فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكًا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علمًا وعملًا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36- 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطانًا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلابد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.
والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 56- 59]، وهذا كثير في القرآن.
الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124): {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} (125) هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} (38)، وقوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ: 22]، وقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]، وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6- 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، وقوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 13- 15]، وقوله: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53].
والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} وهو لم يكن بصيرًا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} وكيف يجاب بقوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضًا: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124)، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون.
ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئًا يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.
وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عميًا بكمًا صمًّا، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.
والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانًا، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنكم محشورون إليّ حفاة عُراة» وكقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 20- 21]، ثم قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضًا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. انتهى.
السادسة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك.
قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلًا في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعدًا عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم»؛.
السابعة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائمًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
الظاهر أن ألف الاثنين في قوله: {اهبطا} راجعة إلى آدَم وحَوَّاء المذكورين في قوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [طه: 121] الآية، خلافًا لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم، وأمْرَه إياهما بالهبوط مِن الجنة المذكور في آية طه هذه جاء مُبينًا في غير هذا الموضع. كقوله في سورة البقرة: {وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [البقرة: 38]، وقوله في الأعراف: {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24]. وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن يُقال: كيف جيء بصيغة الجمع في قوله: {اهبطوا} في البقرة والأعراف وبصيغة التثنية في طه في قوله: {اهبطا} مع أنه اتَّبع صيغة التثنية في طه بصيغة الجمع في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [طه: 123] وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك: أن التثنية باعتبار آدم وحَوَّاء فقط، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما. خلافًا لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس، والجمع باعتبار معهم ذريتهما معهما، وخلافًا لمن زعم أن الجمع في قوله: {اهبطوا} مراد به آدم وحواء وإبليس والحَية. والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} لأنها غير مكلفة.
واعلم أن المفسِّرين يذكرون قِصّة الحية، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن خلقها الله، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة، فوسوس لآدَم وحوَّاء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية. فأهبط هو إلى الأرض ولُعِنَتْ هي وردت قوائمها في جوفها، وجُعِلَت العداوة بَينها وبين بني آدم، ولذلك أمروا بقتلها. وبهذه المناسبة ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة البقرة جملًا من أحكام قتل الحيات. فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها، وأسودها وأبيضها، ويرغِّب في ذلك. ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود حديثًا فيه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها. فأمرهم أن يضرموا عليها نارًا. وذكر عن علماء المالِكية أنهم خصّصوا بذلك النهي عن الإحراق بالنار، وعن أن يُعذب أحد بعذاب الله. ثم ذكر عن إبراهيم النخعي: أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثله. وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور.
ثم ذكر حديث عبدالله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال: كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه {والمرسلات عُرْفًا} [المرسلات: 1] فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجَتْ علينا حية فقال «اقْتُلُوها»، فابتدرناها لِنَقْتُلها، فسبقَتْنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وقاها الله شرَّكم كما وقاكُم شرَّها» فلم يضرم نارًا، ولا احتال في قتلها، وأجاب هو عن ذلك، بأنه يحتمل أنه لم يجد نارًا في ذلك الوقت، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية. ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود: «اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني» ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام. لحديث: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام» ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها. لحديث: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحدًا أو لا. قاله ابن نافع. ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. ثم قال: وهو الصحيح. لأن الله عزّ وجل قال: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} [الأحقاف: 29] الآية. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:«أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة» وسيأتي بكماله في سورة الجن إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
ثم قال: روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة: أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلَي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فساتأذنه يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذ عليك سلاحَك، فإنَّني أخْشَى عليك قُريظة» فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة.
فقالت له: اكفُف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة مُنطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدري أيُّهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتى. قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: أدع الله يحيه لنا: فقال: «استغفروا لأخيكم ثم قال إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرِّجوا عليها ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم: اذهبوا فادفنوا صاحبكم» ثم قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلمًا، وأن الجن قتلته به قصاصًا. لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في اعلمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سُوغ قتل نوعه شرعًا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدْوًا وانتقامًا. وقد قَتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتًا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول ولا يرون أحدًا:
قد قتلنا سيد الخز ** رج سعد بن عُباده

ورميناه بسهمين ** فلم تُخْطِ فُؤاده

وإنما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا» ليبين طريقًا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم. وروي من وجوه: أن عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قَتَلت جانًا. فأُريب في المنام أن قائلًا يقول لها: لقد قتلتِ مُسلمًا. فقالت: لو كان مُسلما لم يدخل على أزواج النَّبي صلى الله لعيه وسلم. قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصحبت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجُعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة. فتصدقت وأعتقت رقابًا. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي. وعن علقمة نحوه. ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال: قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار: وإن ظهر في اليوم مرارًا، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام.
وقيل: يكفي ثلاث مرار. لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليؤذنه ثلاثًا»، وقوله: «حرجوا عليه ثلاثًا» ولأن ثلاثًا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة أيام» وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثًا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البُناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئًا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئًا بعد فاقتلوه. ثم قال: وقد حكى ابن حبيب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ولا تظهرن علينا» انتهى كلام القرطبي ملخصًا قريبًا من لفظه.