فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ}.
أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى، وكناقة صالح، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحضّ في طلب ذلك في قوله: {لَوْلاَ يَأْتِينَا} أي هلا يأتينا محمد بآية: كناقة صالح، وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحضّ وحثّ. فأجابهم الله بقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} وهي هذا القرآن العظيم، لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز. وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى. لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى، فهو بَيِّنة واضحة على صِدقها وصحتها: كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقال تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه جل وعلا في سورة العنكبوت في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50-51]. فقوله في العنكبوت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} هو معنى قوله في طه: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133] كما أوضحنا. والعلم عند الله تعالى. ويزيد ذلك إيضاحًا الحديث المتفق عليه: «ما من نبي مِنَ الأنبياء إلا أُوتي ما آمَنَ البشر على مِثْلِه، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابِعًا يومَ القيامةِ» وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا.
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}.
قد قدمنا في سورة النساء أن آية طه هذه تشير إلى معناها آية القصص التي هي قوله تعالى: {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [القصص: 47] وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165].
قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ}.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عنادًا وتعنُّتًا: كل منا ومنكم متربِّص، أي منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار. كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]، وقوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} [التوبة: 98] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والتربص: الانتظار.
قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي وَمَنِ اهتدى}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار سيعلمون في ثاني حال مَن أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. أي وفق لطريق الصواب والديمومة على ذلك. وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار. والمعنى: سيتضِح لكم أنا مُهتدون، وأنا على صراط مستقيم، وأ، كم على ضلال وباطل. وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة، ويظهر لهم في الدنيا لِما يرونه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع. كقوله: {وََسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42]، وقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكذاب الأشر} [القمر: 26]، وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين} [ص: 88] إلى غير ذلك من الآيات والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح. والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه. ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارج مستقيم

و{مَن} في قوله: {مَنْ أَصْحَابُ} قال بعض العلماء: هي موصولة مفعول به ل {تعلمون}. وقال بعضهم: هي استفهامية معلقة لفعل العلم، كما قدمنا إيضاحه في مريم والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
ذِكر الأهل هنا مقابل لذِكر الأزواج في قوله: {إلى ما متعنا به أزواجًا منهم} [طه: 131] فإن من أهل الرجل أزواجَه، أي مِتْعَتُك ومتعةُ أهلك الصلاةُ فلا تلفتوا إلى زَخَارف الدنيا.
وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه.
ومن آثار العمل بهذه الآية في السنّة ما في صحيح البخاري: أن فاطمة رضي الله عنها بلغها أن سبيًا جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادمًا من السبي فلم تجده.
فأخبرت عائشةُ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءَها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعليّ مضجعَهما فجلس في جانب الفراش وقال لها ولِعَليّ: «ألا أُخبِركُما بخير لكما مما سألتما تسبّحان وتحمدان وتكبران دُبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين فذلك خير لكما من خادم» وأمَر الله رسوله بما هو أعظم مما يأمر به أهله وهو أن يصْطبر على الصلاة.
والاصطبار: الانحباس، مطاوع صبره، إذا حبسه، وهو مستعمل مجازًا في إكثاره من الصلاة في النوافل.
قال تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلًا} [المزمل: 1] الآيات، وقال: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79].
وجملة {لا نسألك رزقًا} معترضة بين التي قبلها وبين جملة {نحن نرزقك} جعلت تمهيدًا لهاته الأخيرة.
والسؤال: الطلب التكليفي، أي ما كلفناك إلاّ بالعبادة، لأنّ العبادة شكر لله على ما تفضل به على الخلق ولا يطلب الله منهم جزاءً آخر.
وهذا إبطال لما تعوده الناس من دفع الجبايات والخراج للملوك وقادة القبائل والجيوش.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 56 58]، فجملة {نحن نرزقك} مبيّنة لجملة {ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131].
والمعنى: أنّ رزق ربّك خير وهو مسوق إليك.
والمقصود من هذا الخطاب ابتداءً هو النبي صلى الله عليه وسلم ويشمل أهلَه والمؤمنين لأنّ المعلّل به هذه الجملة مشترك في حكمه جميع المسلمين.
وجملة {والعاقبة للتقوى} عطف على جملة {لا نسألك رزقًا} المعلّل بها أمره بالاصطبار للصلاة، أي إنا سألناك التقوى والعاقبة.
وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمرًا ويقع في آخره من خير وشر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير.
فالمعنى: أنّ التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير.
واللام للملك تحقيقًا لإرادة الخير من العاقبة لأنّ شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة.
وقد تكون العاقبة في خير الدنيا أيضًا للتقوى.
وهذه الجملة تذييل لما فيها من معنى العموم، أي لا تكون العاقبة إلا للتقوى.
فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل.
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ}.
رجوع إلى التنويه بشأن القرآن، وبأنه أعظم المعجزات.
وهو الغرض الذي انتقل منه إلى أغراض مناسبة من قوله: {وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا} [طه: 113].
والمناسبة في الانتقال هو ما تضمنه قوله: {فاصبر على ما يقولون} [طه: 130] فجيء هنا بشِنَع من أقوالهم التي أمر الله رسوله بأن يصبر عليها في قوله: {فاصبر على ما يقولون} فمن أقوالهم التي يقصدون منها التعنت والمكابرة أن قالوا: لولا يأتينا بآية من عند ربّه فنؤمن برسالته، كما قال تعالى: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5].
ولولا حرف تحضيض.
وجملة {أو لَمْ تأْتِهِم بيِّنَةُ ما في الصُّحففِ الأُولى} في موضع الحال، والواو للحال، أي قالوا ذلك في حال أنّهم أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى.
فالاستفهام إنكاري، أنكر به نفي إتيان آية لهم الذي اقتضاه تحضيضهم على الإتيان بآية.
والبيّنة: الحجة.
و{الصحف الأولى} كتب الأنبياء السابقين، كقوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18 19].
والصحف: جمع صحيفة.
وهي قطعة من ورَق أو كاغَدَ أو خرقة يكتب فيها.
ولما كان الكتاب مجموع صحف أطلق الصحف على الكتب.
ووجه اختيار {الصحف} هنا على الكُتب أن في كلّ صحيفة من الكتب علمًا، وأن جميعه حَواه القرآن، فكان كلّ جزء من القرآن آية ودليلًا.
وهذه البيّنة هي محمد وكتابُه القرآن، لأنّ الرسول موعود به في الكتب السالفة، ولأنّ في القرآن تصديقًا لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع.
وقد جاء به رسول أميّ ليس من أهل الكتاب ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها، قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146]، وكانوا لا يحققون كثيرًا منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة.
وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد، وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز، وهو ما قامت به الحجّة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالًا.
وهذا مثل قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة} [البينة: 12].
وقرأ نافع، وحفص، وابن جماز عن أبي جعفر {تأتِهم} بتاء المضارع للمؤنث.
وقرأه الباقون بتحتية المذكر لأنّ تأنيث بيّنة غير حقيقي، وأصل الإسناد التذكير لأنّ التذكير ليس علامة ولكنه الأصل في الكلام.
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}.
الذي يظهر أن جملة {ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله} معطوفة على جملة {أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى} [طه: 133]، وأنّ المعنى على الارتقاء في الاستدلال عليهم بأنّهم ضالّون حين أخروا الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوه متوقفًا على أن يأتيهم بآية من ربّه، لأنّ ما هم متلبسون به من الإشراك بالله ضلال بيّن قد حَجَبتْ عن إدراك فساده العادَات واشتغال البال بشؤون دين الشرك، فالإشراك وحده كاف في استحقاقهم العذاب ولكن الله رحمهم فلم يؤاخذهم به إلاّ بعد أن أرسل إليهم رسولًا يوقظ عقولهم.