فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قوله: {فوسوس إليه الشيطان}.
تقدم مثله في الأعراف.
والفاء لتعقيب مضمون جملتها على مضمون التي قبلها، وهو تعقيب نسبي بما يناسب مدّة تقلب في خلالها بخيرات الجنة حتى حسده الشيطان واشتد حسده.
وتعدية فعل {وسوس} هنا بحرف إلى وباللام في سورة الأعراف (20) {فوسوس لهما الشيطان} باعتبار كيفية تعليق المجرور بذلك الفعل في قصد المتكلّم، فإنه فعل قاصر لا غنى له عن التعدية بالحرف، فتعديته بحرف إلى هنا باعتبار انتهاء الوسوسة إلى آدم وبلوغها إياه، وتعديته باللاّم في الأعراف باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما.
وجملة {قَالَ يَا آدَمِ} [طه: 117] بيان لجملة {فوسوس لهما الشيطان}.
وهذه الآية مثال للجملة المبيّنة لغيرها في علم المعاني.
وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي؛ إما بألفاظ نطق بها الشيطان سرًا لآدم لئلا يطّلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان، فيكونُ إطلاق القول عليه حقيقة؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا، فيكون إطلاق القول عليه مجازًا باعتبار المشابهة.
و{هَلْ أدُلُّكَ} استفهام مستعمل في العَرض، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته.
والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه.
والشجرة هي التي نهاه الله عن الأكل منها دون جميع شجر الجنّة، ولم يُذكر النهي عنها هنا وذكر في قصة سورة البقرة.
وهذا العرض متقدم على الإغراء بالأكل منها المحكي في قوله تعالى في سورة الأعراف (20) {قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}، ولم يدله الشيطان على شجرة الخلد بل كذبه ودله على شجرة أخرى بآية أن آدم لم يخلّد، فحصل لآدم توهم أنه إذا أكل من الشجرة التي دله عليها الشيطان أن يخلد في الحياة.
والدلالة: الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه، والدلالة على الشجرة لقصد الأكل من ثمرتها.
وسماها هنا شجرة الخلد بالإجمال للتشويق إلى تعيينها حتى يُقبِل عليها، ثم عيّنها له عقب ذلك بما أنبأ به قوله تعالى: {فأكلا منها} [طه: 121].
وقد أفصح هذا عن استقرار محبّة الحياة في جبلة البشر.
والمُلك: التحرر من حكم الغير، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرّف فيها غير مأمور لآمر.
واستعمل البِلى مجازًا في الانتهاء، لأنّ الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه.
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}.
تفريع على ما قبله وثمّ جملة محذوفة دل عليها العرض، أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة وأكلت حواء معه.
واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة.
وتقدم معنى {فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} في سورة الأعراف (22).
وقوله: {وعصى آدم ربه} عطف على {فأكلا منها}، أي أكلا معًا، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة.
وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: 6].
والغواية: ضدّ الرشد، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل، وإثبات العصيان لآدم دليل على أنه لم يكن يومئذ نبيئًا، ولأنّه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك، فالعصيان والغواية يومئذ: الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمرَ كبيرها، وإنما كان شنيعًا لأنّه عصيان أمر الله.
!
وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لِمنعها، لأنّ ذلك العالَم لم يكن عالَم تكليف.
وجملة {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} معترضة بين جملة {وعصى آدم} وجملة {قال اهبطا منها جميعًا}، لأن الاجتباء والتوبة عليه كانا بعد أن عوقب آدم وزوجه بالخروج من الجنة كما في سورة البقرة، وهو المناسب لترتب الإخراج من الجنة على المعصية دون أن يترتب على التوبة.
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل ببيان مآل آدم إلى صلاح.
والاجتباء: الاصطفاء.
وتقدم عند قوله تعالى: {واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} في الأنعام (87)، وقوله: {اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} في النحل (121).
والهداية: الإرشاد إلى النفع.
والمراد بها إذا ذكرت مع الاجتباء في القرآن النبوءة كما في هذه الآيات الثلاث. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}.
نلحظ أن الحق سبحانه اختار لعمل الشيطان اسمًا يناسب الإغراء بالشيء، وهي كلمة الوَسْوَسة هي في الأصل صوت الحليّ أي: الذهب الذي تتحلَّى به النساء، كما نقول: نقيق الضفادع، وصهيل الخيل، وخُوار البقر، ونهيق الحمير، وثغاء الشاة، وخرير الماء، وحفيف الشجر.
وكذلك الوسوسة اسم لصوت الحليّ الذي يجذب الأسماع، ويُغرِي بالتطلع إليه، وكأن الحق سبحانه يُحذِّرنا أن الشيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتزيين.
فما الذي وَسوس به إلى آدم؟
{قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120].
ونعجب لإبليس: ما دُمْت تعرف شجرة الخُلْد والملْك الذي لا يبلى، لماذا لم تأكل أنت منها وتحوز هذه الميزة؟
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}.
أي: بعد أن أكلا من هذه الشجرة ظهرتْ لهما سوءآتهما، والسَّوْأة هي العورة أي: المكان الذي يستحي الإنسان أن ينكشف منه، والمراد القُبُل والدُّبُر في الرجل والمرأة. ولكل من القُبل والدُّبر مهمة، وبهما يتخلص الجسم من الفضلات، الماء من ناحية الكُلى والحالب والمثانة عن طريق القُبل، وبقايا وفضلات الطعام الناتجة عن حركة الهَضْم وعملية الأَيْض، وهذه تخرج عن طريق الدُّبُر.
لكن، متى أحسَّ آدم وزوجه بسوءاتهما، أبعد الأكل عمومًا من شجر الجنة، أم بعد الأكل من هذه الشجرة بالذات؟
الحق تبارك وتعالى رتَّب ظهور العورة على الأكل من الشجرة التي نهاهما عنها {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [طه: 121] فقبْل الأكل من هذه الشجرة لم يعرفا عورتيهما، ولم يعرفا عملية الإخراج هذه؛ لأن الغذاء كان طاهيه ربُّه، فيعطي القدرة والحياة دون أن يخلف في الجسم أيَّ فضلات.
لكن، لما خالفوا وأكلوا من الشجرة بدأ الطعام يختمر وتحدث له عملية الهضم التي نعرفها، فكانت المرة الأولى التي يلاحظ فيها آدم وزوجه مسألة الفضلات، ويلتفتان إلى عورتيهما: ما هذا الذي يخرج منها؟
وهنا مسألة رمزية ينبغي الالتفات إليها، فحين ترى عورة في المجتمع فاعلم أن منهجًا من مناهج الله قد عُطل.
إذن: لم يعرف آدم وزوجه فضلات الطعام وما ينتج عنه من ريح وأشياء مُنفَّرة قذرة إلا بعد المخالفة، وهنا تحيَّرا، ماذا يفعلان؟ ولم يكن أمامهما إلا ورق الشجر {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [طه: 121].
أي: أخذا يلصقان الورق على عورتيهما لسترها هكذا بالفطرة، وإلا ما الذي جعل هاتين الفتحتين عورة دون غيرهما من فتحات الجسم كالأنف والفم مثلًا؟
قالوا: لأن فَتْحتيْ القُبُل والدُّبُر يخرج منهما شيء قذر كريه يحرص المرء على سَتْره، ومن العجيب أن الإنسان وهو حيوان ناطق فضَّله الله، وحين يأكل يأكل باختيار، أمّا الحيوان فيأكل بغريزته، ومع ذلك يتجاوز الإنسان الحد في مأكله ومشربه، فيأكل أنواعًا مختلفة، ويأكل أكثر من حاجته ويأكل بعدما شبع، على خلاف الحيوان المحكوم بالغريزة.
ولذلك ترى رائحة الفضلات في الإنسان قذرة مُنفّرة، ولا فائدة منها في شيء، أما فضلات الحيوان فلا تكاد تشمُّ لها رائحة، ويمكن الاستفادة منها فيجعلونها وقودًا أو سمادًا طبيعيًا. وبعد ذلك نتهم الحيوان ونقول: إنه بهيم.. إلخ.
وقوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] أي: فيما قبل النبوة، وفي مرحلة التدريب، والإنسان في هذه المرحلة عُرْضة لأنْ يصيب، ولأنْ يخطىء، فإنْ أخطأ في هذه المرحلة لا تضربه بل تُصوِّب له الخطأ. كالتلميذ في فترة الدراسة، إنْ أخطأ صوَّب له المعلم، أما في الامتحان فيحاسبه.
ومعنى: {فغوى} [طه: 121] يعني: لم يُصِبْ الحقيقة، كما يقولون لمن تاه في الصحراء غاوٍ أي: تائه. ثم تأتي المرحلة الأخرى: مرحلة العِصْمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ}.
إذن: مثَّل آدم دَوْر الإنسان العادي الذي يطيع ويعصي، ويسمع كلام الشيطان، لكن ربه شرعَ له التوبة كما قال سبحانه: {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
إذن: عصى آدم وهو إنسان عادي وليس وهو نبي كما يقول البعض.
فقوله: {ثُمَّ اجتباه} [طه: 122] هذه بداية لمرحلة النبوة في حياة آدم عليه السلام، و{ثُمَّ} تعني الترتيب مع التراخي {اجتباه} [طه: 122] اصطفاه ربه.
ولم يقل الحق سبحانه: ثم اجتباه الله، إنما {اجتباه رَبُّهُ} [طه: 122] لأن الرب المتولي للتربية والرعاية، ومن تمام التربية الإعداد للمهمة، ومن ضمن إعداد آدم لمهمته أنْ يمرَّ بهذه التجربة، وهذا التدريب في الجنة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)}.
قوله: {وكذلك أنزلناه} معطوف على قوله: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه، أي القرآن حال كونه {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} أي بلغة العرب ليفهموه {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} بينا فيه ضروبًا من الوعيد تخويفًا وتهديدًا أو كررنا فيه بعضًا منه {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي اعتبارًا واتعاظًا. وقيل: ورعًا. وقيل: شرفًا. وقيل: طاعة وعبادة؛ لأن الذكر يطلق عليها. وقرأ الحسن: {أو نحدث} بالنون، {فتعالى الله الملك الحق} لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزّه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء، أي جلّ الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، وأنه الحق أي ذو الحق {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي يتمّ إليك وحيه.
قال المفسرون: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصًا منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]. على ما يأتي إن شاء الله.
وقيل: المعنى: ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش: {من قبل أن نقضي} بالنون ونصب: {وحيه}.
{وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْمًا} أي سل ربك زيادة العلم بكتابه.
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ} اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تصريف الوعيد، أي لقد أمرناه ووصيناه، والمعهود محذوف، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة، ومعنى {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا الزمان {فَنَسِيَ} قرأ الأعمش بإسكان الياء، والمراد بالنسيان هنا: ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين.
وقيل: النسيان على حقيقته، وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه، وكان آدم مأخوذًا بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعًا عن هذه الأمة.
والمراد من الآية تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم على القول الأوّل، أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري.
واعترضه ابن عطية قائلًا بأن كون آدم مماثلًا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وقرىء: {فنسي} بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنيًا للمفعول، أي فنساه إبليس {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} العزم في اللغة: توطين النفس على الفعل والتصميم عليه، والمضيّ على المعتقد في أيّ شيء كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر.
وقيل: العزم: الصبر، أي لم نجد له صبرًا عن أكل الشجرة.
قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال: لفلان عزم، أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه {كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35].
وقيل: المعنى: ولم نجد له عزمًا على الذنب، وبه قال ابن كيسان.
وقيل: ولم نجد له رأيًا معزومًا عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، والعامل في إذ مقدّر، أي: واذكر {إِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة؛ لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازمًا بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى، ومعنى {فتشقى}: فتتعب في تحصيل ما لابد منه في المعاش كالحرث والزرع، ولم يقل: فتشقيا؛ لأن الكلام من أوّل القصة مع آدم وحده.
ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام، فقال: {إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} أي في الجنة.
والمعنى: إن لك فيها تمتعًا بأنواع المعايش وتنعمًا بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فإنه لما نفى عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له، وهكذا قوله: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى} فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الريّ ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو، يقال: ضحي الرجل يضحى ضحوًا: إذا برز للشمس فأصابه حرّها، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكدّ في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والريّ والكسوة والكنّ، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحلّ به التعب والنصب بما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو.
فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا، كما قاله كثير من المفسرين، لا شقاء الأخرى.
قال الفراء: هو أن يأكل من كدّ يديه، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصمًا: {وأنك لتظمأ} بفتح أن، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} قد تقدّم تفسيره في الأعراف في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] أي أنهى إليه وسوسته، وجملة {قَالَ يَاءادَمُ} إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال له في وسوسته؟ و{شَجَرَةِ الخلد} هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلًا {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} أي لا يزول ولا ينقضي {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سوآتهما} قد تقدّم تفسير هذا وما بعده في الأعراف.
قال الفراء: ومعنى طفقا في العربية: أقبلا، وقيل: جعلا يلصقان عليهما من ورق التين {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} أي عصاه بالأكل من الشجرة فغوى فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة.
وقيل: فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا.
وقيل: جهل موضع رشده.
وقيل: بشم من كثرة الأكل.
قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدّم ونية صحيحة، فنحن نقول: عصى آدم ربه فغوى.
انتهى.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم.
قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى:
عصى أبو العالم وهو الذي ** من طينة صوّره الله

وأسجد الأملاك من أجله ** وصير الجنة مأواه

أغواه إبليس فمن ذا أنا المس ** كين إن إبليس أغواه

{ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} أي: اصطفاه وقرّبه.
قال ابن فورك: كانت المعصية من آدم قبل النبوّة بدليل ما في هذه الآية، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية، وإذا كانت المعصية قبل النبوّة فجائز عليهم الذنوب وجهًا واحدًا {فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} أي تاب عليه من معصيته، وهداه إلى الثبات على التوبة.
قيل: وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
وقد مرّ وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} أي القرآن {ذِكْرًا} قال: حذرًا وورعًا.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان} يقول: لا تعجل حتى نبينه لك.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصًا، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فأنزل الله {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان} الآية، فوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلاَ تَعْجَلْ} الآية قال: لا تتله على أحد حتى نتمه لك.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن منده في التوحيد، والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي.
وأخرج عبد الغني، وابن سعد عن ابن عباس: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ} أن لا تقرب الشجرة {فَنَسِيَ} فترك عهدي {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} قال: حفظًا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا {فَنَسِيَ} فترك {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} يقول: لم نجعل له عزمًا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا: {إِنَّكَ لاَ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا ولا تضحى} قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد» وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«حاجّ آدم موسى قال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك، قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدّره عليّ قبل أن يخلقني»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحج آدم موسى» اهـ.