فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد نسمع مَنْ يسبُّ الملوك والرؤساء، ومَنْ يخوض في حقهم، وهو لا يدري أن مُلْكهم من الله، فهو سبحانه الذي ملّكهم وفوَّضهم، ولم يأخذ أحد منه مُلْكًا رَغْمًا عن الله، فلا تعترض على اختيار الله واحترم مَنْ فوَّضه الله في أمرك، واعلم أن في ذلك مصلحة البلاد والعباد، ومَنْ يدريك لعلَّ الطاغية منهم يصبح غَدًا واحدًا من الرعية.
إذن: الحق سبحانه ملَّك بعض الناس أمْر بعض: هذا يتصرف في هذا، وهذا يملك هذا لتسير حركة الكون، فإذا كانت القيامة، قال عز وجل: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] هذا هو الملْك الحق.
ومن عظمته في التعالى أنه يريحك هو سبحانه بعمله لك، فيقول لك: نَمْ مِلْءَ جفونك، فأنا لا تأخذني سِنَة ولا نوم، نَمْ فلكَ رب قيوم قائم على أمرك يرعاك ويحرسك.
ومن معاني {الملك الحق} [طه: 114] أي: الثابت الذي لا يتغير، وكُلُّ ظاهرة من ظواهر القوة في الكون تتغير إلا قوة الحق تبارك وتعالى لذلك يُلقِي سبحانه أوامره وهو واثق أنها ستُنفذ؛ لأنه سبحانه مِلكٌ حقّ، بيده ناصية الأمور كلها، فلو لم يكُنْ سبحانه كذلك، فكيف يقول للشيء: كُنْ فيكون؟ فلا يعصاه أحد، ولا يخرج عن طَوْعه مخلوق، فيقول له: كُنْ فلا يكون.
فالحق تبارك وتعالى أنزل القرآن عربيًا، وصرَّف فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا؛ لأنه من حقه أن يكون له ذلك؛ لأنه مَلِك حق ليس له هوى فيما شرع؛ لذلك يجب أن تقبل تشريعه، فلا يطعن في القوانين إلا أن تصدر عن هوى، فإنْ قنَّن رأسمالي أعطَى الامتياز للرأسماليين، وإنْ قنَّن فقير أعطى الامتياز للفقراء، والله عز وجل لا ينحاز لأحد على حساب أحد.
وأيضًا يجب في المقنِّن أن يكون عالمًا بمستجدَّات الأمور في المستقبل، حتى لا يستدرك أحد على قانون فيُغيِّره كما يحدث معنا الآن، وتضطرنا الأحداث إلى تغيير القانون؛ لأننا ساعة شرعناه غابتْ عنا هذه الأحداث، ولم نحتط لها؛ لذلك لا استدراكَ على قانون السماء أبدًا.
وطالما أن الحق سبحانه وتعالى هو {الملك الحق} [طه: 114] فلابد أنْ يضمن للخلق أنْ يصلهم الكتاب والمنهج كما قاله سبحانه، لا تغيير فيه؛ لذلك قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
نحن الذين سنحفظه؛ لأن البشر جُرِّبوا في حِفْظ مناهج السماء، ولم يكونوا أمناء عليها، فغيَّروا في التوراة وفي الإنجيل وفي الكتب المقدَّسة، إما بأن يكتموا بعض ما أنزل الله، وإما أنْ ينسُوا بعضه، والذي ذكروه لم يتركوه على حاله بل حرَّفوه. وإنْ قُبِل منهم هذا كله فلا يُقبَل منهم أنْ يفتَرُوا على الله فيُؤلِّفون من عندهم، ويقولون: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78].
ذلك لأن الحفْظ للمنهج كان موكولًا للبشر تكليفًا، والتكليف عُرْضَة لأنْ يُطَاع، ولأن يُعْصَى، كما قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44].
أي: طلب منهم أن يحفظوها بهذا الأمر التكليفي، فعَصَوْه نسيانًا، وكتمانًا، وتحريفًا، وزيادة؛ لذلك تولّى الحق تبارك وتعالى حفْظ القرآن؛ لأنه الكتاب الخاتم الذي لا استدراكَ عليه، وضمن سبحانه للقرآن ألاَّ يُحرَّف بأيِّ وجه من أَوْجُه التحريف.
فاطمئنوا إلى أن القرآن كتاب الله الذي بين أيديكم هو كلام الله الذي جاء من علمه تعالى في اللوح المحفوظ الذي قال عنه: {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 7879].
ثم نزل به الروح الأمين، وهو مُؤتَمن عليه لم يتصرَّف فيه، ثم نزل على قلب سيد المرسلين الذي قال الله عنه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [الحاقة: 4445].
إذن: حُفِظ القرآن عِلْمًا في اللوح المحفوظ، وحُفِظ في أمانة مَنْ نزل به من السماء، وحُفِظ في مَنْ استقبله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حجةَ لنا بعد أن جمع الحق سبحانه وتعالى للقرآن كُلَّ ألوان الحفظ.
لذلك كان ولابد حين يُنزِل الله القرآن على رسوله أن يقول له: {فتعالى الله الملك الحق} [طه: 114] فليست هناك حقيقة بعد هذا أبدًا، وليس هناك شيء ثابت ثبوتَ الحق سبحانه وتعالى.
ثم يقول تعالى {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] وهذه مُقدِّمات ليطمئن رسول الله على حِفْظ القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي، فيحاول إعادته كلمة كلمة. فإذا قال الوحي مثلًا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] فيأخذ الرسول من تكرارها في سِرَّه ويُردِّدها خلف جبريل عليه السلام مخافة أنْ ينساها لشدة حِرْصه على القرآن.
فنهاه الله عن هذه العجلة {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن} [طه: 114] أي: لا تتعجل، ولا تنشغل بالتكرار والترديد، فسوف يأتيك نُضْجها حين تكتمل، فلا تَخْشَ أنْ يفوتك شيءٌ منه طالما أنني تكفَّلْتُ بحِفْظه؛ لذلك يقول له في موضع آخر: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
فاطمئن ولا تقلق على هذه المسألة؛ لأن شغلك بحفظ كلمة قد يُفوِّت عليك أخرى.
والعَجَلة أنْ تُخرِج الحدث قبل نُضْجه، كأن تقطف الثمرة قبل نُضْجها وقبل أوانها، وعند الأكل تُفَاجأ بأنها لم تَسْتَوِ بعد، أو تتعجل قَطْفها وهي صغيرة لا تكفي شخصًا واحدًا، ولو تركتها لأوانها لكانت كافية لعدة أشخاص.
والقرآن كلام في مستوى عَالٍ من البلاغة، وليس كلامًا مألوفًا له يسهُل عليه حِفْظه؛ لذلك كان حريصًا على الحِفْظ والتثبيت.
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذه المسألة: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 1618] أي: لما تكتمل الآيات فلكَ أنْ تقرأها كما تحب.
وهذه الظاهرة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، نبي ينزل عليه عدة أرباع من القرآن، أو السورة كاملة، ثم حيث يُسري عنه الوحي يعيدها كما أُنزِلتْ عليه، ولك أن تأتي بأكثر الناس قدرة على الحفظ، واقرأ عليه المدة عشر دقائق مثلًا من أي كتاب أو أي كلام، ثم اطلب منه إعادة ما سمع فلن يستطيع.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأمر الكَتبة بكتابة القرآن، ثم يمليه عليهم كما سمعه، لا يُغير منه حرفًا واحدًا، بل ويُملي الآيات في موضعها من السور المختلفة فيقول: «ضعوا هذه في سورة كذا، وهذه في سورة كذا».
ولو أن السورة نزلت كاملة مرة واحدة لكان الأمر إلى حَدٍّ ما سهلًا، إنما تنزل الآيات متفرقة، فإذا ما قرأ صلى الله عليه وسلم في الصلاة مثلًا قرأ بسورة واحدة نزلتْ آياتها متفرقة، هذه نزلت اليوم، وهذه نزلت بالأمس، وهكذا، ومع ذلك يقرؤها مُرتَّبة آية آية.
وقوله تعالى بعدها: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وخاطب النبي في آية أخرى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فالبيان من الله تعالى والتبيين من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: {مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] أي: انتظر حتى يسري عنك، لكن كيف يعرف الرسول ذلك؟ كيف يعرف أن الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي قد زالتْ؟ والصحابة يصفون حال النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه فيقولون: كنا نسمع حول رأسه كغطيط النحل، وكان جبينه يتفصد عرقًا، ويبلغ منه الجهد مبلغًا، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ برسول الله؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].
إذن: هناك آيات مادية تعرض لرسول الله عند نزول الوحي؛ لأن الوَحْي من مَلَك له طبيعته التكوينية التي تختلف وطبيعة النبي البشرية، فلكي يتم اللقاء بينهما مباشرة لابد أنْ يحدث بينهما نوعٌ من التقارب في الطبيعة، فإمّا أن يتحول الملَك من صورته الملائكية إلى صورة بشرية، أو ينتقل رسول الله من حالته البشرية إلى حالة ملائكية ارتقائية حتى يتلقّى عن الملك.
لذلك، كانت تحدث لرسول الله تغييرات كيماوية في طبيعته، هذه التغييرات هي التي تجعله يتصبَّبُ عَرَقًا حتى يقول: «زملوني زملوني» أو «دثروني دثروني» لما حدث في تكوينه من تفاعل.
فكان الوحي شاقًا على رسول الله خاصة في أوله، فأراد الحق سبحانه أنْ يُخفِّف عن رسوله هذه المشقة، وأنْ يُريحه فترة من نزول الوحي ليريحه من ناحية وليُشوِّقه للوحي من ناحية أخرى، فقال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 13] والوِزْر هو الحِمْل الثقيل الذي كان يحمله رسول الله في نزول الوحي عليه.
فلما فتر الوحي عن رسول الله شمتَ به الأعداء، وقالوا: إن ربَّ محمد قد قلاه. سبحان الله، أفي الجَفْوة تذكرون أن لمحمد ربًا؟ ألستم القائلين له: كذاب وساحر؟ والآن أصبح له رب لأنه قلاه؟
وما فهم الكفار أن فتور الوحي لحكمة عالية، أرادها ربُّ محمد، هي أنْ يرتاح نفسيًا من مشقة هذه التغيرات الكيماوية في تكوينه، وأنْ تتجدد طاقته، ويزداد شوقه للقاء جبريل من جديد، والشَّوْق إلى الشيء يُهوِّن الصعاب في سبيله. كما يسير المحب إلى حبيبه، لا تمنعه مشاقّ الطريق.
فردَّ الله على الكافر: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 15].
فنفى عن رسوله ما قاله الكفار، ثم عدَّل عبارتهم: إن ربَّ محمد قد قلاه فقال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] هكذا بكاف الخطاب؛ لأن التوديع قد يكون للحبيب.
أمَّا في قوله: {وَمَا قلى} [الضحى: 3] فلم يأْتِ هنا بكاف الخطاب حتى مع النفي، فلم يقُلْ وما قلاك؛ لأن النفي مع ضمير المخاطب يُشْعِر بإمكانية حدوث الكُره لرسول الله.
كما لو قلت: أنا لم أرَ شيخ الأزهر يشرب الخمر، أمدحتَ شيخ الأزهر بهذا القول أم ذَمَمْته؟ الحقيقة أنك ذممته؛ لأنك جعلته مظنة أن يحدث منه ذلك.
فهذا التعبير القرآني يعطي لرسول الله منزلته العالية ومكانته عند ربه عز وجل.
لكن، ما الحكمة في أن الحق تبارك وتعالى أقسم في هذه المسألة بالضحى وبالليل إذا سَجَى؟ وما صلتهما بموضوع غياب الوحي عن رسول الله؟
الله عز وجل يريد بقوله: {والضحى والليل إِذَا سجى} [الضحى: 12] أن يرد هؤلاء إلى ظاهرة كونية مُشَاهدة ومُعْتَرف بها عند الجميع، وهي أن الله خلق النهار وجعله مَحلًا للحركة والنشاط والسعي، وخلق الليل وجعله مَحَلًا للراحة والسكون، فيرتاح الإنسان في الليل ليعاود نشاطه في الصباح من جديد.
وهكذا أمر الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أجهده الوحي احتاج إلى وقت يرتاح فيه، لا لتنتهي المسألة بلا عودة، بل ليُجدِّد نشاط النبي، ويُشوِّقه للوحي من جديد؛ لذلك بشَّره بقوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] أي: انتظر يا محمد، فسوف يأتيك خير كثير.
فالحق سبحانه يُرجِعهم إلى ظواهر الكون، وإلى الطبيعة التي يعيشون عليها، فأنتم ترتاحون من عَناء النهار بسكون الليل، فلماذا تنكرون على محمد أن يرتاح من عناء الوحي ومشقته؟ وهل راحتكم في سكون الليل تعني دوام الليل وعدم عودة النهار؟
وقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] هذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم للاستزادة من العلم، فما دُمْتَ أنت يا رب الحافظ فزِدْني منه، ذلك لأن رسول الله سيحتاج إلى علم تقوم عليه حركة الحياة من لَدُنْه إلى أن تقوم الساعة، عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة، فلابد له أنْ يُعَدَّ الإعدادَ اللازم لهذه المهمة. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}.
التفسير:
هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في البقرة وفي الأعراف وفي يونس ومعنى {فاضرب لهم طريقًا} إجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهمًا وضرب اللبن عمله أو أراد بين لهم طريقًا {في البحر} بالضرب بالعصا حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق. واليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال: ناقتنا يبس إذا جف لبنها. والدرك. والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. وفي {لا تخشى} إذا قرئ {لا تخف} أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله: {ولا تظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] وأن يكون كقول الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيًا

أراد لم تر لأن ما قبله:
وتضحك مني شيخة عبشمية

قلت: لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة في الآية {فأتبعهم فرعون} الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في يونس {فغشيهم} أي علاهم ورهقهم {من اليم ما غشيهم} وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار. ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة الله ومشيئته. وقوله: {وما هدى} تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 38] ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل، ويجوز أن يكون خطابًا لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم. {كلوا} من تتمة القول. وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب. ومن قرأ {فيحل} بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم: حل الدين يحل إذا وجب أداؤه، ومن قرأ بضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجة من العقوبات والمثلات. ومعنى {هوى} هلك وأصله السقوط من مكان عالٍ كالجبل. وقيل: هوى أي وقع في الهاوية.
سؤال: كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التوبة والإيمان والعمل الصالح، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب؟ وأيضًا ما معنى قوله: {ثم اهتدى} بعد الأمور المذكور والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحًا. وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان. والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 20] ومعنى {ثم} الدلالة على تباين المرتبتين، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل:
لكل إلى شأو العلى حركات ** ولكن عزيز في الرجال ثبات

ونظير هذا العطف قوله: {أهلكناها فجاءها بأسنا} [الأعراف: 4] وقد مر البحث فيه. ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقًا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الل تعالى تقدمه قائلًا {وما أعجلك عن قومك} أيّ شيء عجل بك عنهم؟ فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله: {هم أولاء على أثري} ولم يكن جميع قومه على أثره. قال جار الله: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين: أحدهما إنكار العجلة في نفسها، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال: {وعجلت إليك رب لترضى} أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة. وقيل: لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفًا من العقاب فتحير في الجواب {قال فإنا قد فتنا قومك} يعني جميع قومه الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفًا. يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا: قد أكملنا العدة. ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه {إنا قد فتنا قومك}؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقًا للوقوع، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه.