فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمجيء الرسول بذلك كاف في استدلال العقول على فساد ما هم فيه، فكيف يسألون بعد ذلك إتيان الرسول لهم بآية على صدقه فيما دعاهم إليه من نبذ الشرك لو سُلّم لهم جدلًا أن ما جاءهم من البيّنة ليس هو بآية، فقد بطل عذرهم من أصله، وهو قولهم {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك}.
وهذا كقوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 156].
فالضمير في قوله: {من قبله} عائد إلى القرآن الذي الكلام عليه، أو على الرسول باعتبار وصفه بأنه بيّنة، أو على إتيان البيّنة المأخوذ من {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133].
وفي هذه الآية دليل على أنّ الإيمان بوحدانية خالق الخلق يقتضيه العقل لولا حجب الضلالات والهوى، وأن مجيء الرسل لإيقاظ العقول والفطر، وأن الله لا يؤاخذ أهل الفترة على الإشراك حتى يبعث إليهم رسولًا، وأنّ قريشًا كانوا أهل فترة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى {لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا}: أنهم يقولون ذلك يوم الحساب بعد أن أهلكهم الله الإهلاك المفروض، لأنّ الإهلاك بعذاب الدنيا يقتضي أنهم معذبون في الآخرة.
و{لولا} حرف تحضيض، مستعمل في اللوم أو الاحتجاج لأنّه قد فات وقت الإرسال، فالتقدير: هلاّ كنت أرسلت إلينا رسولًا وانتصب {فنتبع} على جواب التحضيض باعتبار تقدير حصوله فيما مضى.
والذل: الهوان.
والخزي: الافتضاح، أي الذل بالعذاب.
والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم عليه السلام {ولا تخزني يوم يبعثون} [الشعراء: 87].
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا}.
جواب عن قولهم {لولا يأتينا بآية من ربه} [طه: 133] وما بينهما اعتراض.
والمعنى: كل فريق متربص فأنتم تتربصون بالإيمان، أي تؤخرون الإيمان إلى أن تأتيكم آية من ربّي، ونحن نتربص أن يأتيكم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وتفرع عليه جملة {فتربصوا} ومادة الفعل المأمور به مستعملة في الدوام بالقرينة، نحو {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136]، أي فداوموا على تربصكم.
وصيغة الأمر فيه مستعملة في الإنذار، ويسمى المتاركة، أي نترككم وتربصَكم لأنا مؤمنون بسوء مصيركم.
وفي معناه قوله تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} [السجدة: 30].
وفي ما يقرب من هذا جاء قوله: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} [التوبة: 52].
وتنوين {كلّ} تنوين عوض عن المضاف إليه المفهوم من المقام، كقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي:
كلّ له نِية في بُغض صاحبه ** بنعمة الله نقليكم وتقلونا

والتربص: الانتظار.
تفعّل من الربْص، وهو انتظار حصول حدث من خير أو شرّ، وقد تقدّم في سورة براءة.
وفرع على المتاركة إعلامهم بأنهم يعلمون في المستقبل مَن مِن الفريقين أصحاب الصراط المستقيم ومن هم المهتدون.
وهذا تعريض بأن المؤمنين هم أصحاب الصراط المستقيم المهتدون، لأنّ مثل هذا الكلام لا يقوله في مقام المحاجّة والمتاركة إلا الموقن بأنه المحق.
وفِعل {تعلمون} معلق عن العمل لوجود الاستفهام.
والصراط: الطريق.
وهو مستعار هنا للدّين والاعتقاد، كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
والسوي: فعيل بمعنى مفعول، أي الصراط المسَوّى، وهو مشتق من التسوية.
والمعنى: يحتمل أنهم يعلمون ذلك في الدنيا عند انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، فيكون الذين يعلمون ذلك مَن يبقى من الكفار المخاطبين حين نزول الآية سواء ممن لم يسلموا مثل أبي جهل، وصناديد المشركين الذين شاهدوا نصر الدين يوم بَدر، أو من أسلموا مثل أبي سفيان، وخالد بن الوليد.
ومن شاهدوا عزّة الإسلام.
ويحتمل أنهم يعلمون ذلك في الآخرة عِلم اليقين.
وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجَة وانطواء بساط المقارعة.
ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر لأنّها تنظر إلى فاتحة السورة.
وهي قوله: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى} [طه: 2]، لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلّغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاجَ صدره أنه أدى الرسالة والتذكرة فلم يكونوا من أهل الخشية فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
هنا يعطينا الحق تبارك وتعالى منهجًا لإصلاح المجتمع وضمان انسجامه، منهج يبدأ بالوحدة الأولى وهو ربُّ الأسرة، فعليه أنْ يُصلح نفسه أولًا، ثم ينظر إلى الوحدة الثانية، وهي الخلية المباشرة له وأقرب الناس إليه وهم أهله وأسرته، فهو مركز الدائرة فإذا أصلح نفسه، فعليه أنْ يُصلح الدوائر الأخرى المباشرة له.
فقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} [طه: 132] لتستقيم الوحدة الأولى في بناء الكون، فإذا ما صلُحَتْ الوحدة الأولى في بناء الكون، فأمَر كل واحد أهله بالصلاة، واستقام الكون كله وصَلُح حال الجميع.
والمسألة هنا لا تقتصر على مجرد الأمر وتنتهي مسئوليته عند هذا الحدِّ إنما {واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] لأن في الصلاة مشقة تحتاج إلى صبر، فالصلاة تحتاج إلى وقت تأخذه من حركة الحياة التي هي سبب الخير والنفْع لك، فلابد إذن من صبر عليها.
وفَرْق بين اصبر واصطبر: اصبر الفعل العادي، إنما اصطبر فيها مبالغة أي: تكلَّف حتى الصبر وتعَمَّده.
ومن ذلك أن تحرص على أداء الصلاة أمام أولادك لترسخ في أذهانهم أهمية الصلاة، فمثلًا تدخل البيت فتجد الطعام قد حضر فتقول لأولادك: انتظروني دقائق حتى أُصلي، هنا يلتفت الأولاد إلى أن الصلاة أهمّ حتى من الأكل، وتغرس في نفوسهم مهابةَ التكليف، واحترامَ فريضة الصلاة، والحرص على تقديمها على أيِّ عمل مهما كان.
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقوم من الليل يصلي ما شاء الله له أنْ يصلي حتى يؤذن للفجر، فيُوقظ أهله للصلاة فإنْ أبَوْا رَشَّ في وجوههم الماء؛ لأن الصلاة خَيْر من النوم، فالنوم في مثل هذا الوقت فيه راحة للبدن، أمّا الصلاة فهي أفضل وأعظم، ويكفي أنك تكون فيها في حضرة الله تعالى.
وهَبْ أن رب الأسرة غاب عنها لمدة شهر أو عام، ثم فجأة قالوا: أبوكم جاء، فترى الجميع يُهرولون إليه، وهكذا لله المثل الأعلى، إذا دعاك، فلا تتخلّف عن دعوته، بل هَرْول إليه، وأسرع إلى تلبية ندائه، ولك أنْ تتصوَّر واحدًا يناديك وأنتَ لا تردّ عليه ولا تجيبه، أعتقد أنه شيء غير مقبول، ولا يرضاه صاحبك.
إذن: عليك أنْ تُعوِّد أولادك احترام هذا النداء، وبمجرد أن يسمعوا الله أكبر يُلبُّون النداء، ولا يُقدِّمون عليه شيئًا آخر، فالله لا يبارك في عمل ألهاك عن نداء الله أكبر؛ لأنك انشغلتَ بالنعمة عن المنعم عز وجل.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تعرف خير عناصر المجتمع فانظر إلى أسبقيتهم إلى إجابة نداء الله أكبر، فإنْ أردتَ أن تعرف مَنْ هو أعلى منه منزلةً، فانظر إلى آخرهم خروجًا من المسجد، وليس كذلك مَنْ يأتي الصلاة دُبُرًا، وبمجرد السلام يسرع إلى الانصراف.
ويُروى أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عابَ على أحد الصحابة إسراعه في الانصراف من المسجد بعد السلام، فتعمَّد رسول الله أنْ يناديه في إحدى المرات، قال: «أزهدًا فينًا»؟
وهل هناك مَنْ يزهد في رؤية رسول الله والجلوس معه؟ فقال الرجل: لا يا رسول الله، ولكن لي زوجة بالبيت تنتظر ثوبي هذا لتصلي فيه، فيدعو له رسول الله، وينصرف الرجل إلى زوجته، فإذا بها تقول له: تأخرت بقدْرِ كذا تسبيحة، فقال: لقد استوقفني رسول الله وحدث كذا وكذا، فقالت له: شكوتَ ربَّك لمحمد ثم يقول تعالى: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] إذن: ما الذي يشغلك عن حَضْرة ربك، الرزق؟ {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] فالذي لا يستطيع العمل نُوجِّه إليه من الأغنياء مَنْ يطرق بابه ويعطيه، فالغنيّ شَرْطٌ في إيمانه الفقيرُ، وليس شرطًا في إيمان الفقير الغني.
وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ضرورة البحث عن الفقير، والطَّرْق على بابه لإعطائه حقَّه في مال الغنيّ، لا ينتظره حتى يسأل، ويُريق ماء وجهه وهو يطلب حَقًّا من حقوقه في مجتمع الإيمان.
وقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] أي: لا نسألك رزقًا ثم نتركك، إنما لا نسألك ثم نحن نرزقك، فاطمئن إلى هذه المسألة.
{والعاقبة للتقوى} [طه: 132] لأنك إذا تأزمتْ معك أمور الحياة تلجأ إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر قام إلى الصلاة، وتأزُّم الأمور يأتي حينما نفقد نحن الأسباب المعطاة من الله، فإذا فقدتَ الأسباب وضاقتْ بك الحِيَل لم يَبْقَ لك إلا أنْ تلجأ إلى المسبِّب سبحانه، كما يقول في آية أخرى:
{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 23].
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ}.
مرت بنا {لولا} في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} [يونس: 19] وتعني: امتناع التعذيب لوجود الكلمة، أما {لولا} هنا فتعني: هلا، للحثِّ والطلب {لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [طه: 133] كما في {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله} [الكهف: 39].
فكأن القرآن لا يعجبهم، مع أنهم أمةُ بلاغة وبيانٍ، وأمة فصاحة وكلام، والقرآن يخجلهم لفصاحته وبلاغته، فأيُّ آية تريدونها بعد هذا القرآن؟
{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [طه: 133] كدليل صِدْق على بلاغه عن الله كالمعجزات الحسّية التي حدثتْ لمن قبله من الرسل، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السماء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 9093].
إذن: فالآيات من الله لا دَخْلَ لي فيها ولا أختارها، وها هو القرآن بين أيديكم يخبركم بما كان في الأمم السابقة {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 1419].
وقال تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} [النساء: 163].
لذلك يقول تعالى بعدها: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133].
فالقرآن جاء جامعًا ومُهيْمنًا على الكتب السابقة، وفيه ذِكْر لكل ما حدث فيها من معجزات حسية، وهل شاهد هؤلاء معجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص؟ هل شاهدوا عصا موسى أو ناقة صالح؟
لقد عرفوا هذه المعجزات عندما حكاها لهم القرآن، فصارت خبرًا من الأخبار، وليست مَرْأىً، والمعجزة الحسِّية تقع مرة واحدة، مَنْ رآها آمن بها، ومَنْ يرهَا فهي بالنسبة له خبر، ولولا أن القرآن حكاها ما صدَّقها أحد منهم.
لكن هؤلاء يريدون معجزة حِسِّية تصاحب رسالة محمد العامة للزمان وللمكان، ولو كانت معجزَة محمد حِسِّية لكانت لمَنْ شاهدها فقط، والحق سبحانه يريدها معجزة دائمة لأمتداد الزمان والمكان، فَمنْ آمن بمحمد نقول له: هذه هي معجزته الدائمة الباقية إلى أنْ تقومَ الساعة.
لذلك، كان القرآن معجزة لكل القرون، ولو أفنى القرآن معجزته مرة واحدة للمعاصرين له فحسب لاستقبلتْه القرون الآتية بلا إعجاز، لكن شاءتْ إرادة الله أن يكون إعجاز القرآن سرًا مطمورًا فيه، وكل قرن يكتشف من أسراره على قدر التفاتهم إليه وتأملهم فيه، وهكذا تظل الرسالة محروسة بالمعجزة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ}.
يقول تعالى: أنا قطعت عليهم الحجة؛ لأنني لو أهلكتُهم على فَتْرة من الرسل لقالوا: لماذا لم تُبقِنَا ِإلى أن يأتينا رسول، فلو جاءنا رسول لآمنا به قبل أن نقع في الَذُّلِّ والخِزْي، فمعنى: ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبل أن يأتي القرآن لقالوا: ربنا لولا أرسلتَ إلينا رسولًا لآمنّا به واهتدينا.
وهذه مجرد كلمة هو قائلها، وكما قال عنهم الحق سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] إنها مجرد كلمة تنقذهم من الإشكال.
وقولهم: {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] الذل: ما يعتري الحييِّ مما ينشأ عنه انكساره بعد أنْ كان متعاليًا، والذلّ يكون أولًا بالهزيمة، وأذلّ من الهزيمة الأَسْر، لأنه قد يُهزم ثم يفِرُّ، وأذلُّ منهما القتل. إذن: الذل يكون في الدنيا أمام المشاهدين له والمعاصرين لانكساره بعد تعاليه.
أما الخزي: نخزى يعني: يُصيبنا الخزي، وهو تخاذل النفس بعد ارتفاعها. ومن ذلك يقولون: أنت خزيت. يعني: كنت تنتظر شيئًا فوجدت خلافه.
ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 194] فإنْ عُجِّل لهم الذلُّ في الدنيا، فإن الخزي مُؤخَّر للآخرة حتى تكون فضيحتهم على رؤوس الأشهاد، كما يقولون فضيحة بجلاجل حيث يشهد خِزْيَهم أهلُ الموقف جميعًا.
وكلمة الخزي هذه لها معنا موقف طريف أيام كنا صغارًا نحفظ القرآن على يد سيدنا فضيلة الشيخ حسن زغلول عليه رحمة الله وكان رجلًا مكفوفَ البصر، وكنا نستلخمه فإذا وجدنا فرصة تفلّتنا منه وهربنا من تصحيح اللوح الذي نحفظه، فالذي يحفظ بمفرده هكذا من المصحف يكون عرْضة للخطأ.
ومن ذلك ما حدث فعلًا من زميل لنا كان اسمه الشيخ محمد حسن عبد الباري، وقد حضر مدير المدرسة فجأة، وأراد أن يُسمِّع لنا، وكان الشيخ عبد الباري لم يصحح لوحه الذي سيقرأ منه فقرأ: {إنك من تدخل النار} فقد أخزيته فقرأها بالراء بدلًا من الزاي، فضحك الشيخ طويلًا رحمه الله وقال: يا بني المعنى صحيح، لكن الرواية ليست هكذا.
فكنا نأخذها على الشيخ عبد الباري، فَمنْ أراد أنْ يغيظه قال: {إنك من تدخل النار} ويسكتْ!!
فشاء الله تعالى أن يتعرض كُلُّ منا لموقف مشابه يُؤْخَذ عليه، وقد أُخِذ عليَّ مثلُ هذا حين قرأت دون أنْ أُصحِّح اللوح أول سورة الشورى: {حم عسق} وقد سبق لي أن عرفت {حم} لكن لم يمر بي {عسق} فقرأت: {حم عَسَقَ} بالوصل، فصار الشيخ عبد الباري كلما قلت له: {إنك من تدخل النار} يقول: {حم}.
فقلنا سبحان الله:
مَنْ يَعِبْ يَوْمًا بشَيْء ** لَمْ يمُتْ حتَّى يَرَاهُ

إذن: فقول هؤلاء: {رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] تمحُّك منهم: لو أرسلت لنا رسولًا لاتبعناه من قبل أنْ نذلّ في الدنيا هزيمةً، أو أَسْرًا، أو قَتْلًا، ونخزى في الآخرة بفضيحة علنية على رؤوس الأشهاد.
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا}.
التربُّص: التحفُّز لوقوع شيء بالغير، تقول: فلان يتربص بي يعني: يلاحظني ويتابعني، ينتظر مني هَفْوة أو خطأ، فقوله: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ} [طه: 135] فكُلٌّ مِنَّا يتربص بالآخر، لأننا أعداء، كل منا ينتظر من الآخر هفوة ويترقب ماذا يحدث له.
وقد أوضح سبحانه وتعالى توجيهات التربُّص منه ومنهم في آية أخرى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52].
ماذا تنتظرون إلا إحدى الحُسْنيين: إما أن نموت في قتالكم شهداء، أو ننتصر عليكم ونُذِلكم، فأيُّ تربُّص يحدث شرف لنا، إما النصر أو الشهادة، فكلاهما حُسنْى، ونحن نتربّص بكم أنْ يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فكلاهما سوءة.
وما دام الأمر كذلك فتربَّصُوا بنا كما تحبون، ونحن نتربص بكم كما نريد؛ لأن تربصنا بكم يفرحنا، وتربصكم بنا يُؤلمكم ويُحزنكم.
ومعنى {قُلْ} [طه: 135] هنا أن القول {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} [طه: 135] ليست من عند محمد، فليس في يده زمام الكون ولا يعلم الغيب، فهو قَوْل الله الذي قال له {قل} يا محمد {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ} [طه: 135].
إذن: قيلتْ مِمَّن يملك أَزمّة الأمور وأعنّتها، ولايخرج شيء عن مراده تعالى، وربما لو قُلْت لكم من عندي تقولون: كلام بشر لا يملك من الأمور شيئًا. إذن: خذوها لا بمقياس كلام البشر، إنما بمقياس مَنْ يملك زمام أقْضية البشر كلها.
ثم يقول تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي وَمَنِ اهتدى} [طه: 135] متى سيحدث هذا؟ ساعةَ تقوم الساعة حيث الانصراف، إما إلى جنة، وإما إلى نار، ساعتها ستعلمون مَنْ أصحاب الصراط السوي: نحن أمْ أنتم؟ لكنه سيكون عِلْمًا لا ينفع ولا يُجدي، فقد جاء بعد فوات الأوان، جاء وقت الحساب لا وقت العمل وتلافي الأخطاء.
إنه عِلْم لا يترتب عليه عمل ينجيكم، فقد انتهى وقت العمل، وهكذا يكون عِلْمًا يُزيد حسرتهم، ويُؤذيهم ولا ينفعهم.
والصراط: الطريق المستقيم. والسَّويّ: المستقيم الذي لا عِوَجَ فيه ولا أَمْت.
وقال بعدها {وَمَنِ اهتدى} [طه: 135] لأنه قد يوجد الصراط السويّ، ولا يوجد مَنْ يسلكه، فالمراد: الصراط السَّوي ومَن اهتدى إليه وسلَكه.
وقد يظن ظانٌّ أن مسألة التربُّص هذه قد تطول، فيقطع الحق سبحانه هذا الظن بقوله في سورة الأنبياء الآتية بَعدْ: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1].
وهكذا تنسجم السُّورتان، ويتصل المعنى بين الآيات. اهـ.