فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع: ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال:
أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر.
الثاني: قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث: لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي.
الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس: أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة.
واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة.
الثاني: قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جائتهم النبوة.
ويدل عليه وجوه أحدها: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف.
الثاني: لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالًا من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضًا لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضًا فإنه يوم القيامة شاهد على الكل.
الثالث: لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال.
الرابع: ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحًا لغرضه.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطعيوه لدخلوا تحت قوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} وقال: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} الخامس: قال الله تعالى {أنهم كانوا يسارعون في الخيرات} ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم.
السادس: قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس إن الله سميع بصير} وقال تعالى: {إن الله اصطفى آدم وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} وقال تعالى في حق موسى: {إني اصفيتك على الناس برسلاتي وبكلامي} وقال تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه.
قال وأما المخالف فقد تمسك بآيات منها قصة آدم هذه.
والجواب عنها أن نقول إن كلامهم إنما يتم أن لو بينوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع ولم لا يجوز أن يقال إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبيًا وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وإن الله تعالى قبل توبته وشرفه بالنبوة والرسالة.
وقال القاضي عياض وأما قصة آدم {وعصى آدم ربه فغوى} أي جهل وقيل أخطأ فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} أي نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه.
وقيل لم يقصد المخالفة استحلالًا لها ولكنه اغتر بحلف إبليس له إني لكما لمن الناصحين وتوهم أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، وقيل نسي ولم ينو المخالفة فلذك قال ولم نجد له عزمًا أي قصدًا للمخالفة، وقيل بل أكل من الشجرة متأولًا وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة وقيل تأويل أن الله تعالى لم ينه نهي تحريم.
فإن قلت إذا نفيت عنهم الذنوب والمعاصي فما معنى قوله: {وعصى آدم ربه فغوى} وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه.
قلت إن درجة الأنبياء من الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده وعظم سلطانه وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وإنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ولم يؤمروا، وآتوها على وجه التأويل أو السهو وتزيدوا من أمور الدنيا المباحة أوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها فهم خائفون وجلون، وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم كان هذا أدنى أفعالهم وأسوأ ما يجري من أحوالهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه إن شاء الله تعالى.
قوله: {ثم اجتباه ربه} أي اختاره واصطفاه {فتاب عليه} أي عاد بالعفو والمغفرة {وهدى} أي هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار {قال اهبطا منه جميعًا} قيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبلس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم وحواء لأنهما أصل البشر فجعلا كأنهما البشر فخوطبا بلفظ الجمع {بعضكم لبعض عدو} وقيل في تقوية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس، ويحتمل أن يكون بعض الفريقين لبعض عدوًا {فأما يأتينكم مني هدى} أي كتاب ورسول {فمن اتبع هدايَ} أي الكتاب والرسول {فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك لأن الله تعالى يقول فمن اتبع هداي فلا يضل أي في الدنيا ولا يشقى أي في الآخرة {ومن أعرض عن ذكري} يعني القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه {فإن له معيشة ضنكًا} روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري م أنهم قالوا هو عذاب القبر.
قال أبو سعيد يضغط في القبر حتى تخلتف أضلاعه.
وفي بعض المسانيد مرفوعًا يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال يعذب حتى يبعث وقيل الزقوم والضريع والغسلين في النار، وقيل الحرام والكسب الخبيث.
وقال ابن عباس الشقاء وعنه قال كل ما أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة.
وإن قومًا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى.
وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا} يعني بصيرًا العين أو بصير بالحجة {قال كذلك} يعني كما {أتتك آياتنا فنسيتها} يعني فطردتها وأعرضت عنها {وكذلك اليوم تنسى} يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب {وكذلك نجزي من أسرف} يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك {ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد} يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر {وأبقى} يعني وأدوم قوله تعالى: {أفلم يهد لهم} يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة {كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} يعني في ديارهم ومنازلهم إذ سافروا وذلك أن قريشًا كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} أي لذوي العقول {ولولا كلمة سبقت من ربك} أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم {لكان لزامًا وأجل مسمى} تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازمًا لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.
{فاصبر على ما يقولون} نسختها آية السيف {وسبح بحمد ربك} أي صل بأمر ربك {قبل طلوع الشمس} يعني صلاة الفجر {وقبل غروبها} أي صلاة العصر {ومن آناء الليل} أي ومن ساعاته {فسبح} يعني فصل المغرب والعشاء قال ابن عباس يريد أول الليل {وأطراف النار} يعني صلاة الظهر سمي وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء {لعلك ترضى} أي ترضى ثوابه في المعادن وقيل معناه لعلك ترضى بالشفاعة، وقرئ ترضى بضم التاء أي تعطى ثوابه، وقيل يرضاك ربك.
ق عن جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: «إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» قوله لا تضامون بتخفيف الميم من الضيم، وهو الظلم والمعنى أنكم ترونه جميعًا لا يظلم بعضكم بعضًا في رؤيته وروي بتشديد الميم من الانضمام والازدحام، أي لا يزدحم ولا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته والكاف في قوله كما ترون هذا القمر كاف التشبيه للرؤية لا للمرئي وهي فعل الرائي، ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم هذا القمر ليلة البدر ولا ترتابون فيه ولا تشكون قوله: {ولا تمدن عينيك} قال أبو رافع نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال قل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بعني كذا وكذا من الدقيق أو سلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال والله لئن باعني أو أسلفني لقضيته إني لأمين في السماء وأمين في الأرض أذهب بدرعي الحديد إليه» فنزلت هذه الآية: {ولا تمدن عينيك} أي لا تنظر نظرًا تكاد تردده استحسانًا للمنظور إليه وإعجابًا به وتمنيًا له {إلى ما متعنا به} أي أعطينا {أزواجًا} أي أصنافًا {منهم زهرة الحياة الدنيا} أي زينتها وبهجتها {لنفتنهم فيه} أي لنجعل ذلك فتنة بأن تزيد النعمة فيزيدوا كفرًا وطغيانًا {ورزق ربك} أي في المعاد في الجنة {خير وأبقى} أي أدوم وقال أبي بن كعب من لم يعتز بالله تقطعت نفسه حسرات، ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ومن ظن أن نعمة الله عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه.
ف:
قوله تعالى: {وأمر أهلك} أي قومك وقيل من كان على دينك {بالصلاة} يعني بالمحافظة عليها {واصطبر عليها} يعني اصبر على الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وقيل اصبر عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول {لا نسألك رزقًا} أي لا نكلفك أن ترزق أحدًا من خلقنا ولا أن ترزق نفسك بل نكلفك عملًا {نحن نرزقك} أي بل نحن نرزقك ونرزق أهلك {والعاقبة للتقوى} أي الخصلة المحمودة لأهل التقوى قال ابن عباس الذين صدقوك واتبعوك وآمنوا بك وفي بعض المسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية قوله تعالى؛ {وقالوا} يعني المشركين {لولا يأتينا بآية من ربه} أي الآية المقترحة فانه كان قد أتاهم بآيات كثيرة {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} أي بيان ما فيها وهو القرآن لأنه أقوى دلالة وأوضح آية وقيل معنى ما في الصحف ما في التوراة والإنجيل وغيرهما من أخبار الأمم أنهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم لم يؤمنوا فعجلنا لهم العذاب والهلاك فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك وقيل بينة ما في الصحف الأولى هي البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وبعثته {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله} أي من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن {لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسلًا} أي لقالوا يوم القيامة أولًا أرسلت إلينا رسولًا يدعونا {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} بالعذاب والهوان والافتضاح {قل كل متربص} أي منتظر دوائر الزمان وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون وحوادث الدهر فإذا مات تخصلنا قال الله تعالى: {فتربصوا} أي فانتظروا {فستعلمون} أي إذا جاء أمر الله وقامت القيامة {ومن أصحاب الصراط السوي} يعني المستقيم {ومن اهتدى} يعني من الضلالة نحن أم أنتم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال ابن جزي:

{وَعَنَتِ الوجوه} أي ذلت يوم القيامة {وَلاَ هَضْمًا} أي بخسًا ونقصًا لحسناته {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي تذكرًا، وقيل: شرفًا وهو هنا بعيد {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي إذ أقرأك جبريل القرآن؛ فاستمع إليه واصبر حتى يفرغ، وحينئذ تقرأه أنت. فالآية: كقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]، وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه القرآن يأمر بكتبه في الحين، فأمر بأن يتأنى حتى تفسر له المعاني، والأول أشهر.
{عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ} أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة {فَنَسِيَ} يحتمل أن يكون النسيان الذي هو ضدّ الذكر، فيكون ذلك عذرًا لآدم أو يريد الترك، وقال ابن عطية: ولا يمكن غيره، لأن الناسي لا عقاب عليه، وقد تقدّم الكلام على قصة آدم وإبليس في البقرة.
{فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} أي لا تطيعاه فيخرجكما من الجنة، فجعل المسبب موضع السبب وخص آدم بقوله: {فتشقى} لأنه كان المخاطب أولًا، والمقصود بالكلام، وقيل: لأن الشقاء في معيشة الدنيا مختص بالرجال.
{لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} الظمأ هو العطش، والضحى هو البروز للشمس.
{يَخْصِفَانِ} ذكر في [الأعراف: 21] وكذلك الشجرة وأكل آدم منها ذكر ذلك في [البقرة: 35].
{اهبطا} خطاب لآدم وحواء {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة وجوابها {فَمَنِ اتبع} {فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة {مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ضيقة، فقيل إن ذلك في الدنيا، فإن الكافر ضيق المعيشة لشدّة حرصه وإن كان واسع الحال، وقد قال بعض الصوفية: لا يُعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقته وتكدر عليه عيشه، وقيل: إن ذلك في البرزخ، وقيل: في جهنم بأكل الزقوم، وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} أي يعني أعمى البصر.
{فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} من الترك لا من الذهول {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} أي عذاب جهنم أشدّ وأبقى من العيشة الضنك ومن الحشر أعمى.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} معناه: أفلم يتبين لهم، والضمير لقريش والفاعل بيهد مقدر تقديره: أو لم يهد لهم الهدى أو الأمر، وقال الزمخشري: الفاعل الجملة التي بعده، وقيل: الفاعل ضمير الله عز وجل، ويدل عليه قراءة {أفلم نهد} بالنون، وقال الكوفيون: الفاعل كم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} يريد أن قريشًا يمشون في مساكن عاد وثمود، ويعاينون آثار هلاكهم {لأُوْلِي النهى} أي ذوي العقول.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} الكلمة هنا القضاء السابق، والمعنى لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزامًا: أي واقعًا بهم {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} معطوف على {كَلِمَةٌ}: أي لولا الكلمة والأجل المسمى لكان العذاب لزامًا، وإنما أخره لتعتدل رؤوس الآي، والمراد بالأجل المسمى يوم بدر، وبذلك ورد تفسيره في البخاري، وقيل: المراد به أجل الموت، وقيل القيامة.
{وَسَبِّحْ} يحتمل أن يريد بالتسبيح الصلاة، أو قول سبحان الله وهو ظاهر اللفظ {بِحَمْدِ رَبِّكَ} في موضع الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح، ويحتمل أن يكون المعنى سبح تسبيحًا مقرونًا بحمد ربك فيكون أمرًا بالجمع بين قوله: سبحان الله وقوله الحمد لله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض» {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} إشارة إلى الصلوات الخمس عند من قال إن معنى {فَسَبِّحْ}: الصلاة، فالتي قبل طلوع الشمس الصبح، والتي قبل غربوها الظهر والعصر، ومن آناء الليل المغرب والعشاء الآخرة وأطراف النهار المغرب والصبح، وكرر الصبح في ذلك تأكيدًا للأمر بها، وسمى الطرفين أطرافًا لأحد وجهين: إما على نحو فقد صغت قلوبكما، وإما أن يجعل النهار للجنس، فلكل يوم طرف، وآناء الليل ساعاته، واحدها إني.
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ذكر في [الحجر: 88] ومدّ العينين هو تطويل النظر ففي ذلك دليل على أن النظر غير الطويل معفوّ عنه {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} شبه نعيم الدنيا بالزهر وهو النوار، لأن الزهر له منظر حسن، ثم يذبل ويضمحل، وفي نصب زهرة خمسة أوجه: أن ينتصب بفعل مضمر على الذم، أو يضمن {مَتَّعْنَا} معنى أعطينا، ويكون {زَهْرَةَ} مفعولًا ثانيًا له، أو يكون بدلًا من موضع الجار والمجرور، أو يكون بدلًا من أزواجًا على تقدير ذوي زهرة أو ينتصب على الحال.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم.
{لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك فتفرغ أنت وأهلك للصلاة فنحن نرزقك، وكان بعض السلف إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمركم الله، ويتلو هذه الآية: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} البينة هنا البرهان، والصحف الأولى هي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله بهذا الجواب، والمعنى قد جاءكم برهان ما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فلأي شيء تطلبون آية أخرى، ويحتمل أن يكون المعنى: قد جاءكم القرآن وفيه من العلوم والقصص ما في الصحف الأولى، فذلك بينة وبرهان على أنه من عند الله.
{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} الآية: معناها لو أهلكنا هؤلاء الكفار قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم لاحتجوا على الله بأن يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولًا، ولولا هنا: عرض فقامت عليهم الحجة ببعثه صلى الله عليه وسلم.
{قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أي قل كل واحد منا ومنكم منتظر لما يكون من هذا الأمر {فَتَرَبَّصُواْ} تهديد {الصراط السوي} المستقيم. اهـ.