فصل: تفسير الآيات (128- 131):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (128- 131):

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين، وأحاديث المكذبين، بسبب العصيان على الرسل، سببًا عظيمًا للاستبصار والبيان، كانوا أهلًا لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى: {أفلم يهد} أي يبين {لهم كم أهلكنا قبلهم} اي كثرة إهلاكنا لمن تقدمهم {من القرون} بتكذيبهم لرسلنا، حال كونهم {يمشون في مساكنهم} ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفًا عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعدائنا ونفعل ما شئنا! والأحسن أن لا يقدر مفعول، ويكون المعنى: أو لم يقع لهم البيان الهادي، ويكون ما بعده استئنافًا عينًا كما وقع البيان بقوله استئنافًا: {إن في ذلك} أي الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة {لآيات} عظيمات البيان {لأولي النهى} أي العقول التي من شأنها النهي عما لا ينفع فضلًا عما يضر، فإنها تدل بتواليها على قدرة الفاعل، وبتخصيص الكافر بالهلاك والمؤمن بالنجاة على تمام العلم مع عموم القدرة، وعلى أنه تعالى لا يقر على الفساد وإن أمهل- إلى غير ذلك ممن له وازع من عقله.
ولما هددهم بإهلاك الماضين، ذكر سبب التأخير عنهم، عاطفًا على ما أرشد إلى تقديره السياق، وهو مثل أن يقال: فلو أراد سبحانه لعجل عذابهم: {ولولا كلمة} أي عظيمة ماضية نافذة {سبقت} أي في الأزل {من ربك} الذي عودك بالإحسان بأنه يعامل بالحلم والأناة، وأنه لا يستأصل مكذبيك، بل يمد لهم، ليرد من شاء منهم ويخرج من أصلاب بعضهم من يعبده، وإنما ذلك إكرامًا لك رحمة لأمتك لأنا كما قلنا أول السورة {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} بإهلاكهم وإن كانوا قومًا لدًا، ولا بغير ذلك، وما أنزلناه إلا لتكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا» {لكان} أي العذاب {لزامًا} أي لازمًا أعظم لزوم لكل من أذنب عند أول ذنب يقع منه لشرفك عنده وقربك لديه {و} لولا {أجل مسمى} ضربه لكل شيء لكان الأمر كذلك أيضًا، لكنه سبقت رحمته غضبه فهو لا يعجل، وضرب الأجل فهو لا يأخذ قبله، وكل من سبق الكلمة وتسمية الأجل مستقل بالإمهال فكيف إذا اجتمعا، فتسبب عن العلم بأنه لابد من استيفاء الأجل وإن زاد العاصي في العصيان تسليم الأمور إلى الله وعدم القلق في انتظار الفرج فقال: {فاصبر على ما يقولون} لك من الاستهزاء وغيره.
ولما كان الصبر شديدًا على النفس منافرًا للطبع، لأن النفس مجبولة على النقائص، مشحونة بالوسواس، أمر منه لأجل من يحتاج إلى الكمال بما ينهض بها من حضيض الجسم إلى أوج الروح بمقامي التحلي بالكمالات والتخلي عن الرعونات، وبدأ بالأول لأنه العون على الثاني، وذكر أشرف الحلي فقال: {وسبح بحمد ربك} أي اشتغل بما ينجيك من عذابه، ويقربك من جنابه، بأن تنزه من أحسن إليك عن كل نفص، حال كونك حامدًا له بإثبات كل كمال، وذلك بأن تصلي له خاصة وتذكره بالذاكرين، غير ملتفت إلى شيء سواه {قبل طلوع الشمس} صلاة الصبح {وقبل غروبها} صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله: {ومن آناء الّيل} أي ساعاته، جمع إنو- بكسر ثم سكون، أي ساعة، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله {فسبح} أي بصلاة المغرب والعشاء، إيذانًا بعظمة صلاة الليل، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلامًا بمزيد فضلهما، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال: {وأطراف النهار} ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي- رضي الله عنهم- قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الاية.
وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة، على أن لفظ {آناء} {وأطراف} صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلًا ونهارًا، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح، وما قبل الغروب العصر فقط، وببعض الآناء المغرب والعشاء، وأدخل الجار لكونهما وقتين، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر، لأن النهار له أربعة أطراف: أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين: التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات- والله الهادي.
ولما كان الغالب على الإنسان النسيان فكان الرجاء عنده أغلب، ذكر الجزاء بكلمة الإطماع لئلا يأمن فقال: {لعلك ترضى} أي افعل هذا لتكون على رجاء من أن يرضاك ربك فيرضيك في الدنيا والآخرة، بإظهار دينك وأعلاء أمرك، ولا يجعلك في عيش ضنك في الدنيا ولا في الآخرة- هذا على قراءة الكسائي وأبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل: لتكون على رجاء من أن تكون راضيًا دائمًا في الدنيا والآخرة، ولا تكون كذلك إلا وقد أعطاك ربك جميع ما تؤمل.
ولما كانت النفس ميالة إلى الدنايا، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخيلها عن ذلك هؤ الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها، قال مؤكدًا إيذانًا بصعوبة ذلك: {ولا تمدن} مؤكدًا له بالنون الثقيلة {عينيك} أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصدًا للاستحسان {إلى ما متعنا به} بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية {أزواجًا} أي أصنافًا متشاكلين {منهم} أي من الكفرة. أي تمتيع {الحياة الدنيا} لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعودًا، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى: {لنفتنهم فيه} أي لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه {ورزق ربك} الذي عود به أولياءه- وهو في دار السفر- الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق {خير} من زهرتهم، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي {وأبقى} فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحدًا من الخلق حصره، وتكون الدنيا كلها فضلًا عما في أيديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه- وإن كان الكل منه- للتشريف، وفي التعبير بالرب إيذان بالحل، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين والطالحين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}.
اعلم أنه تعالى لما بين أن من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة أتبعه بما يعتبر به المكلف من الأحوال الواقعة في الدنيا بمن كذب الرسل فقال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} والقراءة العامة أفلم يهد بالياء المعجمة من تحت وفاعله هو قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينًا لهم، كما جعل مثل ذلك واعظًا لهم وزاجرًا، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أفلم نهد لهم بالنون، قال الزجاج: يعني أفلم نبين لهم بيانًا يهتدون به لو تدبروا وتفكروا، وأما قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية وأراد بقوله: {يَمْشُونَ في مساكنهم} أن قريشًا يشاهدون تلك الآيات العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعم، وما حل بهم من ضروب الهلاك، وللمشاهدة في ذلك من الاعتبار ما ليس لغيره، وبين أن في تلك الآيات آيات لأولى النهى، أي لأهل العقول والأقرب أن للنهية مزية على العقل، والنهي لا يقال إلا فيمن له عقل ينتهي به عن القبائح، كما أن لقولنا: أولو العزم مزية على أولو الحزم، فلذلك قال بعضهم: أهل الورع وأهل التقوى، ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلًا على من كذب وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزامًا، ولا شبهة في أن الكلمة هي إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ، أن أمته عليه السلام وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال، واختلفوا فيما لأجله لم يفعل ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: لأنه علم أن فيهم من يؤمن، وقال آخرون: علم أن في نسلهم من يؤمن ولو أنزل بهم العذاب لعمهم الهلاك، وقال آخرون: المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا هو، وقال أهل السنة: له بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله ومن شاء بعذابه من غير علة، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل، فلهذا قال أهل التحقيق: كل شيء صنيعه لا لعلة، وأما الأجل المسمى ففيه قولان: أحدهما: ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب وهو يوم بدر.
والثاني: ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذب وهو أقرب، ويكون المراد ولولا كلمة سبقت تتضمن تأخير العذاب إلى الآخرة كقوله: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] لكان العقاب لازمًا لهم فيما يقدمون عليه من تكذيب الرسول وأذيتهم له، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحدًا قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم، فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم: إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك، ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة، ويحتمل أيضًا تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفًا له عن ذلك، ثم قال الكلبي ومقاتل: هذه الآية منسوخة بآية القتال، ثم قال: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وهو نظير قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{بِحَمْدِ رَبّكَ} في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه.
المسألة الثانية:
إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى.
المسألة الثالثة:
اختلفوا في التسبيح على وجهين، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: دخلت الصلوات الخمس فيه، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعًا قبل الغروب، ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ويكون قوله: {وَأَطْرَافَ النهار} كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختصت في قوله: {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] بالتوكيد.
القول الثاني: أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة، أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين، فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، بقي قوله: {وَمِنْ ءَانَآىءِ الليل فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى} وأطراف النهار للنوافل.
القول الثالث: أنها تدل على أقل من الخمس، فقوله: قبل طلوع الشمس للفجر، وقبل غروبها للعصر، ومن آناء الليل للمغرب والعتمة، فيبقى الظهر خارجًا.
والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى.
هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة، قال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره، وذلك لأنه تعالى صبره أولًا على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر، والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائمًا مظهرًا لذلك وداعيًا إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات.
المسألة الرابعة:
أفضل الذكر ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر.
وذلك لسكون الناس وهدء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطًْا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل ساجدا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخرة} [الزمر: 9] ولأن الليل وقت السكون والراحة.
فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل.
المسألة الخامسة:
لقائل أن يقول: النهار له طرفان فكيف قال: {وَأَطْرَافَ النهار} بل الأولى أن يقول كما قال: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114]، وجوابه من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال، ومنهم من قال: إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود، أما قوله تعالى: {لَعَلَّكَ ترضى} ففيه وجوه:
أحدها: أن هذا كما يقول الملك الكبير: يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة، وهو إشارة إلى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] وقوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وثانيها: لعلك ترضى ما تنال من الثواب.
وثالثها: لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة.
وقرأ الكسائي وعاصم: {لعلك ترضى} بضم التاء والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه.
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله عليه السلام على ما يقولون، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح أتبع ذلك بنهيه عن مد عينيه إلى ما متع به القوم فقال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وجهان: أحدهما: المراد منه نظر العين وهؤلاء قالوا: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانًا للمنظور إليه إعجابًا به كما فعل نظارة قارون حيث قالوا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارون إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ} [القصص: 79] حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بقولهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} [القصص: 80] وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك كما إذا نظر الإنسان إلى شيء مرة ثم غض، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع قيل: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي لا تفعل ما أنت معتاد له.
ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغير ذلك لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمقوى لهم على اتخاذها.
القول الثاني: قال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ليس هو النظر، بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا.
المسألة الثانية:
قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف، فقال: والله لا أفعل ذلك إلا برهن فأخبرته بقوله فأمرني أن أذهب بدرعه إليه فنزل قوله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وقال عليه السلام: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم» وقال أبو الدرداء: الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له.
وعن الحسن: لولا حمق الناس لخربت الدنيا.
وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: لا تتخذوا الدنيا ربًا فتتخذكم لها عبيدًا، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رآى ما عند السلاطين يتلو هذه الآية، وقال الصلاة يرحمكم الله، أما قوله عز وجل: {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} أي ألذذنا به، والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، يقال أمتعه إمتاعًا ومتعه تمتيعًا والتفعيل يقتضي التكثير، أما قوله: {أزواجا مّنْهُمْ} أي أشكالًا وأشباهًا من الكفار وهي من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة، وذلك لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أصنافًا منهم، وقال الكلبي والزجاج: رجالًا منهم، أما قوله: {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} ففي انتصابه أربعة أوجه:
أحدها: على الذم وهو النصب على الاختصاص أو على تضمين متعنا معنى أعطينا وكونه مفعولًا ثانيًا له أو على إبداله من محل الجار والمجرور أو على إبداله من أزواجًا على تقدير ذوي، فإن قيل: ما معنى الزهرة فيمن حرك قلنا معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة كما جاء في الجهرة.
قرىء: أرنا الله جهرة، وأن يكون جمع زاهر وصفًا لهم بأنهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، أما قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} فذكروا فيه وجوهًا:
أحدها: لنعذبهم به كقوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} [التوبة: 55].
وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إضلالًا مني لهم.
وثالثها: قال الكلبي ومقاتل تشديدًا في التكليف عليهم لأن الإعراض عن الدنيا عند حضورها والإقبال إلى الله أشد من ذلك عند عدم حضورها ولذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة الله تعالى والتضرع إليه أكثر من تضرع الأغنياء، ولأن على من أوتي الدنيا ضروبًا من التكليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف ولأن القادر على المعاصي يكون الاجتناب عن المعاصي أشق عليه من العاجز الفقير، فمن هذه الجهات تكون الزيادة في الدنيا تشديدًا في التكليف ثم قال لرسوله: {وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقى} والأظهر أن المراد أن مطلوبك الذي تجده من الثواب خير من مطلوبهم وأبقى، لأنه يدوم ولا ينقطع وليس كذلك حال ما أوتوه من مَن الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة خير لك من حيث العاقبة وأبقى، فذكر الرزق في الدنيا ووصفه بحسن عاقبته إذا رضي به وصبر عليه، ويحتمل أن يكون المراد ما أعطى من النبوة والدرجات الرفيعة. اهـ.