فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقال: إنىً بألف في آخره مقصورًا ويقال: أناء بفتح الهمزة في أوله وبمد في آخره وجَمْع ذلك على آناء بوزن أفْعال.
وقوله: {وأطراف النهار} بالنصب عطف على قوله: {قبل طلوع الشمس}، وطرف الشيء منتهاه.
قيل: المراد أول النهار وآخره، وهما وقتا الصبح والمغرب، فيكون من عطف البعض على الكل للاهتمام بالبعض، كقوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238].
وقيل: المراد طرف سير الشمس في قوس الأفق، وهو بلوغ سيرها وسْط الأفق المعبر عنه بالزوال، وهما طرفان طرفُ النهاية وطرف الزوال، وهو انتهاء النصف الأول وابتداء النصف الثاني من القوس، كما قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114].
وعلى هذا التفسير يتجه أن يكون ذكر الطرفين معًا لوقت صلاة واحدة أن وقتها ما بين الخروج من أحد الطرفين والدخول في الطرف الآخر وتلك حصة دقيقة.
وعلى التفسيرين فللنهار طرفان لا أطراف، كما قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار فالجمع في قوله وأطراف النهار} من إطلاق اسم الجمع على المثنى، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس، كقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4].
والذي حسّنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله: {ومن آناء الليل فسبح}.
وقرأ الجمهور: {لعلّك تَرضى} بفتح التاء بصيغة البناء للفاعل، أي رجاءً لك أن تنال من الثواب عند الله ما ترضَى به نفسُك.
ويجوز أن يكون المعنى: لعل في ذلك المقدار الواجب من الصلوات ما ترضى به نفسك دون زيادة في الواجب رفقًا بك وبأمتك.
ويبيّنه قوله: وجعلت قرّة عيني في الصلاة.
وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم تُرضى بضم التاء أي يرضيك ربّك، وهو محتمل للمعنيين.
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
أُعقب أمره بالصبر على ما يقولونه بنهيه عن الإعجاب بما يَنْعَم به من تَنعّم من المشركين بأموال وبنين في حين كفرهم بالله بأن ذلك لحِكَم يعلمها الله تعالى، منها إقامة الحجّة عليهم، كما قال تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} (المؤمنون: 55، 56).
وذكر الأزواج هنا لدلالته على العَائلات والبيوت، أي إلى ما متعناهم وأزواجَهم به من المتع؛ فكلّ زوج ممتّع بمتعة في زوجه مما يحسن في نظر كل من محاسن قرينه وما يقارن ذلك من محاسن مشتركة بين الزوجين كالبنين والرياش والمنازل والخدم.
ومدّ العينين: مستعمل في إطالة النظر للتعجيب لا للإعجاب، شبه ذلك بمد اليد لتناول شيء مشتهى.
وقد تقدم نظيره في آخر سورة الحِجْر.
والزَهرة بفتح الزاي وسكون الهاء: واحدة الزهْر، وهو نَوْر الشجر والنباتتِ.
وتستعار للزينة المعجِبة المبهتة، لأن منظر الزّهرة يزين النبات ويُعجب الناظر، فزهرة الحياة: زينة الحياة، أي زينة أمور الحياة من اللّباس والأنعام والجنان والنساء والبنين، كقوله تعالى: {فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} [القصص: 60].
وانتصب. على الحال من اسم الموصول في قوله: {ما متعنا به أزواجًا منهم} وقرأ الجمهور {زهْرة} بسكون الهاء.
وقرأه يعقوب بفتح الهاء وهي لغة.
{لنفتنهم} متعلق ب {متعنا}.
وفي للظرفية المجازية، أي ليحصل فتنتهم في خلاله، ففي كلّ صنف من ذلك المتاع فتنة مناسبة له.
واللاّم للعلّة المجازية التي هي عاقبة الشيء، مثل قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 68].
وإنما متّعهم الله بزهرة الدنيا لأسباب كثيرة متسلسلة عن نُظُم الاجتماع فكانت لهم فتنة في دينهم، فجُعل الحاصلُ بمنزلة الباعث.
والفتنة: اضطراب النفس وتبلبل البال من خوف أو توقع أو التواء الأمور، وكانوا لا يخلُون من ذلك، فَلشركهم يقذف الله في قلوبهم الغم والتوقع، وفتنتُهم في الآخرة ظاهرة.
فالظرفية هنا كالتي في قول سبَرة بن عَمرو الفَقْعسي:
نُحابي بها أكفَاءَنا ونُهينها ** ونشرب في أثمانها ونقامر

وقوله تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم} في سورة النساء (5).
وجملة {ورزق ربك خير وأبقى} تذييل، لأن قوله: {ولا تمدن عينيك} إلى آخره يفيد أن ما يبدو للناظر من حسن شارتهم مشوب ومبطّن بفتنة في النفس وشقاء في العيش وعقاب عليه في الآخرة، فذيل بأن الرزق الميسّر من الله للمؤمنين خير من ذلك وأبقى في الدنيا ومنفعته باقية في الآخرة لما يقارنه في الدنيا من الشكر.
فإضافة {رزق ربك} إضافة تشريف، وإلا فإن الرزق كلّه من الله، ولكن رزق الكافرين لما خالطه وحف به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولما فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفرانهم النعمة جعل كالمنكور انتسابه إلى الله، وجعل رزق الله هو السالم من ملابسة الكفران ومن تبعات ذلك.
و{خير} تفضيل، والخيرية حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف نواحيها.
فمنها: خير لصاحبه في العاجل شرّ عليه في الآجل، ومنها خير مشوب بشرور وفتن، وخير صَاف من ذلك، ومنها ملائم ملاءَمَةً قوية، وخير ملائم ملاءمة ضعيفة، فالتفضيل باعتبار توفر السلامة من العواقب السيّئة والفتن كالمقرون بالقناعة، فتفضيل الخيرية جاء مجملًا يظهر بالتدبر.
{وأبقى} تفضيل على ما مُتّع به الكافرون لأنّ في رزق الكافرين بقاءً، وهو أيضًا يظهر بقاؤه بالتدبّر فيما يحف به وعواقبه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ}.
الهداية: الدلالة والبيان، وتهديه أي: تدلّه على طريق الخير. والاستفهام في {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] والاستفهام يَرِد مرة لتعلم ما تجهل، أو يرد للتقرير بما فعلتَ.
فالمراد: أفلم ينظروا إلى الأمم السابقة وما نزل بهم لما كَذَّبوا رسُل الله؟ كما قال في آية أخرى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137].
وقال سبحانه: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 110].
أَلاَ تروْنَ كل هذه الآيات في المكذبين؟ ألاَ ترون أن الله ناصرُ رسُلَه؟ ولم يكُنْ سبحانه ليبعثهم، ثم يتخلى عنهم، ويُسلمهم، كما قال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].
وبعد هذا كله يُعرِض المكذبون، وكأنهم لم يروا شيئًا من هذه الآيات.
وساعة ترى {كَمْ} فاعلم أنها للشيء الكثير الذي يفوق الحصر، كما تقول لصاحبك: كم أعطيتُك، وكم ساعدتُك. أي: مرات كثيرة، فكأنك وكلته ليجيب هو بنفسه، ولا تستفهم منه إلا إذا كان الجواب في صالحك قطعًا.
فمعنى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] يعني: يُبيّن لهم ويدُّلهم على القرى الكثيرة التي كذَّبت رسلها، وماذا حدث لها وحاق بها من العذاب، وكان عليهم أنْ يتنبهوا ويأخذوا منهم عِبرة ولا ينصرفوا عنها.
وقوله تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [طه: 128] كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] فليس تاريخًا يُحكَى إنما واقع ماثل تروْنَه بأعينكم، وتسيرون بين أطلاله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} [طه: 128] أي: عجائب لمَنْ له عقل يفكر.
وكلمة {النُّهَى} جمع نُهية، وهي العقل، وهذه الكلمة تحلُّ لنا إشكالات كثيرة في الكفر، فالبعض يظن أن الله تعالى خلق لنا العقل لنرتع به في مجالات الفكر كما نشاء، وننفلت من كل القيود.
إنما العقل من العقال الذي يُعقَل به البعير حتى لا ينفلتَ منك، وكذلك عقلُك يعقِلك، ويُنظِّم حركتك حتى لا تسير في الكون على هَواك، عقلك لتعقل به الأمور فتقول: هذا صواب، وهذا خطأ. قبل أن تُقدِم عليه.
فالسارق لو عقل ما يفعل ما أقدمَ على سرقة الناس، وما رأيك لو أبحنا للناس جميعًا أنْ يسرقوك، وأنت فرد، وهم جماعة؟
الحق ساعةَ يعقل بصرك أنْ يمتدَّ لما حرم عليك فلا تقُلْ: ضيق عليَّ، لأنه أمر الآخرين أنْ يغضُّوا أبصارهم عن محارمك، والغير أكثر منك، إذن: فأنت المستفيد. فإنْ أردتَ أن تُعربد في أعراض الناس، فأَبِح لهم أن يُعربِدوا في أعراضك.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه شاب يشكو عدم صبره على غريزة الجنس، يريد أن يبيح له الزنا والعياذ بالله، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يُلقِّنه درسًا يصرفه عن هذه الجريمة، فماذا قال له؟ قال: «يا أخا العرب، أتحب هذا لأمك؟ أتحب هذا لأختك؟ أتحب هذا لزوجتك؟» والشاب يقول في كل مرة: لا يا رسول الله جُعِلْتُ فداك. ولك أنْ تتصوَّر ماذا ينتاب الواحد منّا إنْ سمع سيرة أمه وأخته وزوجته في هذا الموقف.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم للشاب بعد أن هزَّه هذه الهزة العنيفة: «كذلك الناس لا يحبون لذلك لأمهاتهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأخواتهم، ولا لبناتهم».
وهنا قال الشاب: «فو الله ما همَّتْ نفسي لشيء من هذا إلا وذكرتُ أمي وزوجتي وأختي وابنتي».
إذن: فالعقل هو الميزان، وهو الذي يُجرِي المعادلة، ويُوازِن بين الأشياء، وكذلك إنْ جاء بمعنى النُّهى أو اللُّب فإنها تؤدي نفس المعنى: فالنُّهي من النهي عن الشيء، واللب أي: حقيقة الشيء وأصله، لا أنْ يكون سطحيّ التفكير يشرد منك هنا وهناك.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ}.
الكلام عن آيات الله في المكذبين للرسل وما حاق بهم من العذاب وقد مَرَّ عليها القوم دون أن يعتبروا بها، أو يرتدعوا، أو يخافوا أن تكون نهايتهم كنهاية سابقيهم، وربما قال هؤلاء القوم: ها نحن على ما نحن عليه دون أن يصيبنا شيء من العذاب: لا صَعْق ولا مَسْخ ولا ريح، فبماذا تهددنا؟
لذلك يوضح لهم الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة: ما منعنا أنْ نفعل بكم ما فعلنا بسابقيكم من المكذبين بالرسل، ما منعنا من إذلالكم وتدميركم إلا شيء واحد هو كلمة سبقتْ من الله.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129].
فما هذه الكلمة التي سبقتْ من الله، ومنعتْ عنهم العذاب؟
المراد بالكلمة قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فهذه الكلمة التي سبقت مني هي التي منعتْ عنكم عذابي، والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة فيقول: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
فإنْ قال قائل: الله يهدد الذين كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنْ يُنزل بهم ما أنزل بالمكذِّبين من الأمم السابقة، وها هم كفار مكة يُكذّبون رسول الله دون أن يحدث لهم شيء.
نقول: لأن لهم أمانين من العذاب، الكلمة التي سبقتْ، والأجل المسمّى عند الله {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129] فلكل واحد أَجَلٌ معلوم.
معنى: {لَكَانَ لِزَامًا} [طه: 129] أي: لزم لزامًا أنْ يحيق بهم ما حاقَ بالأمم السابقة.
ثم يقول الحق سبحانه: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ}.
فما دام أن القوم يُكذِّبون رسول الله، وهم في مأمن من العذاب، فلابُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمروا في عنادهم لرسول الله؛ لذلك يتوجه الحق سبحانه وتعالى إلى الناحية الأخرى فيعطي رسوله صلى الله عليه وسلم المناعة اللازمة لمواجهة هذا الموقف {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] لأن لك بكل صبر أجرًا يتناسب مع ما تصبر عليه.
والصبر قد يكون مَيْسورًا سهلًا في بعض المواقف، وقد يكون شديدًا وصَعْبًا ويحتاج إلى مجاهدة، فمرَّة يقول الحق لرسوله: اصبر. ومرة يقول: اصطبر.
فما الأقوال التي يصبر عليها رسول الله؟ قولهم له: ساحر. وقولهم: شاعر وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن: أضغاث أحلام. وقالوا: أساطير الأولين. فاصبر يا محمد على هذا كله؛ لأن كلَّ قوله من أقوالهم تحمل معها دليل كذبهم.
فقولهم عن رسول الله: ساحر، فمَن الذي سَحَره رسول الله؟ سحر المؤمنين به، فلماذا إذن لم يسحرْكم أنتم أيضًا، وتنتهي المسألة. إذن: بقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التهمة.
وقولهم: شاعر، كيف وهم أمة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يَخْفي عليهم أسلوب القرآن؟ والشعر عندهم كلام موزون ومُقفَى، فهل القرآن كذلك؟ ولو جاء هذا الاتهام من غيركم لكان مقبولًا، أما أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقًا ومعارض كمعارض الصناعات الآن، فهذا غير مقبول منكم.
وسبق أنْ قلنا: إنك إذا قرأتَ مقالًا مثلًا، ومَرَّ بك بيت من الشعر تشعر به وتحسُّ أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر. فخُذْ مثلًا قول ابن زيدون:
هذا العَذْل محمود عواقبه، وهذه النَّبْوة غمرة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أنْ أبطأ سَيْبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدِّلاء فَيْضا أملؤها، وأثقل السحائب مشيًا أحفلها. ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له العتب في احتباله، ولا عتبَ عليه في اغتفاله.
فَإنْ يكُنِ الفعلُ الذي سَاءَ واحِدًا ** فَأفْعالُه اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ

على الفور تحس أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر.
فإذا ما قرأتَ في القرآن مثلًا قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَرًا إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 3032].
فهل أحسستَ بانتقال الأسلوب من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر؟ ومع ذلك لو وزنتَ {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] لوجدتَ لها وزنًا شِعْريًا.
وقوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49].
لو أردتها بيتًا شعريًا تقول {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم}. ومع ذلك تقرأها في سياقها، فلا تشعر أنها شعر؛ لأن الأسلوب فريد من نوعه، وهذه من عظمة القرآن الكريم، كلام فَذٌّ لوحده غير كلام البشر.
أما قولهم مجنون فالمجنون لا يدري ما يفعل، ولا يعقل تصرفاته ولا يسأل عنها، ولا نستطيع أنْ نتهمه بشيء فنقول عنه مثلًا؛ كذاب أو قبيح؛ لأن آلة الاختيار عنده مُعطّلة، وليس لديه انسجام في التصرفات، فيمكن أن يضحك في وجهك، ثم يضربك في نفس الوقت، يمكن أن يعطيك شيئًا ثم يتفل في وجهك.