فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} مقدر باذكر أي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} قد سبق القول فيه. {أبى} جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود وهو الاستكبار وعلى هذا لا يقدر له مفعول مثل السجود المدلول عليه بقوله: {فَسَجَدُواْ} لأن المعنى أظهر الإِباء عن المطاوعة.
{فَقُلْنَا يائادم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا} فلا يكونن سببًا لإِخراجكما، والمراد نهيهما عن أن يكون بحيث يتسبب الشيطان إلى إخراجهما. {مِنَ الجنة فتشقى} وأفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم عليها ومحافظة على الفواصل، أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال ويؤيده قوله.
{إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى}.
{وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى} فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنيًا عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها، ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر عنها، والعاطف وإن ناب عن أن لكنه ناب من حيث إنه عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن امتناع دخول إن عليه. وقرأ نافع وأبو بكر {وَإِنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا} بكسر الهمزة والباقون بفتحها.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} فانتهى إليه وسوسته. {قَالَ يَاءَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} الشجرة التي من أكل منها خلد ولم يمت أصلًا. فأضافها إلى الخلد أي الخلود لأنها سببه بزعمه. {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} لا يزول ولا يضعف.
{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سوءاتهما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستر وهو ورق التين {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ} بأكل الشجرة. {فغوى} فضل عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة، أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو. وقرئ {فغوى} من غوى الفصيل إذا أتخم من اللبن وفي النعي عليه بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم للزلة وزجر بليغ لأولاده عنها.
{ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من أجبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل معنى الكلمة الجمع. {فَتَابَ عَلَيْهِ} فقبل توبته لما تاب. {وهدى} إلى الثبات على التوبة والتثبت بأسباب العصمة.
{قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا} الخطاب لآدم وحواء، أو له ولإِبليس ولما كانا أصليَّ الذرية خاطبهما مخاطبتهم فقال: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لأمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب، أو لاختلال حال كل من النوعين بواسطة الآخر ويؤيد الأول قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنًى هُدًى} كتاب ورسول. {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ} في الدنيا. {وَلاَ يشقى} في الآخرة.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي. {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} ضيقًا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقرئ {ضنكى} كسكرى، وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكًا على ازديادها خائفًا على انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإِيمان كما قال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا} الآيات، وقيل هو الضريع والزقوم في النار، وقيل عذاب القبر {وَنَحْشُرُهُ} قرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفًا على محل {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} لأنه جواب الشرط. {يَوْمَ القيامة أعمى} أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول.
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} وقد أمالهما حمزة والكسائي لأن الألف منقلبة من الياء، وفرق أبو عمرو بأن الأول رأس الآية ومحل الوقف فهو جدير بالتغيير.
{قَالَ كذلك} أي مثل ذلك فعلت ثم فسره فقال: {أَتَتْكَ ءاياتنا} واضحة نيرة. {فَنَسِيتَهَا} فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها. {وكذلك} ومثل تركك إياها. {اليوم تنسى} تترك في العمى والعذاب.
{وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات والإِعراض عن الآيات. {وَلَمْ يُؤْمِنْ بئايات رَبِّهِ} بل كذب بها وخالفها. {وَلَعَذَابُ الآخرة} وهو الحشر على العمى، وقيل عذاب النار أي وللنار بعد ذلك. {أَشَدُّ وأبقى} من ضنك العيش أو منه ومن العمى، ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محله وحاله أو مما فعله من ترك الآيات والكفر بها.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه. {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها، والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون. {يَمْشُونَ في مساكنهم} ويشاهدون آثار هلاكهم. {إِنَّ في ذلك لأيات لأُوْلِى النهى} لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة. {لَكَانَ لِزَامًا} لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازمًا لهؤلاء الكفرة، وهو مصدر وصف به أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومه كقولهم لزاز خصم. {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على كلمة أي ولولا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم، أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لكان العذاب لزامًا والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، ويجوز عطفه على المستكن في كان أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له.
{فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وصل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، أو نزهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص حامدًا له على ما ميزك بالهدى معترفًا بأنه المولى للنعم كلها. {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} يعني الفجر. {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يعني الظهر والعصر لأنهما في آخر النهار أو العصر وحده. {وَمِنْ ءَانَاءِ اليل} ومن ساعاته جمع أنا بالكسر والقصر، أو أناء بالفتح والمد. {فَسَبِّحْ} يعني المغرب والعشاء وإنما قدم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمز ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ وَطًْا وَأَقْوَمُ قِيلًا} {وَأَطْرَافَ النهار} تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص، ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإِلباس كقوله:
ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُورِ التِرْسَيْنِ

أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس، أو بالتطوع في أجزاء النهار. {لَعَلَّكَ ترضى} متعلق ب {سَبِّح} أي سبح في هذه الأوقات طمعًا أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك. وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء للمفعول أي يرضيك ربك.
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي نظر عينيك. {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} استحسانًا له وتمنيًا أن يكون مثله. {أزواجا مِّنْهُمْ} وأصنافًا من الكفرة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في به والمفعول منهم أي الذي متعنا به، وهو أصناف بعضهم أو ناسًا منهم. {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} منصوب بمحذوف دل عليه {مَتَّعْنَا} أو {بِهِ} على تضمينه معنى أعطينا، أو بالبدل من محل {بِهِ} أو من {أزواجا} بتقدير مضاف ودونه، أو بالذم وهي الزينة والبهجة. وقرأ يعقوب بالفتح وهو لغة كالجهرة في الجهرة، أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهرو الدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنبلوهم ونختبرهم فيه، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه. {وَرِزْقُ رَبِّكَ} وما ادخر لك في الآخرة، أو ما رزقك من الهدى والنبوة.
{خَيْرٌ} مما منحهم في الدنيا. {وأبقى} فإنه لا ينقطع.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر بها ليتعاونوا على الاستعانة بها على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. {واصطبر عَلَيْهَا} وداوم عليها. {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أي أن ترزق نفسك ولا أهلك. {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} وإياهم ففرغ بالك لأمر الآخرة. {والعاقبة} المحمودة. {للتقوى} لذوي التقوى. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أصاب أهله ضرٌ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ} بآية تدل على صدقه في إهداء النبوة، أو بآية مقترحة إنكارًا لما جاء به من الآيات، أو للاعتداد به تعنتًا وعنادًا فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأبقاها، لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرًا وأبقى أثرًا فكذا ما كان من هذا القبيل، ونبههم أيضًا على وجه أبين من الوجوه المختصة بهذا الباب فقال: {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا في الصحف الأولى} من التوراة والإِنجيل وسائر الكتب السماوية، فإن اشتمالها على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع أن الآتي بها أُميّ لم يرها ولم يتعلم ممن علمها إعجاز بين، وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته برهان لما تقدمه من الكتب من حيث إنه معجز وتلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد على صحتها. وقرئ {الصحف} بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم {أَوَ لَمْ تَأْتِهِم} بالتاء والباقون بالياء.
{وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} من قبل محمد عليه الصلاة والسلام أو البينة والتذكير لأنها في معنى البرهان، أو المراد بها القرآن. {لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} بالقتل والسبي في الدنيا. {ونخزى} بدخول النار يوم القيامة، وقد قرئ بالبناء للمفعول فيهما.
{قُلْ كُلٌّ} أي كل واحد منا ومنكم. {مُّتَرَبِّصٌ} منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم. {فَتَرَبَّصُواْ} وقرئ {فتمتعوا}. {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصحاب الصراط السوي} المستقيم، وقرئ {السواء} أي الوسط الجيد و{السوآى} و{السوء} أي الشر، و{السوي} هو تصغيره. {وَمَنِ اهتدى} من الضلالة و{من} في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء، ويجوز أن تكون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط على أن المراد به النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم «من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار (1) رضوان الله عليهم أجمعين». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}.
التفسير:
في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها: أنه لما قال: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازًا للوعد. ومنها أنه لما قال: {وصرفنا فيه من الوعيد} أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد. ومنها أن قوله: {ولا تعجل بالقرآن} دليل على أنه صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطًا في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسومًا بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان. ومنها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول {رب زدني علمًا} ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيهًا على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل.
ومعنى {عهدنا إلى آدم} أمرناه ووصيناه {من قبل} أي من قبل محمد والقرآن. وفي النسيان قولان: أحدهما أنه نقيض الذكر. عن الحسن: والله ما عصي قط إلا بنسيان. والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال: أقدم على الأكل من غير تأويل. وأن يقال: أقدم عليه بتأويل قد مر في البقرة. قال أهل الإشارة: عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان. والعزم أيضًا فيه أقوال: أحدها عزمًا على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد. وثانيها عزمًا في العود إلى الذنب ثانيًا. وثالثها رأيًا وصبرًا أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلبًا يؤيس الشيطان من التسويل. قال جار الله: قوله: {ولم نجد له} يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه {له عزمًا} وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال: وعد مثاله عزمًا. قوله: {وإذ قلنا للملائكة} سلف في البقرة مستقصى قوله: {إن هذا عدوّ لك} ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شابًا عالمًا لقوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} وإبليس كان شيخًا جاهلًا لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله، والشيخ الجاهل أبدًا يكون عدوًّا للشاب العالم. وأيضًا الماء والتراب مضادان للنار {فلا يخرجنكما} فلا يكون سببًا لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه {فتشقى} فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له.
ثم بين ذلك الشقاء بقوله: {إن لك أن تجوع فيها} إلى آخره. والظمأ العطش وتقول: ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدودًا إذا برزت لها. والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها. ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي: الشبع والري الكسوة والكن. وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضًا ترجع إلى المذكورات. يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. {فوسوس إليه الشيطان} أنهى إليه وسوسة كما مر في الأعراف. بيان الوسوسة أنه {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي {وملك لا يبلى} أي لا ينقطع ولا يزول. قال القاضي: ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لابد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر.
وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف. ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال: {أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى: {فأكلا} بالفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي: زنى ماعز فرجم وما في الآية قد مر تفسيره في الأعراف إلا قوله: {وعصى آدم ربه فغوى} قال بعض الناس: إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفًا وشرعًا وقد ترتب الوعيد عليهما. وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوبًا. وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به. ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب. قالوا: يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لابد له أن يفعل ذلك، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلًا وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع. ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي إسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة. وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه {فغوى} أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود. وعن بعضهم {فغوى} أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله. ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصل تاركها بالعصيان.
قلت: في هذا نظر، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله: {ثم اجتباه ربه} أي اختاره للرسالة {وهدى} لحفظ أسباب العصمة. أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر الأعراف. يروى عن أبي أمامة: لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه. وقد قال الله تعالى: {ولم نجد له عزمًا} قال العلماء: فيه دليل على أنه لا رادَّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل من وسوسة {لولا كتاب من الله سبق} [الأنفال: 68] قال المحققون: الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن {وعصى آدم ربه فغوى} لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة.