ بما أنا فيه حتى تزيدني حَرْيًا على حَرْي؟!.... لو قال ذلك لكان مَوْضِعَه، ولكنْ لِحلْمِه، ولِعِلْمِه- بأنَّ ذلك كُلَّه حُكْمُ ربِّهم- فقد قابَلَ كلَّ شيءٍ بالرضا.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)}.
سأل موسى كلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ آخر، وإن معاتبته مع قومه، ومطالبته لأخيه، وتَغَيُّرَه في نَفْسِه، واستيلاَءَ الغضب عليه- لم يغيِّرْ التقدير، ولم يُؤَخِّرْ المحكوم.
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}.
عَلِمْتُ ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيتُ جبريلَ، فَقَبضْتُ الترابَ من موضع حافرِ دابته، وأُلقِي في رَوْعي أن ذلك سببُ حياةِ العجل فطرحتُها في جوفه... هكذا زَيَّنَتْ لي نفسي فاتَّبَعْتُ هواها.
ثم كان هلاكُه... لئلا يأْمَنَ أحدٌ خفي مَكْرِ التقدير، ولا يركنَ إلى ما في الصورة من رِفْقٍ فَلَعَلَّه- في الحقيقة- يكون مكرًا، ولقد أنشدوا:
فأَمِنتُه فأَتَاحَ لي من مَأْمَنِي ** مَكْرًا كذا مَنْ يَأْمَنُ الأحبابا

قوله جلّ ذكره: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ}.
لم يَخْفَ على موسى عليه السلام تأثيرُ التقدير وانفرادُ الحقِّ بالإبداع، فلقد قال في خطابه مع الحق: {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155]، ولكنه لم يدع- مع ذلك- بإحلال العقوبةِ بالسامري والأمر في بابه بما يستوجبه؛ ليُعْلَمَ أن الحُكمَ في الإبداع والإيجاد- وإنْ كان لله- فالمعاتبةُ والمطالبة تتوجهان على الخَلْقِ في مقتضى التكليف، وإجراءُ الحقِّ ما يُجْرِيه ليس حُجَّةً للعبد ولا عُذْرًا له.
قوله جلّ ذكره: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَ لَنَنَسِفَنَّهُ في اليَمِ نَسْفًا}.
كلُّ ما تَعَلَّقَ به القلبُ من دون الله يَنْسِفُه الحقُّ- سبحانه بمُجِبِّه ولهذا يُلْقي الأصنامَ غدًا في النار مع الكفار، وليس له جُرْمٌ، ولا عليهم تكليف، ولا لها عِلْمٌ ولا خبر... وإنما هي جماداتٌ. اهـ.

.تفسير الآيات (98- 101):

قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان، أخبرهم بالحق على وجه الحصر فقال: {إنما إلهكم} جميعًا {الله} أي الجامع لصفات الكمال؛ ثم كشف المراد من ذلك وحققه بقوله: {الذي لا إله إلا هو} أي لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره لأنه {وسع كل شيء علمًا} تمييز محول عن الفاعل، أي أحاط علمه بكل شيء، فكان على كل شيء ممكن قديرًا، فكان كل شيء إليه فقيرًا، وهو غني عن كل شيء، وجوده يباين وجود غيره، وذاته تباين ذات غيره، وصفاته تباين صفات غيره، وأما العجل الذي عبدوه فلو كان حيًا كان مثلًا في الغباوة، فلا يصلح للإلهية بوجه ولا في عبادته شيء من حق، وكان القياس على ما يتبادر إلى الذهن حيث نفى عنه العلم بقوله: {ألا يرجع إليهم قولًا} والقدرة بقوله: {ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا} أن يثبتا هنا للاله الحق، ولكنه اعتنى بإثبات العلم الواسع لاستلزامه للقدرة على كل ما يمكن أن يتعلق به، بإفادة الأسباب لشيء المراد، ومنع الموانع عنه فيكون لا محالة، ولو لم يكن كذلك لكان التخلف للجهل إما بما يفيد مقتضيًا أو يمنع مانعًا، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 188] ولا يستلزم إثبات القدرة المحيطة العلم الشامل لخروج قسم المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به.
ولما تمت هذه القصة على هذا الأسلوب الأعظم، والسبيل الأقوم، متكفلة بالدلالة على القدرة على ما وقعت إليه الإشارة من البشارة أول السورة بتكثير هذه الأمة ورد العرب عن غيهم بعد طول التمادي في العناد، والتنكب عن سبيل الرشاد، إلى ما تخللها من التسلية بأحوال السلف الصالح والتأسية، مفصلة من أدلة التوحيد والبعث، وغير ذلك من الحكم، بما يبعث الهمم، على معالي الشيم، كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع والمثال الرفيع؟ فقيل: نعم {كذلك} أي مثل هذا القص العالي، في هذا النظم العزيز الغالي، لقصة موسى ومن ذكر معه {نقص عليك} أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء؛ وأشار إلى جلالة علمه بقوله: {من أنباء} أي أخبار {ما قد سبق} من الأزمان والكوائن الجليلة، زيادة في علمك، وإجلالًا لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهابًا لحزنك، بما اتفق للرسل من قبلك وتكثيرًا لأتباعك وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة وتأكد الحجة على من عابه: {وقد ءاتيناك} من عظمتنا تشريفًا لك وتعظيمًا لقدرك {من لدنا} أي من عندنا من الأمر الشريف بمزيد خصوصيته بنا ولطيف اتصاله بحضرتنا من غيب غيبًا {ذكرا} عظيمًا جليلًا جامعًا لما أظهرناه من أمرنا في التوراة، وما ابطنّاه من سرنا في الإنجيل، وما أودعناه من سكينتنا في الزبور، مع ما خصصناه به من لطائف المزايا، وعظائم الأسرار، يعرف بمجرد تلاوته أنه من عندنا لما يُشهد له من الروح، ويُذاق له من الإخبات والسكون، ويرى له من الجلالة في الصدور مع القطع بأن أحدًا لا يقدر أن يعارضه، وضمناه تلك القصص مع ما زدنا فيه على ذلك من المواعظ والأحكام ودقائق اشارات الحقائق، متكفلًا بسعادة الدارين وحسنى الحسنيين، فمن أقبل عليه كان مذكرًا له بكل ما يريد من العلوم النافعة.
ولما اشتمل هذا الذكر على جميع أبواب الخير، فكان كل مل ليس له فيه أصل شقاور محضة وضلالًا بعيدًا، قال يقص عليه من أنباء ما يأتي كما قص من أنباء ما قد سبق: {من أعرض عنه} أي عن ذلك الذكر، وهو عام في جميع من يمكن دخوله في معنى من من العالمين {فإنه يحمل} ولما كان المراد استغراق الوقت قال: {يوم القيامة وزرًا} أي حملًا ثقيلًا من العذاب الذي سببه الوزر وهو الذنب، جزاء لإعراضه عنه واشتغاله بغيره {خالدين فيه} وجمع هنا حملًا على المعنى بعد الإفراد للفظ، تنبيهًا على العموم لئلا يغفل عنه بطول الفصل، أو يظن أن الجماعة يمكنهم المدافعة، ويمكن أن يراد بالوزر الحمل الثقيل من الإثم، ويكون الضمير في {فيه} للعذاب المسبب عنه فيكون استخدامًا كقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

ولما كانوا منكرين ليوم القيامة، صرح بذكره ثانيًا مع قرب العهد، قارعًا لأسماعهم به، مجريًا له إجراء ما هو به جدير من أنه متحقق لا مرية فيه فقال: {وساء} أي وبئس؛ وبين أصحاب السوء فقال: {لهم} أي ذلك الحمل {يوم القيامة حملًا}. اهـ.