فصل: مطلب وصف الكفرة كلام اللّه والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب وصف الكفرة كلام اللّه والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:

واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء الكفرة لم يكتفوا بقولهم لك ساحر والقرآن سحر {بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ} أباطيل رآها في نومه، ثم انتقلوا إلى ما هو أفظع فقالوا: {بَلِ افْتَراهُ} اختلقه من نفسه، ثم أضربوا فقالوا {بَلْ هُوَ شاعِرٌ} وذلك أن الكفرة تضاربت آراؤهم وتنافت أقوالهم إذ اختلفوا في وصف محمد وما يتلوه عليهم على ثمانية أقوال:
1- منهم من قال إن ما يأتي به من أساطير الأولين وهو ناقل لها.
2- ومنهم من قال يتعلم من الغير ويتلوه عليكم.
3- ومنهم من قال القرآن كهانة ومحمد كاهن.
4- ومنهم من قال إنه سحر وهو ساحر.
5- ومنهم من قال إنه شعر وهو شاعر.
6- ومنهم من قال إنه نثر مسجع وهو ألفه.
7- ومنهم من قال اختلقه من نفسه وهو مختلق مبتدع.
8- ومنهم من قال أباطيل نوم يراعا وينسبها إلى اللّه.
قاتلهم اللّه وعذبهم في أصناف ناره وحرمهم من أنواع جنته، وقد كذبوا كلهم فيما تقولوه ولمّا عرفوا أنهم لم يصيبوا الهدف تحدوه فقالوا {فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ} من لدن ربه تدل على صحة دعواه {كَما أُرْسِلَ الأولونَ} 5 بالآيات مثل موسى وعيسى ومن قبلها، ومن هنا يفهم أن ما قاله بعضهم إن المراد بالذكر المحدث في الآية الثانية المارة هو قول الرسول.
قول لا قيمة له ولا يستند إلى قول بل المراد ما ذكرناه في تفسيرها لا غير واللّه أعلم.
قال تعالى رادا عليهم قولهم ومجيبا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكِناها} من الأمم السالفة الذين اقترحوا الآيات على أنبيائهم لأنهم كذبوا بها بعد نزولها فأهلَكِناهم {أَفَهُمْ} قومك هؤلاء العريقون في الكفر إذا أنزلنا عليهم آية {يُؤْمِنُونَ} 6 كلا لا يؤمنون ولو آتيناهم كل آية، وهذا من إطلاق الكل وإرادة الجزء لأن منهم من آمن ومنهم من أصر فالمخبر عنهم بعدم الإيمان هم المصرّون على كفرهم وقال تعالى في معرض الرد عليهم أيضا: {وما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} مثلك فكيف يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} جمع الضمير للتعظيم وسببه افتضاء المقام لتعظيمه أمام قومه، أي اسأل يا محمد علماء أهل الكتابين الذين سألهم قومك بماذا يختبرونك وقالوا لهم سلوه عن أهل الكهف وذي القرنين والروح، كما تقدم في الآية 9 من سورة الكهف المارة، فقل لمثل هؤلاء هل أرسل اللّه للأولين ملائكة كما يزعمون فإنهم يجيبونك حتما بأن اللّه لم يرسل إلى البشر إلا بشرا مثلهم {إِنْ كُنْتُمْ} يا رسولنا {لا تَعْلَمُونَ} 7 ذلك راجع نظيره هذه الآية الآية 47 من سورة النحل المارة بزيادة لفظ من فقط {وما جَعَلْناهُمْ} أي الرسل قبلك يا حبيبي {جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ} حتى يقولوا {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} الآيتين 8/ 20 من الفرقان، وجاءت هذه الآية بمعرض الرد لهذا القول لأنهم لا زالوا يترنمون بهذه الأباطيل وينكرون ما تنلوه عليهم بقولهم المجرد إذ لا حجة لهم ولا برهان على إبطاله لذلك تراهم يتمسكون بهذه الأقاويل الفارغة ويكررونها {وما كانُوا خالِدِينَ} 8 في الدنيا بل يموتون كغيرهم وما أنت إلا مثلهم تموت أيضا فلا محل لا نتقادك بذلك {ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ} بنصرهم وإهلاك أعدائهم في الدنيا أما الأنبياء إخوانك {فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نشاء} من أتباعهم الصادقين {وَأَهْلَكِنا الْمُسْرِفِينَ} 9 بالمعاصي والتعدي على الغير هلاك استئصال، قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا} عظيما جليلا يا معشر قريش على أشرف رجل منكم وهذا سفر خطير {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} شرفكم بين الأمم وشرعكم الشامل لهم ودينكم الذي تدينون فيه فهو أكبر النعم عليكم إذ جاء بلسانكم فلكم فيه الفخر على غيركم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} 10 هذه النعم العظيمة وتعضوا عليها بالنواجذ وتعملوا بكتابكم هذا فتحلّوا حلاله وتحرموا حرامه {وَكَمْ قَصَمْنا} قصفنا والقصم الكسر مع تفريق الأجزاء وإذهاب التئامها، والمعنى أنا عجلنا عقوبتهم لاشتداد غضبنا عليهم ولم نمهلهم لشدة إصرارهم، وقد جرت سنتنا أن لا نمهل ظالما {مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً} مصرة بل دككناها بما فيها وما عليها {وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوما آخَرِينَ} 11 فأسكناهم فيها بدلهم فتبعوا أثرهم بالفسق والطغيان قال:
ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ** وعرّج على الباقي وسائله لم بقي

قال تعالى: {فَلَمَا أَحَسُّوا بَأْسَنا} عذابنا وشاهدوه بحاسة بصرهم بعد أن أنذرناهم وحذرناهم {إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ} 12، هربا من القرية كي لا يصل إليهم العذاب الذي رأوه أظلهم فقيل لهم {لا تَرْكُضُوا} يا قوم فليس بنافع جري إذا جاء القضاء بالعذاب وقد مر في الآية 13 من سورة ص أن الركض ضرب الأرض بالرجل أي بعقبها وجاء هنا بمعنى الجري على اللغة الدارجة لأن القرآن العظيم جاء فيه من كافة اللغات مما هو أحسنها {وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من التنعم بالعيش والترف في اللباس والترفه في السكنى {وَمَساكِنِكُمْ} التي زخرفتموها في الدنيا أي تقول لهم الملائكة ذلك على طريق الاستهزاء والسخرية بهم {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} 13 من قبل الغير عما جرى بكم من العذاب وعن السبب الذي أوقعكم فيه فتجزون به، قيل نزلت هذه في أهل حصوه قرية باليمن كان أهلها عربا حينما قتلوا نبيهم بعد أن كذبوه فسلط اللّه عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم فصاروا يهربون منهم فأدركوهم وقد أخذتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء بالثارات الأنبياء، ولما لم يروا بدا اعترفوا و{قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} 14 بتكذيب الرسل وقتلهم ولَكِن لم ينفعهم الندم بعد نزول العذاب {فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ} أي قولهم يا ويلنا وهم يقتلون ويذبحون متوالية {حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيدًا} كالزرع المحصود {خامِدِينَ} 15 لا حراك بهم، وفي هذه الآية تحذير لأهل مكة وتخويف عظيم وتهديد شديد بأنهم إذا لم يرجعوا عن غيهم يكون مصيرهم مثل مصيرهم، قال تعالى: {وما خَلَقْنَا السماء وَالأرض وما بَيْنَهُما} وما فيهما من العجائب والبدائع {لاعِبِينَ} 16 لأن اللعب يروق ساعة أوله ولا ثبات له وإنما خلقناهما لفوائد كثيرة همها الاستطلاع على قدرتنا والتبصّر في باهر حكمتنا وأرسلنا الأنبياء ليكفروا الخلق فيها وإلا لما كان من حاجة لإرسالهم لو كان خلقها لمجرد اللهو، ثم نزّه ذاته المقدسة فقال: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} نلهو به من امرأة أو ولد أو خدم أو جنات أو أموال وأنعام {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا} في الجنة من الحور والولدان لا من عندكم ولَكِنا لم نتخذ {إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} 17 ما تنفوهون به وهذا ممتنع علينا لغنانا عنه واحتياج الكل إلينا، فالولد والزوجة لا يكونان إلا عند الأب والزوج لا يكونان عند غيره، وقال بعض المفسرين ان إن هنا نافيه أي ما كنا فاعلين وعليه يكون الوقف على لدنا لا على فاعلين والأول أي اعتبار إن شرطية محذوفة الجواب الدال عليه ما قبلها وهو لاتخذناه أولى بسبك العبارة والثاني أبلغ في النفي فقط تأمل، وفي هذه الآية رد وتقريع على من ينسب له تعالى الصاحبة والولد تبرأت ذاته المقدسة عنهما، ولذلك بقول بعض النصارى إن مريم صاحبة للّه وعيسى ابنه، واليهود يقولون إن عزيزا ابنه، والعرب تقول الملائكة بناته، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا أي لَكِنا لنا ممن يفعل ذلك لاستحالته في حقنا، وإنما نفى اللهو جل جلاله عنه لأنه نقص وهو مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب منه وهذا ليس من قبيل الوجوب عليه بل القول بالوجوب عنه وهو واجب علينا، ومن أنكر أن اللعب نقص كالكذب فقد كابر، ولا داعي لمن قال إن اللهو يراد به الجماع ويكنّى عنه به وعن المرأة واستشهد بقول امرئ القيس:
الا زعمت بسباسة القوم أنني ** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

إذ لا حاجة لقلب الحقيقة إلى المجاز دون صارف.
ثم أضرب جلّ اضرابه فقال: {بَلْ نَقْذِفُ} نرمي ونطرح {بِالْحَقِّ} القرآن والإيمان به {عَلَى الْباطِلِ} الكفر والشرك {فَيَدْمَغُهُ} يمحقه ويدمره {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} مضمحل مدحوض ذاهب لا أثر له، وقال بعض المفسرين المراد بالحق هنا الجد وبالباطل اللهو لأن الآية هذه مسوقة لما قبلها، وهو وجيه لولا الإضراب الموجود لأنه ينافي كونها مسوقة لما قبلها بل يفيد الانتقال عنها لمعنى آخر لأن الاضراب لا يأتي إلا لمغزى غير مغزى ما قبله وهو ما ذكرناه واللّه أعلم {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أيها الكفرة والهلاك {مِمَا تَصِفُونَ} 18 الحضرة الإلهية مما لا يليق بها، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأرض وَمَنْ عِنْدَهُ} من الملائكة إنما خصهم بالذكر مع أنهم داخلون في معنى من اعتناء بهم، لأنهم لا شغل لهم إلا التقديس والتنزيه لحضرته الكريمة يدل عليه قوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} 19 لا يعيون ولا يكلّون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} بلا انقطاع {لا يَفْتُرُونَ} 20 عن تعظيمه وتكبيره وتسبيحه لأنه جار منهم مجرى التنفس من بني آدم فلا يلحقهم فيه سامة ولا تعب بل يتلذذون به ولا يمنعهم عن التكلم بغيره كما لا يمنع ابن آدم النفس عن الكلام فلا يرد عليه قول القائل إن من الملائكة من هو مشغول بتبليغ الرسل ومنهم من هو موكل بلعن الكفرة ومنهم من هو مشغول بتقليب الرياح وغير ذلك.
مطلب برهان التمانع ومعنى فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما:
قال تعالى يا أكمل الرسل قل لهؤلاء الذين يزبتون لخلقي عبادة غيري أتتخذوا إلها من السماء كلا إذ لا إله غيري: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرض} من أحجارها وأخشابها ومعادنها لأن الأصنام تعمل منها أو من بعضها ولا إله فيها ولمن فيها غيري وهل ما اتخذوه {هُمْ} أي الآلهة المتخذة من صنع أيديهم {يُنْشِرُونَ} 21 يحيون الموتى مثلي، كلا لا يقدرون على ذلك ولا يستحق العبادة إلا من يقدر على الإحياء والإماتة والإيجاد من العدم إلى الوجود ولا قادر على هذا غيري فأنا المستحق للعبادة وحدي، وأنت يا سيد الرسل قل لهم {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} أي السموات والأرض وإذا فسدتا فسد من فيهما وما بينهما، لأن كل أمر يصدر عن اثنين لم يجر على انتظام بل يفضي إلى المحال، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلابد أن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل منهما قادرا على إماتة زيد مثلا وإحيائه فإذا أراد أحدهما إماتته وأراد الآخر إحياءه أي إبقاءه حيا فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال أيضا لأن المانع من وجود مراد كل منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معا لوجدا معا وذلك محال أيضا، أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك أيضا محال لأمرين: الأول لو كان كل واحد منهما قادرا على مالا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لابد وأن يستويا بالقدرة، فإذا استويا فيها استحال أن يكون مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الآخر النّافي له وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح، الثاني إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده كان قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص والنقص يستحيل وجوده مع الإله.
ولو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور واحد من قادرين اثنين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا فيلزم استغناؤه عنهما واحتياجه لهما معا وذلك محال، وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد.
قال تعالى: {وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} الآية 91 من المؤمنين الآتية، وهذه وحدها كافية للاستدلال على عدم وجود إله غير اللّه الواحد لمن كان له قلب حي أو ألقى السمع الواعي، وسيأتي تمام البحث في هذه عند تفسير هذه الآية، قال الإمام فخر الدين الرازي: القول بوجود إلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا.
أو تقول لو قدرنا وجود إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فيكون مقدورا لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقعا أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات.
وأعلم رعاك اللّه ووفقك لهداه وأرشدك لمرماك إنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلائل عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات، والكائنات دليل على وحدانية اللّه تعالى عقلا، ولهذا وجبت معرفة اللّه تعالى بالعقل فضلا عن النقل، فكل من وهيه اللّه عقلا كاملا ولم يعترف بوجوب وجود الإله الواحد فهو كافر، ولهذا أول بعض المفسرين قوله تعالى: {وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية 15 من الإسراء، بأن الرسول هنا معناه العقل ولَكِنا فئدنا هذا القول في تفسير هذه الآية فراجعها، وذلك لأن الدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن والسنة غنية عن البيان لأن القرآن كله طافح بها وأقوال المصطفى صائحة فيها، ومن قال إن معنى هذه الآية التي اشتهرت ببرهان التمانع لو كان في السماء والأرض آهة كما يقول عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير شيء مما في هذا العالم فيلزم فساده غفل عن قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} الآية المتقدمة لا الآتية بأنها مسوقة للزجر عن عبادة الأوثان وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك.
وبعد هذا الزجر أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدا، تنبه، ولهذا نزه نفسه المقدسة بقوله: {فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَا يَصِفُونَ} 22 من الشرك والولد والصاحبة والمثيل وغيرها {لا يُسْئَلُ عَمَا يَفْعَلُ} في كونه لأنه متفرد فيه {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} 23 ما عداه من جميع الكائنات عما يقع منهم وهذا مما لا ريب فيه لأنا نرى بعض ملوك الأرض لا تسأل عما تفعل لأنهم نصوا في دستورهم المطبق على رعاياهم ذات السلطان مقدسة وغير مسئولة فكيف بملك الملوك حقيقة في الدنيا والآخرة لا مجارا ولا في الدنيا فقط.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} استفهام إنكاري وتوبيخ للمشركين لأنه لمّا أبطل كون آلهة غيره بما مر أنكر عليهم اتخاذهم آلهة غيره فقال: {أم اتخذوا} إلخ، وكلفهم الحجة على زعمهم فقال يا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء الكفرة {هاتُوا بُرْهانَكُمْ} على وجود إله غير اللّه وإذا كنتم تحتجون بالكتب القديمة فهو كذب لأن {هذا} القرآن المنزل عليّ فيه {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} من أصحابي الموجودين في هذه الدنيا {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم السالفة ومعاني ما أنزل على إخواني الأنبياء من الكتب والصحف موجودة فيه أيضا، لأنه يحتوي على جميع الكتب السماوية المتعلقة بالتوحيد ولا يوجد فيه ما تزعمون، وها هي ذي الكتب الأخرى التوراة والإنجيل والزبور أنظروها هل تجدون فيها شيئا مما يدل على أن اللّه اتخذ ولدا أو صاحبة أو كان معه إله آخر؟ كلا لا تجدون شيئا من ذلك البتة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} المنزل عليك من عندنا {فَهُمْ} لعدم معرفتهم وجهلهم {مُعْرِضُونَ} 24 عن النظر والاستدلال فيما لهم وعليهم.
قال تعالى: {وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 25 وحدي وهذا تقرير لما سبق من آي التوحيد لأن هذه الآية تشير إلى أن اللّه تعالى أخذ العهد على الأنبياء ولرسل كافة بأنه لا إله في الكون غيره وأن يعبده من فيه وحده، فكل ما يقال بخلاف هذا كذب محض وبهت مفترى، ثم طفق يندّد بصنيعهم الفاسد فقال: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا} أول من قال هذا من العرب خزاعة ثم قلدهم غيرهم {سُبْحانَهُ} تبرأ عن ذلك {بَلْ} هم الملائكة الذين يزعمونهم بنات اللّه {عِبادٌ مُكْرَمُونَ} 26 عنده لاستغراقهم بعبادته وأدبهم معه {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} فيستقدمون به عليه بل يتبعونه ويقنفون أثر كلامه الجليل {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 27 لا يخالفونه قيد شعرة ولا أقل منها قولا ولا عملا {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ} من الأفعال والأقوال التي وقعت منهم أو لم تقع في الحال أو التي ستقع بعد لا يخفى عليه شيء من أمر غيرهم {وَلا يَشْفَعُونَ} لأحد كما يزعم من عبدهم وكذلك بقية الملائكة وجميع الرسل والأنبياء والأولياء {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} اللّه الشفاعة له ورضي عنه وأذن لهم أن يشفعوا لمن يشاء، راجع الآية 55 من البقرة والآية الثانية من سورة يونس المارة والآية 23 من سورة سبأ المارة وما تدلك عليه {وَهُمْ} كغيرهم من العباد العارفين مقام الألوهية الحقة كذلك تراهم {مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 28 وجلون دائما لا يأمنون على أنفسهم منه لأن من قرب من الملك وعرف عظمته وبطشه صار أكثر الناس خوفا منه، وجاء في الخبر: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون هلكى إلا العارفون، والعارفون على خطر عظيم.
ثم شرع يهددهم، يا ويل من أغضب الجبار القائل {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} أي الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم فضلا عن الرعاع والجماد فأي كان من مخلوقاته جزؤ فقال: {إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} وناهيك بها من جزاء شديد {كَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الفظيع {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 29 الذين وضعوا مقام الإلهية بغير موضعها.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالأرض كانَتا رَتْقًا} شيئا واحدا ملتصقتين ببعضهما {فَفَتَقْناهُما} عن بعضهما وخللنا الهواء بينهما فجعلنا هيكلا علويا على حدة وهيكلا سفليا، والمراد من السموات طائفتها ولهذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأرض أَنْ تَزُولا} الآية 42 من سورة فاطر، وعليه قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما ** دون المحارم يرقبان سواري

وقد أفرد الخبر وهو رتقا لأنه مصدر وأصل الرتق الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة، ومنه الرتقاء من كانت ملتحمة محل الجماع، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في سورة فاطر المذكورة وله صلة في الآية 66 من سورة الحج فراجعهما، {وَجَعَلْنا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} من حيوان ونبات إذ يدخل في معنى شيء النبات والشجر لأن الماء سبب حياتهما وحياة كل شيء، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ} الآية 45 من سورة النور، فيدخل في معنى دابة الإنسان لأن لفظ دابة موضوع لكل ما دب على وجه الأرض، وخرج هذا مخرج الأغلب لأن آدم وحواء وعيسى والملائكة والجن لم يخلقوا من الماء كما ذكرنا ذلك عند ذكر كل منهم {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} 30 هؤلاء الكفار بألوهية من يفعل ذلك، وهذه الآية من معجزات القرآن العظيم لأنه لم يكن في مكة ولا في العالم زمن نزول القرآن من يعرف أن الموجودات كانت كتلة واحدة، ثم فتقت فتكونت منها السموات ثم الأرض ثم المخلوقات، ولا من يعلم أن أصل كل الموجودات الماء ولم يعرف أحد شيئا من هذا إلا بالعصور الأخيرة، راجع الآية 7 من سورة هود المارة.
قال تعالى: {وَجَعَلْنا فِي الأرض رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} لأنها كانت تتحرك بالهواء كالسفينة في الماء، فأثقلها اللّه تعالى بالجبال الثوابت، وفيها إشارة إلى ما يعبّر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة، لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض، راجع الآية 22 من سورة الحجر المارة {وَجَعَلْنا فِيها فِجاجًا} طرقا واسعة بين الجبال {سُبُلًا} تفسير للفجاج أي طرق سهلة {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 31 بها إلى مقاصدهم من البلاد والقرى والبوادي إذا سلكوها، والفرق بين هذه الآية وقوله تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجًا} الآية 20 من سورة نوح المارة، أن هذه للإعلام بأنه جعل فيها طرفا واسعة، وتلك لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الحالة والصفة، فهو بيان لما أنهم {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفًا مَحْفُوظًا} من البلى والسقوط والتغير على مدى الدهر المقدر لها، قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السماء أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إِلَّا بِإِذْنِهِ} الآية 65 من سورة الحج، والآية 42 من سورة فاطر، {وَهُمْ} الكفار {عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ} 32 لا يتفكرون بما فيها من الشموس والأقمار والكواكب والنجوم وحركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها وترتيبها العجيب الدال على الحكمة الباهرة والنظام البديع المنبئ عن كمال القدرة القاهرة.