فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} إلى قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}.
الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على حادث تحويل القبلة، والملابسات التي أحاطت به، والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته والأقاويل التي أطلقوها من حوله؛ ومعالجة آثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين وفي الصف المسلم على العموم.
ولا توجد رواية قطعية في هذا الحادث، كما أنه لا يوجد قرآن يتعلق بتاريخه بالتفصيل. والآيات الخاصة به هنا تتعلق بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وكان هذا في المدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا من الهجرة.
ومجموع الروايات المتعلقة بهذا الحادث يمكن أن يستنبط منها- بالإجمال- أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة- وليس في هذا نص قرآني- وأنهم بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول صلى الله عليه وسلم يرجح أنه أمر غير قرآني. ثم جاء الأمر القرآني الأخير: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوكم شطره}.. فنسخه.
وعلى أية حال فقد كان التوجه إلى بيت المقدس- وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى- سببًا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام، إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول، بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليل على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة؛ وأنهم هم الأصل، فأولى بمحمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام!
وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقًا على المسلمين من العرب، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام؛ وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم. وزاد الأمر مشقة ما كانوا يسمعونه من اليهود من التبجح بهذا الأمر، واتخاذه حجة عليهم!
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء متجهًا إلى ربه، دون أن ينطق لسانه بشيء، تأدبًا مع الله، وانتظارًا لتوجيهه بما يرضاه.
ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}.
وتقول الروايات: إن هذا كان في الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة، وإن المسلمين حينما سمعوا بتحويل القبلة، كان بعضهم في منتصف صلاة، فحولوا وجوهم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة.
عندئذ انطلقت أبواق- يهود وقد عز عليهم أن يتحول محمد صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة عن قبلتهم، وأن يفقدوا حجتهم التي يرتكنون إليها في تعاظمهم وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم- انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم بذور الشك والقلق في قيادتهم وفي أساس عقيدتهم.
قالوا لهم: إن كان التوجه- فيما مضى- إلى بيت المقدس باطلًا فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة؛ وإن كانت حقًا فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل، وضائعة صلاتكم إليه كلها.. وعلى أية حال فإن هذا النسخ والتغيير للأوامر- أو للآيات- لا يصدر من الله، فهو دليل على أن محمدًا لا يتلقى الوحي من الله!
وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي من مراجعة ما نزل من القرآن في هذا الموضوع، منذ قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها}- وقد استغرق درسين كاملين في الجزء الأول- ومن مراجعة هذا الدرس في هذا الجزء أيضًا. ومن التوكيدات والإيضاحات والتحذيرات التي سندرسها فيما يلي تفصيلًا عند استعراض النص القرآني.
أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة بهم يتجهون إليها. فقد كان هذا حادثًا عظيمًا في تاريخ الجماعة المسلمة، وكانت له آثار ضخمة في حياتها.
لقد كان تحويل القبلة أولًا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}.. فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعًا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعًا مجردًا من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازًا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ؛ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد.
حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصًا لله، وليكون تراثًا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولًا منهم بالإسلام، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته.
كما مر في درس: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}. في الجزء الماضي.
ولقد كان الحديث عن المسجد الحرام: بنائه وعمارته، وما أحاط بهما من ملابسات؛ والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته، وعهده ووصيته.. كان هذا الحديث الذي سلف في هذه السورة خير تمهيد للحديث عن تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد هذه الفترة. فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ودعوا عنده ذلك الدعاء الطويل.. يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعي المنطقي مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه. فهو الاتجاه الحسي المتساوق مع الاتجاه الشعوري، الذي ينشئه ذلك التاريخ.
لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين؛ وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده، كما عهد به يعقوب- وهو إسرائيل- ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين.
ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام.. فهو تراث لهما، يرثه من يرثون عهد الله إليهما.. والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل ولفضل الله عليهما؛ فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة.
فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق، وبيناها فيما سبق. فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم- وهو الإسلام- فيشاركوا في هذه الوراثة.. الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه. تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم. لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة. حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعًا.
إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد؛ والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة. وهذه كتلك لابد من التميز فيها والاختصاص. وقد يكون الأمر واضحًا فيما يختص بالتصور والاعتقاد؛ ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة.. هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة.
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها.. ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئًا من التعصب الضيق، أو شيئًا من التعبد للشكليات ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة، وإدراكًا أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار.
إن في النفس الإنسانية ميلًا فطريًا- ناشئًا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب- إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.
فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلًا ظاهرًا تدركه الحواس؛ وبذلك يتم التعبير عنها. يتم في الحس كما تم في النفس. فتهدأ حينئذ وتستريح؛ وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغًا كاملًا؛ وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي. ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلًا ظاهرًا: قيامًا واتجاهًا إلى القبلة وتكبيرًا وقراءة وركوعًا وسجودًا في الصلاة. وإحرامًا من مكان معين ولباسًا معينًا وحركة وسعيًا ودعاء وتلبية ونحرًا وحلقًا في الحج. ونية وامتناعًا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص.
ولقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادت بالمنحرفين عن الطريق السليم. فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر، ومن نجوم وشمس وقمر، ومن حيوان وطير وشيء.. حين أعوزهم أن يجدوًا متصرفًا منسقًا للتعبير الظاهر عن القوى الخفية.. فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة. فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته.. بقلبه وحواسه وجوارحه.. فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان؛ وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان!
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه.. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛ كما أنه بدوره ينشئ شعورًا بالامتياز والتفرد.
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصبًا ولا تمسكًا بمجرد شكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات. كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة. وهذه البواعث هي التي تفرق قومًا عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورًا عن تصور، وضميرًا عن ضمير، وخلقًا عن خلق، واتجاهًا في الحياة كلها عن اتجاه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج على جماعة فقاموا له «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها».
وقال صلوات الله وسلامه عليه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله».
نهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك. ونهى عن تشبه في قول أو أدب.. لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورًا عن تصور، ومنهجًا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة.
ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض. نهى عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض. فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين. والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية؛ فينبغي لها أن تستمد تقاليدها- كما تستمد عقيدتها- من المصدر الذي اختارها للقيادة.. والمسلمون هم الأعلون. وهم الأمة الوسط. وهم خير أمة أخرجت للناس. فمن أين إذن يستمدون تصورهم ومنهجهم؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم؟ إلا يستمدوها من الله فهم سيستمدونها من الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه!
ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور، وأقوم منهج في الحياة. فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه. وما كان تعصبًا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر؛ وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر؛ وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى. فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله، والوحدة في الأرفع من التصور، والوحدة في الأفضل من النظام، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله، والتردي في مهاوي الجاهلية.. ليس متعصبًا أو هو متعصب. ولكن للخير والحق والصلاح!
والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه. إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة. فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز. رمز للتميز والاختصاص. تميز التصور، وتميز الشخصية، وتميز الهدف، وتميز الاهتمامات، وتميز الكيان.
والأمة المسلمة- اليوم- بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعًا، وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعًا، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعًا، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعًا.. الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة؛ والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة؛ والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور؛ والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها.
إن هذه العقيدة منهج حياة كامل. وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة، الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله.
وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وفي الراية والعلامة. وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله. وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام!
ثم نعود من هذا الاستطراد بمناسبة تحويل القبلة لنواجه النصوص القرآنية بالتفصيل: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم}.
من السياق القرآني ومن سياق الأحداث في المدينة يتضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود. فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا. وهم الذين أثاروا هذا التساؤل: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي المسجد الأقصى.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل على أجداده- أو قال أخواله- من الأنصار؛ وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرًا؛ أو سبعة عشر شهرًا؛ وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر؛ وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون. فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، فنزلت: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} فقال السفهاء- وهم اليهود- {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}.
وسنلاحظ أن علاج القرآن لهذا التساؤل ولتلك الفتنة يشي بضخامة آثار تلك الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف المسلم في ذلك الحين.
والذي يظهر من صيغة التعبير هنا: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}.
أن هذا كان تمهيدًا لإعلان تحويل القبلة في المقطع التالي في هذا الدرس، وأخذًا للطريق على الأقاويل والتساؤلات التي علم الله أن السفهاء سيطلقونها.. أو كان ردًا عليها بعد إطلاقها،- كما جاء في الحديث السابق- اتخذ هذه الصيغة للإيحاء بأن ما قالوه كان مقدرًا أمره، ومعروفة خطته، ومعدة إجابته.
وهي طريقة من طرق الرد أعمق تأثيرًا.
وهو يبدأ في علاج آثار هذا التساؤل، والرد عليه بتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يواجههم به، ويُقُّر به الحقيقة في نصابها؛ وفي الوقت نفسه يصحح التصور العام للأمور.
{قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
إن المشرق لله والمغرب لله. فكل متجه فهو إليه في أي اتجاه. فالجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها. إنما يفضلها ويخصصها اختيار الله وتوجيهه.. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فإذا اختار لعباده وجهة، واختار لهم قبلة، فهي إذن المختارة. وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم.
بذلك يقرر حقيقة التصور للأماكن والجهات، وحقيقة المصدر الذي يتلقى منه البشر التوجهات، وحقيقة الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه إلى الله في كل حال.
ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية، وعن دورها الأساسي في حياة الناس؛ مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة، وشخصيتها الخاصة؛ وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا}.
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا فتقيم بينهم العدل والقسط؛ وتضع لهم الموازين والقيم؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا.
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
{أمة وسطًا}.. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
{أمة وسطًا}.. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدئم الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
{أمة وسطًا}.. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزاج من هذا وذاك.
{أمة وسطًا}.. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
{أمة وسطًا}.. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
{أمة وسطًا}.. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى؛ وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمة تلك وظيفتها وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولابد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة.
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها بمناسبة تحويلهم الآن عنها: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}.
ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة.
إنه يريد لها أن تخلص له؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ومن كل شعار اتخذته، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر.
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصبية الجنس، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس.. والله يريده أن يكون بيت الله المقدس، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته.
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة، ووجههم إلى بيت المقدس، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولًا؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول صلى الله عليه وسلم ثانيًا، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة.
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة.. إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكًا؛ ولا تقبل شعارًا غير شعارها المفرد الصريح؛ إنها لا تقبل راسبًا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور. جل أم صغر. وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}.. والله سبحانه يعلم كل ما يكون قبل أن يكون. ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس، حتى يحاسبهم عليه ويأخذهم به فهو- لرحمته بهم- لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم.
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس عُلقة.. أمر شاق، ومحاولة عسيرة.. إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}.
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع حيثما وجهها الله تتجه وحيثما قادها رسول الله تقاد.
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم. إنهم ليسوا على ضلال وإن صلاتهم لم تضع، فالله سبحانه لا يعنت العباد، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها: {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم}.
إنه يعرف طاقتهم المحدودة، فلا يكلفهم فوق طاقتهم؛ وإنه يهدي المؤمنين، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان، حين تصدق منهم النية، وتصح العزيمة. وإذا كان البلاء مظهرًا لحكمته، فاجتياز البلاء فضل رحمته: {إن الله بالناس لرءوف رحيم}.
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ويذهب عنها القلق، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين.
بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمر القبلة؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم.. في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ووقايتها من البلبلة والفتنة: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذًا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.
وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرًا مصورًا لحالة النبي صلى الله عليه وسلم: {قد نرى تقلب وجهك في السماء}.
وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها. بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس.. فكان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء، ولا يصرح بدعاء، تأدبًا مع ربه، وتحرجًا أن يقترح عليه شيئًا أو أن يقدم بين يديه شيئًا.
ولقد أجابه ربه إلى ما يرضيه. والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود: {فلنولينك قبلة ترضاها}.
ثم يعين له هذه القبلة التي علم سبحانه أنه يرضاها: {فول وجهك شطر المسجد الحرام}.
قبلة له ولأمته من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}.
من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعًا قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها.. قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها. فتحس أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد، منهج ينبثق من كونها جميعًا تعبد إلهًا واحدًا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.
وهكذا وحد الله هذه الأمة. وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها. وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات. ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.. إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة!
ثم.. ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة؟
{وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم}.
إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم. جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين. وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه.
ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه. فلا على المسلمين منهم؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم: {وما الله بغافل عما يعملون}.
إنهم لن يقتنعوا بدليل، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك}.
فهم في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض.. وإن كثيرًا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة.. وهذا وهم إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل. عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجهًا لوجه، ويحاربونه من وراء ستار. ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار.. وهم دائمًا عند قول الله تعالى لنبيه الكريم: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك}.
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الإعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له، يقرر حقيقة شأن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه الطبيعي: {وما أنت بتابع قبلتهم}.
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلًا. واستخدام الجملة الاسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر.
وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه. فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها؛ ولن تتبع منهجًا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة.. هذا شأنها ما دامت مسلمة؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء.. إنما هي دعوى.
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض؛ فهم ليسوا على وفاق، لأن الأهواء تفرقهم: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض}.
والعداء بين اليهود والنصارى، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء.
وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب، وقد علم الحق في الأمر، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذًا لمن الظالمين}.
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود.
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم وبهذه المواجهة والتحذير. {إنك إذًا لمن الظالمين}.
إن الطريق واضح، والصراط مستقيم.. فإما العلم الذي جاء من عند الله. وإما الهوى في كل ما عداه. وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب. وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد.
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة تستدعي هذه الشدة في التحذير، وهذا الجزم في التعبير.
وبعد هذه الوقفة العابرة نعود إلى السياق؛ فنجده لا يزال يقرر معرفة أهل الكتاب الجازمة بأن الحق في هذا الشأن وفي غيره هو ما جاء به القرآن، وما أمر به الرسول. ولكنهم يكتمون الحق الذي يعلمونه، للهوى الذي يضمرونه: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}.
ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة، وهي مثل يضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه.. فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه هذا الذي جاء به في شأن القبلة، وكان فريق منهم يكتمون الحق الذي يعلمونه علم اليقين.. فليس سبيل المؤمنين إذن أن يتأثروا بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب.
وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئًا في أمر دينهم، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين.
وهنا يوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب: {الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما امترى يومًا ولا شك. وحينما قال له ربه في آية أخرى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذي يقرأون الكتاب من قبلك}. قال: «لا أشك ولا أسأل».
ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه صلى الله عليه وسلم يحمل إيحاء قويًا إلى من وراءه من المسلمين. سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم.
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير؛ ونحن- في بلاهة منقطعة النظير- نروح نستفتي المستشرقين- من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار- في أمر ديننا، ونتلقى عنهم تاريخنا، ونأمنهم على القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا، وسيرة أوائلنا؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير.
إن هذا القرآن قرآننا. قرآن الأمة المسلمة. وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره. وأهل الكتاب هم أهل الكتاب، والكفار هم الكفار، والدين هو الدين!
ونعود إلى السياق فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة. فلكل فريق وجهته، وليستبق المسلمون إلى الخير لا يشغلهم عنه شاغل، ومصيرهم جميعًا إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف: {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا إن الله على كل شيء قدير}.
وبهذا يصرف الله المسلمين عن الإنشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل.. يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات. مع تذكر أن مرجعهم إلى الله، وأن الله قدير على كل شيء، لا يعجزه أمر، ولا يفوته شيء.
إنه الجد الذي تصغر إلى جواره الأقاويل والأباطيل.
ثم يعود فيؤكد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون}.
والأمر في هذه المرة يخلو من الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم، ويتضمن الاتجاه إلى المسجد الحرام حيثما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحيثما كان، مع توكيد أنه الحق من ربه.
ومع التحذير الخفي من الميل عن هذا الحق. التحذير الذي يتضمنه قوله: {وما الله بغافل عما تعملون}.. وهو الذي يشي بأنه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين تقتضي هذا التوكيد وهذا التحذير الشديد.
ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد، وهو إبطال حجة أهل الكتاب، وحجة غيرهم ممن كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم. أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذين يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل!
{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.
وهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا وبيان لعلة هذا التوجيه: {لئلا يكون للناس عليكم حجة}.
وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والنطق، إنما ينساقون مع العناد واللجاج. فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم، فسيظلون إذن في لجاجهم. فلا على المسلمين منهم: {فلا تخشوهم واخشوني}.
فلا سلطان لهم عليكم، ولا يملكون شيئًا من أمركم، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة.. ومع التهوين من شأن الذين ظلموا، والتحذير من بأس الله، يجيء التذكير بنعمة الله، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة، حين تستجيب وتستقيم: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.
وهو تذكير موح، وإطماع دافع، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم.
ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم، يدركونها في أنفسهم، ويدركونها في حياتهم، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود.
كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته. فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديدًا واضحًا عميقًا.
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة، وإلى القوة والمنعة، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم.
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم.. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع، الواضح التصور والاعتقاد، المستقيم القيم والموازين.
فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم.
فإذا قال الله لهم: {ولأتم نعمتي عليكم}.. كان في هذا القول تذكير موح، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم.
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدًا في كل مرة.. في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه.. وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة.. وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة.
ولكننا- مع هذا- نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد، وهذا البيان، وهذا التعليل، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل، وأثرها في بعض القلوب والنفوس. هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين!
واستطرادًا مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم، بإرسال هذا النبي منهم إليهم، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين؛ ويربطهم سبحانه به مباشرة في نهاية الحديث: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}.
والذي يلفت النظر هنا، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل. دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت، رسولًا منهم، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم. وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثًا إنما هو قديم؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد.
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم}.
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم، وأن يختار الرسول الأخير منكم، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم!
{يتلو عليكم آياتنا}.
فما يتلو عليكم هو الحق.. والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله. وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته.
فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته، ويتحدث إليهم بقوله، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه سبحانه منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام، وما يستقبل هذا الإفضال؟
{ويزكيكم}.
ولولا الله ما زكي منهم من أحد، ولا تطهر ولا ارتفع. ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهرهم. يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة. والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديمًا وحديثًا يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيرًا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب.. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر، ويلطخ المجتمع والحياة. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور.
{ويعلمكم الكتاب والحكمة}.
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه، وهي الحكمة، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات.. وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكاهم بآيات الله.
{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}.
وكان ذلك حقًا في واقع الجماعة المسلمة، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء. فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة، خبيرة بصيرة عالمة.. وكان هذا القرآن- مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن- هو مادة التوجيه والتعليم. وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن- هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة: القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرًا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل.
وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا القرآن ولو جعلته منهجًا للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان!
وفي آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلًا آخر، وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره.
يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه.
{فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}.
يا للتفضل الجليل الودود! الله جل جلاله. يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئًا لذكرهم له في عالمهم الصغير.. إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة.. وهم أصغر من أرضهم الصغيرة! والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير.. وهو الله العلي الكبير.. أي تفضل! وأي كرم! وأي فيض في السماحة والجود!
{فاذكروني اذكركم}.
إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه، ولا حاسب لعطاياه. الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء.
وفي الصحيح: يقول الله تعالى: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه».
وفي الصحيح أيضًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة- أو قال في ملأ خير منه- وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا، وإن دنوت مني ذراعًا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة» إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب.
وذكر الله ليس لفظًا باللسان إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثرًا ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء.
{واشكروا لي ولا تكفرون}.
والشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته. وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان.
والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر؛ وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس! والعياذ بالله!
ومناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة. وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله، والتميز بالانتساب إليه، والاختصاص بهذا الانتساب.
وهي كذلك واضحة في مجال التحذير من كيد يهود ودسها؛ وقد سبق أن الغاية الأخيرة لكل الجهود هي رد المؤمنين كفارًا. وسلبهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم.. نعمة الإيمان أكبر الآلاء التي ينعم الله بها على فرد أو جماعة من الناس. وهي بالقياس إلى العرب خاصة النعمة التي أنشأت لهم وجودًا، وجعلت لهم دورًا في التاريخ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدونها للبشرية، وكانوا بدونها ضائعين، ولولاها لظلوا ضائعين، وهم بدونها أبدًا ضائعون.
فما لهم من فكرة يؤدون بها دورًا في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها؛ وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنميها. وفكرة الإسلام برنامج حياة كامل، لا كلمة تقال باللسان بلا رصيد من العمل الإيجابي المصدق لهذه الكلمة الطيبة الكبيرة.
وتذكُّر هذه الحقيقة واجب على الأمة المسلمة ليذكره الله فلا ينساها. ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الأرض، ولا ذكر له في الملأ الأعلى. ومن ذكر الله ذكره، ورفع من وجوده وذكره في هذا الكون العريض.
ولقد ذكر المسلمون الله فذكرهم، ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة. ثم نسوه فنسيهم فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه ذليل.. والوسيلة قائمة. والله يدعوهم في قرآنه الكريم: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}. اهـ.