فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

في الآية تأويلان:
أحدهما: أنهم ليسوا أمواتًا وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام.
والثاني: أنهم ليسوا بالضلال أمواتًا بل هم بالطاعة والهدى أحياء، كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فجعل الضالَّ ميتًا، والمُهْتَدي حيًا.
ويحتمل تأويلًا ثالثًا: أنهم ليسوا أمواتًا بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر. اهـ.
وقد رجح القول الأول الإمام فخر الدين الرازى فقال:
اعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول، والذي يدل عليه وجوه:
أحدها: الآيات الدالة على عذاب القبر، كقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر، وقال الله تعالى: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا} [نوح: 25] والفاء للتعقيب، وقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضًا لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى، فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر، كان ذلك في الثواب أولى.
وثانيها: أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} معنى لأن الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة، وأنهم ماتوا على هدى ونور، فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم.
وثالثها: أن قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} [آل عمران: 170] دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث.
ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته: «وأعوذ بك من عذاب القبر».
وخامسها: أنه لو كان المراد من قوله: أنهم أحياء أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة، أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69] فأرادهم بالذكر تعظيمًا.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر. اهـ.
سؤال: فإن قيل: فنحن نراهم موتى، فما وجه النهي؟
فالجواب أن المعنى: لا تقولوا: هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتًا من جهة خروج الأرواح، ذكره ابن الأنباري. اهـ.

.قال الألوسي:

اختلفوا في المراد بالجسد، فقيل: هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الأحياء، فقد جاء في الحديث: «إن المؤمن يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس» مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل: جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه، واستدل بما أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة» ولا يعارض هذا ما أخرجه مالك، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة» ولا ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعًا «إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش» لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها، وقيل: جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال: رأيت فلانًا وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية واستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسندًا إلى يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله جالسًا فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله: سبحان اللها المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. ووجه الاستدلال إذا كان المراد بالمؤمنين الشهداء ظاهر، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره، وأن الأرواح وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال. اهـ.
سؤال:
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
والجواب عن هذا أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساءهم بإجماع المسلمين، وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم: «بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها» وقال: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات». واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا، أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم: «تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك» وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وأن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق كما قال في جنس ذلك {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} ولو كانت كالحياة التي يعرفها آهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول وميراث الجد والاخوة ونحو ذلك.
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى بل أحياء، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا، ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ويعقل المعاني والله تعالى أعلم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح ما نصه:
ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طرى مطرا وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب، وقد صح عنه «إن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام»، وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: «هكذا نبعث» هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء، وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين، فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان. انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه، وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا. قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} والعلم عند الله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} وَفِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ، وَالشَّهِيدُ حَيٌّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّهِيدَ فِي حُكْمِ الْحَيِّ فَلَا يُغَسَّلُ، فَكَذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَطْهِيرٌ، وَقَدْ طُهِّرَ بِالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ شَفَاعَةٌ وَقَدْ أَغْنَتْهُ عَنْهَا الشَّهَادَةُ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُهَا، وَسُقُوطُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَشْرُوطِ.
وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِمْ، لَا يَصِحُّ فِيهِ طَرِيقُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا سِوَاهُ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال عصام الدين: قدم الترك على الفعل لأن التخلية قبل التحلية ولهذا قدم النفي في كلمة التوحيد. اهـ.

.الفرق بين الشهيد وغيره:

الفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم.
وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ» قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، زاد ابن ماجه: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ»، قال القرطبيُّ في تذكرته: هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجه: «ستَّ خِصَالٍ» وهي في متن الحديث سَبْعٌ، وعلى ما في ابن ماجه: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ» تكون ثمانيًا، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ». انتهى.
وخرَّج الترمذيُّ، والنسائِيُّ عنْه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ». انتهى.
روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ»، وروي: «أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ»، ورويَ: «أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ»، إِلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ، أو للجميع في أوقات متغايرة.
وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب الإِفصاح أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ؛ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب التذكرة: وهذا قول حَسَنٌ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع. انتهى.
قال: وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة؛ ويؤيِّده قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى».
وقال مجاهد: هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا، وفي مختصر الطبريِّ، قال: ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أمْوَاتٌ، وأعْلَمَ سبحانه أنهم أحياءٌ، ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك؛ إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة على أنه قد ورد في الحديثِ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ»، ومعنى: يُعَلَّق: يأكل؛ ومنه قوله: ما ذقْتُ عَلاقًا، أي: مأكلًا، فقد عم المؤمنين؛ بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم، واللَّه أعلم. انتهى.
وروى النسائيُّ أن رجلًا قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ؟ قَالَ: «كفى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً». انتهى.
وحديثُ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ» خرَّجه مالك رحمه اللَّه. قال الدَّاووديُّ: وحديث مالكٍ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل. انتهى.
قال أبو عُمَرَ بْنُ عبْدِ البَرِّ في التمهيد: والأشبه قولُ من قال: كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ؛ لموافقته لحديثِ الموطأ، هذا وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ، ولم يذكر مطعنًا في إسنادها. انتهى.
قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}.
{بل} للإضراب الإبطالي إبطالًا لمضمون المنهي عن قوله، والتقدير بل هم أحياء، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ، فقوله: {أحْيَاء} هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد {بل} الإضرابية.
وإنما قال: {ولكن لا تشعرون} للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث: «إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها». والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسدًا مناسبًا للجنة ليكون وسيلة لنعميها. اهـ.