فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنهم يسألونه عن الجبال، وأمره أن يقول لهم: إن ربه ينسفها نسفًا، وذلك بأن يقلعها من أصولها، ثم يجعلها كالرمل المتهايل الذي يسيل، وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا.
واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه. فبين أنه ينزعها من أماكنها. ويحملها فيدكها دكًا. وذلك في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 13-14].
ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض. وذلك في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 87-88]، وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] الآية، وقوله: {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 3]، وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْرًا وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} [الطور: 9-10].
ثم بين أنه يفتنها ويدقها كقوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} [الواقعة: 5] أي فتت حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك، وقوله: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14].
ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل، وكالعهن المنفوش؟ وذلك في قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيبًا مَّهِيلًا} [المزمل: 14]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} [المعارج: 8-9] في المعارج، والقارعة. والعهن: الصوف المصبوغ. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته.
كأن فتات العهن في كل منزل ** نزلن به حب الفنا لم يحطم

ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} [الواقعة: 5-6] ثم بين أنها تصير سرابًا، وذلك في قوله: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} وقد بين في موضع آخر: أن السراب لا شيء. وذلك قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] وبين أنه ينسفها نسفًا في قوله هنا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفا}.
تنبيه:
جرت العادة في القرآن: أن الله إذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ} قال له {قُلْ} بغير فاء. كقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح} [الإسراء: 85] الآية، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] الآية، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 215] الآية، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} [المائدة: 4] الآية، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] إلى غير ذلك من الآيات، أما في آية طه هذه فقال فيها: {فَقُلْ يَنسِفُهَا} بالفاء. وقد أجاب القرطبي رحمه الله عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} أي عن حال الجبال يوم القيامة، فقل. جاء هذا بفاء، وكل سؤال في القرآن {قل} بغير فاء إلا هذا. لأن المعنى: إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت، سألوا عنها النَّبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال. فلذلك كان بغير فاء. وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه- انتهى منه. وما ذكره يحتاج إلى دليل، والعلم عند الله تعالى.
{فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}.
الضمير في قوله: {فَيَذَرُهَا} فيه وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر. ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45]، وقوله: {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61] فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر. وقد بينا شواهد ذلك من العربية والقرآن بإيضاح في سورة النحل فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
والثاني أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال. والمعنى: فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعًا صفصفًا. والقاع: المستوى من الأرض. وقيل: مستنقع الماء. والصفصف: المستوى الأملس الذي لا نبات فيه ولا بناء، فإنه على صف واحد في استوائه. وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشى:
وكم دون بيتك من صفصف ** ودكداك ومل وأعقادها

ومنه قول الآخر:
وملمومة شهباء لو قذفوا بها ** شماريخ من رضوى إذًا عاد صفصفا

وقوله: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا} أي لا اعوجاج فيها ولا أمت. والأمت: النتوء اليسير. أي ليس فيها اعوجاج ولا ارتفاع بعضها على بعض، بل هي مستوية، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد:
فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية ** في كافر ما به أمت ولا شرف

وقول الآخر:
فأبصرت لمحة من رأس عكرشة ** في كافر ما به أمت ولا عوج

والكافر في البيتين: قيل الليل. وقيل المطر، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع والانحدار في الأرض.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا. العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان. والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟
قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون. وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأي المهندسين فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه: عوج بالكسر، والأمت: النتوء اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت. انتهى منه. وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره، والعلم عند الله تعالى.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}.
قوله: {يَوْمَئِذ} أي يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي. والداعي: هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب. قال بعض أهل العلم: يناديهم أيتها العظام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء، فيسمعون الصوت ويتبعونه. ومعنى {لاَ عِوَجَ لَهُ}: أي لا يحيدون عنه، ولا يميلون يمينًا ولا شمالًا. وقيل: لا عوج لدعاء الملك عن أحد، أي لا يعدل بدعائه عن أحد، بل يدعوهم جميعًا. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب، وعدم عدولهم عنه بينه في غير هذا الموضع، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 6-8] والإهطاع: الإسراع: وقوله تعالى: {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} [ق: 41-42]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} أي خفضت وخفتت، وسكنت هيبة لله، وإجلالًا وخوفًا {فَلاَ تَسْمَعُ} في ذلك اليوم صوتًا عاليًا، بل لا تسمع {إِلاَّ هَمْسًا} أي صوتًا خفيًا خافتًا من شدة الخوف. أو {إِلاَّ هَمْسًا} أي إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر- والهمس يطلق في اللغة على الخفاء، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام. كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات، ومنه قول الراجز:
وهن يمشين بنا هميسا ** إن تصدق الطير ننك لميسا

وما ذكره جل وعلا هنا أشار له في غير هذا الموضع، كقوله: {رَّبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 37-38]. وقوله هنا: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة} [طه: 109] الآية، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في مريم وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)}.
لما جرى ذكر البعث ووصف ما سينكشف للذين أنكروه من خطئهم في شبهتهم بتعذر إعادة الأجسام بعد تفرق أجزائها ذكرت أيضًا شبهة من شبهاتهم كانوا يسألون بها النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت لا سؤال استهداء، فكانوا يحيلون انقضاء هذا العالم ويقولون: فأيْن تكون هذه الجبال التي نراها.
وروي أنّ رجلًا من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهم أهل جبال لأن موطنهم الطائف وفيه جبل كَرَى.
وسواء كان سؤالهم استهزاء أم استرشادًا، فقد أنبأهم الله بمصير الجبال إبطالًا لشبهتهم وتعليمًا للمؤمنين.
قال القرطبي: جاء هنا أي قوله: {فَقُلْ يَنسِفُهَا} بفاء وكل سؤال في القرآن قل أي كل جواب في لفظ منه مادة سؤال بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم أنّهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال.
وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال اه.
وأكد {ينسفها نسفًا} لإثبات أنه حقيقة لا استعارة.
فتقدير الكلام: ونحشر المجرمين يومئذ زرقًا... إلى آخره، وننسف الجبال نسفًا، فقل ذلك للذين يسألونك عن الجبال. والنسف: تفريق وإذراء، وتقدم آنفًا. والقاع: الأرض السهلة. والصفصف: الأرض المستوية التي لا نتوء فيها.
ومعنى {يذرها قاعًا صفصفًا} أنها تندك في مواضعها وتسوى مع الأرض حتى تصير في مستوى أرضها، وذلك يحصل بزلزال أو نحوه، قال تعالى: {إذا رُجّت الأرض رجًّا وبُسّت الجبال بسًّا فكانت هباء منبثًّا} [الواقعة: (4) 6].
وجملة {لا ترى فيها عِوَجًا ولا أمْتًا} حال مؤكدة لمعنى {قَاعًا صَفصفًا} لزيادة تصوير حالة فيزيد تهويلها. والخطاب في {لا ترى فيها عوجًا} لغير معين يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم سائليه.
والعوج بكسر العين وفتح الواو: ضد الاستقامة، ويقال: بفتح العين والواو كذلك فهما مترادفان على الصحيح من أقوال أئمة اللّغة.
وهو ما جزم به عمرو واختاره المرزوقي في شرح الفصيح. وقال جماعة: مكسورُ العين يجري على الأجسام غير المنتصبة كالأرض وعلى الأشياء المعنوية كالدين.
ومفتوحُ العين يوصف به الأشياء المنتصبة كالحائط والعصا، وهو ظاهر ما في لسان العرب عن الأزهري.
وقال فريق: مكسور العين توصف به المعاني، ومفتوح العين توصف به الأعيان.
وهذا أضعف الأقوال.
وهو منقول عن ابن دريد في الجمهرة وتبعه في الكشاف هنا، وكأنه مال إلى ما فيه من التفرقة في الاستعمال، وذلك من الدقائق التي يميل إليها المحققون.
ولم يعرج عليه صاحب القاموس، وتعسف صاحب الكشاف تأويل الآية على اعتباره خلافًا لظاهرها.
وهو يقتضي عدم صحة إطلاقه في كل موضع.
وتقدم هذا اللّفظ في أول سورة الكهف فانظره.
والأمْت: النتوء اليسير، أي لا ترى فيها وهدة ولا نتوءًا ما.
والمعنى: لا ترى في مكان فسْقها عوجًا ولا أمتًا.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}.
جملة {يتبعون الدّاعي} في معنى المفرعة على جملة {يَنسِفُهَا} [طه: 105].
و{يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق ب {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}.
وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم، وليكون تقديمه قائمًا مقام العَطف في الوصل، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربّك الجبال، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك.
والداعي، قيل: هو المَلك إسرافيل عليه السلام يدعو بنداء التسخير والتكوين، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعوّ إليه.
وقيل: الداعي الرسول، أي يتبع كلّ قوم رسولهم.
و{عِوَجَ لَهُ} حال من {الدَّاعِيَ}.
واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجْل، أي لا عوج لأجل الداعي، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صَوبه.
ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يرَاد بالعوج الباطل تعريضًا بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العِوج كقولهم {إن تتبعون إلاّ رجلًا مسحورًا} [الفرقان: 8]، ونحو ذلك من أكاذيبهم، كما عُرض بهم في قوله تعالى: {الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا} [الكهف: 1].
فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العِوج.
وبيْن قوله: {لا ترى فيها عوجًا} [طه: 107] وقوله: {لا عِوَج له} مراعاة النظير، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال: {فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 14] كذلك جعل سير النّاس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة.
والخشوع: الخضوع، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع؛ فمظهر الخشوع في الصوت: الإسرار به، فلذلك فرع عليه قوله: {فلا تسمع إلاّ همسًا}.
والهمس: الصوت الخفيّ.
والخطاب بقوله: {لا ترى فيها عوجًا} وقوله: {فلا تسمع إلا همسًا} خطاب لغير معين، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع.
وجملة {وخَشَعَتتِ الأصوَاتُ} في موضع الحال من ضمير {يتّبعون} وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره، وهذا الخشوع من هول المقام.
وجملة {يومئذ لا تنفع الشفاعة} كجملة {يومئذ يتبعون الداعي} في معنى التفريع على {وخشعت الأصوات للرحمن}، أي لا يتكلّم الناس بينهم إلاّ همسًا ولا يجرؤون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه.
والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلاّ بإذنه، وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.
واستثناء {مَن أذِنَ لهُ الرحمن} من عموم الشفاعة باعتبار أنّ الشفاعة تقتضي شافعًا، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلًا، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.
واللاّم في {أذِنَ لهُ} لام تعدية فِعل {أَذِنَ}، مثل قوله: {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} [الأعراف: 123].
وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم «فيقال لي: سلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشفّع».
وقوله: {ورضِيَ له قولًا} عائد إلى {مَن أذن له الرّحمن} وهو الشافع.
واللاّم الداخلة على ذلك الضمير لام التّعليل، أي رضي الرحمانُ قولَ الشّافع لأجل الشافع، أي إكرامًا له كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته، فصار الإذن بالشّفاعة وقبولُها عنوانًا على كرامة الشافع عند الله تعالى.
والمجرور متعلق بفعل {رضي}.
وانتصب {قولًا} على المفعولية لفعل رضي لأن رضي هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء.
وجملة {يعلَمُ ما بينَ أيديهِم وما خلفهم} مستأنفة بيانية لجواب سؤال من قد يسأل بيان ما يوجب رضى الله عن العبد الذي يأذن بالشفاعة فيه.
فبُيّن بيانًا إجماليًا بأن الإذن بذلك يجري على ما يقتضيه عِلم الله بسائر العبيد وبأعمالهم الظاهرة، فعبر عن الأعمال الظاهرة بما بَيْن أيديهم لأنّ شأن ما بين الأيدي أن يكون واضحًا، وعبر عن السرائر بما خلفهم لأنّ شأن ما يجعل خلف المرء أن يكون محجوبًا.
وقد تقدم ذلك في آية الكرسي، فهو كناية عن الظاهرات والخفيات، أي فيأذن لمن أراد تشريفه من عباده المقربين بأن يشفع في طوائف مثل ما ورد في الحديث: «يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال حبّة من إيمان»، أو بأن يشفع في حالة خاصة مثل ما ورد في حديث الشفاعة العظمى في الموقف لجميع الناس بتعجيل حسابهم.
وجملة {ولاَ يُحِيطُونَ بهِ عِلْمًا} تذييل للتعليم بعظمة علم الله تعالى وضآلة علم البشر، نظير ما وقع في آية الكرسي. اهـ.