فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وصيغة اسم الفاعل تنبىْ عن المزاولة، ولأن المسلم إذ تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك. {قال اهبطا} قد مر تفسير مثله في البقرة خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله: {فإما يأتينكم} أما قوله: {بعضكم لبعض عدوّ} فقد قال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام. عن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله: {فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى} والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة. وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها. ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر هاهنا هو الهدى المذكور لأن قوله: {ومن أعرض عن ذكري} في مقابلة قوله: {فمن اتبع هداي}. وقد مر في أول البقرة أن المراد به الشريعة والبيان. وقال كثير من المفسرين: إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص. والضنك الضيق مصدر وصف به. ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. يقال: منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل: ذات ضنك. قالت الحكماء: عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة. وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة. أما لأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشًا رافغًا. والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا. عن ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة. وسئل الشبلي عن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية» فقال: أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الأنسان إلى نفسه. قلت: التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفًا فكثيرًا ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضًا خوفًا من المآل.
وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «عذاب القبر للكافر» وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق في الآخرة وفي جهنم، وأ طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون.
أما قوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى} كقوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقًا} [طه: 102] فيمن فسر الزرق بالعمى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا} [الإسراء: 97] {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} [الإسراء: 72] قال الجبائي: أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرًا كالأعمى. وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال القاضي: هذا القول ضعيف لأنه لابد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازًا باعتبار ما كان، لكن قوله: {وقد كنت بصيرًا} ينافيه. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا. قال: والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سببًا لأعظم الآلام الروحانية. وأقول على القاضي: يحتمل أن يكون مجازًا باعتبار الغاية. فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة، ولا كونه بصيرًا في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافرًا معاندًا، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه: {كذلك} أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسر ذلك بقوله: {أتتك آياتنا} أي دلائلنا وضاحة مستنيرة {فنسيتها} أي تركت العمل بها والقيام بموجبها {وكذلك اليوم تنسى} تترك بلا فائدة النظر والاعتبار. وعلى الإمام الرازي: إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة. وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سببًا لتعذيبها فإن كان منعًا لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول، وإن كان تسليمًا لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه.
دليله قوله تعالى: {أتتك آياتنا فنسيتها} اللَّهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك. {وكذلك نجزي من أسرف} قيل: عصى ربه. والأظهر أنه أراد أشرك وكفر بدليل قوله: {ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة} وهو الحشر على العمى {أشد وأبقى} من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا.
ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال: {أفلم يهد لهم} بالفاء وفي السجدة بالواو، لأن الكلام هاهنا كالمتصل بقوله: {ومن أعرض عن ذكري} وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]. وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو، وأما حذف من هاهنا وإثباته هنالك فلما مر من أن {من} تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء. قال في الكشاف: فاعل: {لم يهد} الجملة بعده. وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلًا فلهذا قال: يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينًا لهم. وقال الزجاج: أراد أَوَ لَمْ نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا. وقيل: فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشًا يتقلبون في السورة. قال بعض أهل اللغة: إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله: {أولي النهى} كقوله: {أولي العزم} [الأحقاف: 35] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى.
ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلًا على من كذب من هذه الأمة فقال: {ولولا كلمة} هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن، أو لمصلحة أخرى خفية. قال أهل السنة: إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة. واللزام مصدر لازم وصف به. وقيل: فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي {لكان} الأخذ العاجل {لزامًا وأجل مسمى} وهو عذاب الآخرة. وقيل: يوم بدر معطوف على {كلمة} وجوز في الكشاف أن يكون معطوفًا على الضمير في كان. ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل.
وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات. زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلًا منهما معمول بها في موضعها {وسبح بحمد ربك} أي متلبسًا بحمده على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] ولأنه بين أوقاتها فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار {ومن آناء الليل فسبح} المغرب والعتمة. وقوله: {وأطراف النهار} أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس، أو لأن أقل الجمع اثنان. أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله: {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وآناء جمع أنى وهو الساعة وقد مر في آل عمران. وإنما قدم آنا الليل وأدخل الفاء في {فسبح} المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيهًا على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل في الإخلاص وأقرب من المحافظة على الخشوع والإخبات. وبعضهم أخرج من الآية صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب. وقال أبو مسلم: الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات.
وقوله: {لعلك ترضى} كقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الإسراء: 79] {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللَّهم ارزقنا شفاعته. ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال: {ولا تمدّن عينيك} أي نظر عينيك. ومد النظر تطويله استحسانًا للمنظور إليه، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض. وقال أبو مسلم: المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا. قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال: لا أقرضه إلا برهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض، أحمل إليه درعي الحديد فنزلت» والأزواج الأصناف. وقيل: أي أشكالًا وأشباهًا من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد مر في آخر الحجر. ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها. قال جار الله: انتصب. على الذم، أو على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا، أو على إبداله من محل {به} أو على إبداله من {أزواجًا} والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة.
ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضًا أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب. وقوله: {لنفتنهم} أي لنبلوهم كقوله: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم} [الكهف: 7] وقيل: لعذبهم كقوله: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم} [التوبة: 55]. وقال الكلبي ومقاتل: لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس. {ورزق ربك} هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة {خير وأبقى} وقيل: أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة. {وأمر أهلك} في سورة مريم {وكان يأمر أهله بالصلاة} [الآية: 55] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله. ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ {ولا تمدنّ عينيك} الآية. ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول: «الصلاة» وكان يفعل ذلك شهرًا وقوله: {واصطبر عليها} أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول {لا نسألك رزقًا} كما يريد الملوك خراجًا من رعيتهم والسادة خرجًا من عبيدهم {بل نحن نرزقك} كقوله: {وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 57- 58] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها. وقيل: لا نسألك رزقًا لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم: من كان في عمل الله كان الله في عمله. وقال أهل الإشارة {ورزق ربك} رمز إلى قوله: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» قال عبد الله بن سلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة. {والعاقبة} أي الجميلة {للتقوى}.
ثم عاد إلى قوله: {فاصبر على ما يقولون} فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم: {لولا يأتينا بآية من ربه} كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله: {أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى} لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله.
وقيل: أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه {بينة ما في الصحف الأولى} ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله} أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة {لقالوا} أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك وتلا قوله: {لولا أرسلت إلينا رسولًا} والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلًا أنتفع به. ويقول الصبي: كنت صغيرًا أعقل. فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى. فيقول الله تعالى: عسيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟!» وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا: لا يحسن العقاب على ما لم يفعل. وقال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا: هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن. وقال الكعبي: فيها أوضح دليل على أنه تعال يقبل الاحتجاج من عباده. وليس معنى قوله: {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] أن الجور منه يكون عدلًا بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل. وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة. واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلًا قبل مجيئه. ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال: {قل كل} أي كل منا ومنكم {متربص} عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق المبطل ويؤيده قوله: {فستعلمون} إلى آخره وهذا من كلام المنصف والله المستعان. تم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها، فقال: {وعنت الوجوه} أي: ذلت وخضعت في ذلك اليوم، ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره، وخص الوجوه بالذكر مع أن المراد الأشخاص لشرف الوجوه، ولأنها أول ما يظهر فيها الذل {للحي} الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل {القيوم} الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت؛ روى ابن أسامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث: البقرة وآل عمران، وطه» قال الرازي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم {وقد خاب} أي: خسر خسارة ظاهرة {من حمل ظلمًا} قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله، والظلم الشرك. ولما شرح الله تعالى أحوال القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين، فقال: {ومن يعمل من الصالحات} أي: التي أمره الله تعالى بها بحسب طاقته؛ لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه {وهو مؤمن} ليكون بناؤها على الأساس كما في قوله تعالى: {ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصالحات} ظه.
{فلا يخاف ظلمًا} أي: بزيادة في سيئاته {ولا هضمًا} أي: بنقص من حسناته؛ قاله ابن عباس، وقيل: لا يؤاخذ بذنب لم يعمله، ولا تبطل حسنة عملها، وعبّر تعالى بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سببًا لذلك الحال، وأما غير المؤمن، فلو عمل أمثال الجبال لم يكن لها وزن، وقوله تعالى: {وكذلك} معطوف على قوله تعالى: {وكذلك نقص}، أي: ومثل إنزال ما ذكر {أنزلناه} أي: القرآن {قرآنًا} جامعًا لجميع المعاني المقصودة، ثم وصفه تعالى بأمرين؛ أحدهما: قوله تعالى: {عربيًا} أي: بلسان العرب ليفهموه، ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر، الثاني: قوله تعالى: {وصرّفنا فيه من الوعيد} أي: كرّرناه، وفصلناه، ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم؛ لأن الوعد بهما يتعلق بتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام، فلذلك قال تعالى: {لعلهم يتقون} أي: يجتنبون الشرك والمحارم، وترك الواجبات، فتصير التقوى لهم ملكة {أو يحدث لهم ذكرًا} أي: عظة واعتبارًا حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم، والأحداث إلى القرآن.