فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

إن الله سبحانه جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
وجعل لكل دار أحكاما تختص بها وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية والأبدان كالقبور لها والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها تجرى أحكام البرزخ على الأرواح فتسرى إلى أبدانها نعيما أو عذابا كما تجرى أحكام الدنيا على الأبدان فتسرى إلى أرواحها نعيما أو عذابا فأحط بهذا الموضع علما واعرفه كما ينبغى يزل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج وقد أرانا الله سبحانه بلط فهو رحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجرى على روحه أصلا والبدن تبع له وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه ويذهب عنه الجوع والظمأ وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى وهى متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا.
ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مرية فيه وإن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم

وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه وليس عند أحدهما خبر عند الآخر فأمر البرزخ أعجب من ذلك. اهـ.
سؤال: إن قلت: هلا قيل: لمن قتل في سبيل الله بلفظ الماضي؟
قال ابن عرفة أجيب عنه بوجهين:- الأول: أن ابن عطية قال: سبب نزولها أن الناس قالوا فيمن قتلوا ببدر وأحد مات فلان وفلان فكره الله تعالى أن يحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم فنزلت الآية. وغزوة بدر وأحد هما أعظم الغزوات وما بعدهما من الغزوات دونهما بلا شك فلو كان الفعل ماضيا لتوهم خصوصية هذه الفضيلة بمن قتل في الغزوتين فقط فأتى به مضارعا ليدل على عمومها فيمن بعدهم وفيهم من باب أحرى.
الثاني: لو قال: قتل لكان فيه إيحاش ووصم عليهم لأنهم كانوا متأسفين على من قتل منهم فيتذكرونهم بهذا ويزداد حزنهم عليهم، ولا يقال: قتل فلان غالبا إلا فيمن يفتجع عليه أو يفرح لموته فيقال: {لِمَنْ يُقْتَلُ}، ليعم على من يأتي ومن مضى ويسلم من هذا الإيحاش. اهـ.
سؤال: فإن قلت: ليس سائر المطيعين من المسلمين لله يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم فلم خصص الشهداء بالذكر؟.
قلت: إنما خصهم لأن الشهداء فضلوا على غيرهم بمزيد النعيم وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم ينعمون بما دون ذلك. وجواب آخر أنه رد لقول من قال: إن من قتل في سبيل الله قد مات وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأخبر الله تعالى بقوله: {بل أحياء} بأنهم في نعيم دائم. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}.
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا؛ بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عِمْرَان: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 169- 171]، فقوله في هذه الآية: {عِندَ رَبِّهِمْ} يفسر المراد من حياتهم؛ أي: إنها لأرواحهم عنده تعالى، وقوله: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} أي: بحياتهم الزوجية بعد موتهم؛ إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم، وإن حفظ بعضها عن التلف، كما ترون النيام همودًا لا يتحركون، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا، ولا عيش أرغد منه في الآخرة.
قال الحراليّ: فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه، حتى في أن يقال عنه: ميت. فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر. انتهى.
ولذا قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى، وقولوا لهم الشهداء الأحياء. وقال الراغب الأصفهانيّ: الحياة على أوجه، وكل واحد منها يقابله موت:
الأولى: هو القوة النامية التي بها الغذاء، والشهوة إليه، وذلك موجود في النبات والحيوان والْإِنْسَاْن؛ ولذلك يقال: نبات حيّ.
والثانية: في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية، وهي في الحيوان دون النبات.
والثالثة: القوة العاملة العاقلة، وهي في الْإِنْسَاْن دون الحيوان والنبات، وبها يتعلق التكليف، وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح: حياة، وعلى ذلك قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وقيل: المحسن حي وإن كان في دار الأموات، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء.
قال: ونعود إلى معنى الآية فنقول: قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء، ولا الحياة التي بها الحس، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول، فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالْإِنْسَاْن. وقال: إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس. قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة- التي هي الروح- البدنَ. فمتى كان الْإِنْسَاْن محسنًا كان منعّمًا بروحه مسرورًا لمكانه إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئًا كان به معذبًا، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة، وهو مذهب أصحاب الحديث، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها.
ومما دل على صحته خَبَرَا «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام».
وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش- يوم بدر- وجمعوا في قَليب، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فأني وجدت ما وعدني ربي حقًا» قيل: يا رسول الله! أتخاطب جيفًا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولو قدروا لأجابوا». إلى غير ذلك من الأخبار. وقال تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وهذا يعني به قبل يوم القيامة؛ لأنه قال في آخر الآية: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. انتهى.
وفي البيضاوي وحواشيه: إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد، وفساد البنية، ونفي الشعور بها- دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد، ولا من جنس حياة الحيوان، لأنها بصحة البنية، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل. انتهى.
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم- كما أسلفنا- قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح: وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواحهم، ورزقها دارٌّ، وإلاّ فالأبدان قد تمزقت، وقد فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة: بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطَّلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي: شيء نشتهي؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا...! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا- قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى..! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا. وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلُق من ثمر الجنة».- وتعلُق بضم اللام؛ أي: تأكل العلقة- وهذا صريح في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامها...!. انتهى.
قال الطيبيّ: قوله صلى الله عليه وسلم: «أرواحهم في جوف طير خضر» أي: يخلق لأرواحهم، بعدما ما فارقت أبدانهم، هياكل تلك الهيئة، تتعلق بها وتكون خلفًا عن أبدانهم، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية. وقال ابن القيم في كتاب الروح: إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكامًا تختص بها، وركب هذا الْإِنْسَاْن من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب- تبعث الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية. والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح، فترى إلى أبدانها نعيمًا وعذابًا، كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيمًا وعذابًا، فأحطْ بهذا الموضع علمًا واعرفه كما ينبغي، يَزُلْ عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج. وقد أرانا الله سبحانه، بلطفه، ورحمته وهدايته من ذلك، أنموذجًا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به، أو يعذب في نومه، يجري على روحه أصلًا، والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرًا مشاهدًا، فيرى النائم أنه في نومه ضُرِبَ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل وشرب، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم، ثم يقوم من نومه، ويضرب ويبطش ويدافع، كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك؛ لأن الحكم، لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ.
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها، لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا. ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة- مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك، فمن سوء فهمه، وقله علمه. انتهى.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154)}.
الحق جل جلاله يعلم أن أحداث الإيمان وخصوم الإيمان سيواجهون المسلمين بمشقة عنيفة.. لا تهددهم في أموالهم فقط ولكن تهددهم في نفوسهم، فأراد الله عز وجل أن يعطي المؤمنين مناعة ضد هذه الأحداث.. وأوصاهم بالصبر والصلاة يواجهون بها كل حدث يهزهم بعنف.. قال لهم إن المسألة قد تصل إلي القتل.. إلي الاستشهاد في سبيل الله. وأراد أن يطمئنهم بأن الشهادة هي أعلى مرتبة إيمانية يستطيع الإنسان المؤمن أن يصل إليها في الدنيا فقال سبحانه: {ولا تقولون لمن يقتل في سبيل الله أموات}.
إن القتل هو أشد ما يمكن أن يقع على الإنسان.. فأنت تصاب في مالك أو في ولدك أو في رزقك أو في صحتك، أما أن تصاب في نفسك فتقتل فهذه هي المصيبة الكبرى.. والله سبحانه سمى الموت مصيبة واقرأ قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} من الآية 106 سورة المائدة.
الله تبارك وتعالى أراد أن يفهم المؤمنون أن الذي يقتل في سبيل الله لا يموت وإنما يعطيه الله لونا جديدا من الحياة فيه من النعم ما لا يعد ولا يحصى يقول جل جلاله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}.
ما هو مظهر الحياة التي يعيشونها؟ الحياة عندنا مظهرها الحركة، والذي قتل في سبيل الله ما هي حركته؟ حركته بالنسبة لغير المؤمنين خصوم الإسلام والإيمان بأنه لن يسلب منه الحياة.. لأنه سيذهب إلي حياة أسعد والموت ينقله إلي خير مما هو يعيش فيها.. أما بالنسبة للمؤمنين فإنه سيحمي لهم منهج الله ليصل إليهم إلي أن تقوم الساعة.
إن كل المعارك التي يستشهد فيها المؤمنون إنما هي سلسلة متصلة لحماية حركة الإيمان في الوجود.. وعظمة الحياة ليست في أن أتحرك أنا ولكن أن اجعل من بعدي يتحرك.. والمؤمن حين يستشهد يبقى أثره في الوجود لكل حركة من متحرك بعده.. فكل حركة لحماية الإيمان تستشهد به وبما فعله وتأخذ من سلوكه الإيماني دافعا لتقاتل وتستشهد فكأن الحركة متصلة والعملية متصلة.. أما الكافر فإن الحياة تنتهي عنده بالموت ولكن تنتظره حياة أخرى حينما يبعث الله الناس جميعا ثم يأتي بالموت فيموت.. وحين يموت الموت تصبح الحياة بلا موت إما في الجنة وإما في النار.
الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم أن من يقتل في سبيل الله هو حي عند ربه ينتقل من الحياة الدنيا إلي الحياة الآخرة مباشرة.. ولا يكتب عليه الموت في حياة البرزخ حتى يوم القيامة مثل من يموت ميتة طبيعية ولا يموت شهيدا.. ولأن هذه الحياة حياة الشهداء أخفى الله سبحان عنا تفاصيلها لأنها من حياة الآخرة.. وهي غيب عنا قال تبارك وتعالى: {ولكن لا تشعرون}.. ومادمنا لا نشعر بها فلابد أن تكون حياة أعلى من حياتنا الدنيوية.
الذي استشهد في عرف الناس سلب نفسه الحياة ولكنه في عرف الله أخذ حياة جديدة.. ونحن حين نفتح قبر أحد الشهداء نجد جسده كما هو فنقول إنه مت أمامنا.. لابد أن تتنبه إنك لحظة فتحت عليه انتقل من عالم الغيب إلي عالم الشهادة والله سبحانه قال: {أحياء عند ربهم} ولم يقل أحياء في عالم الشهادة.. فهو حي مادام في عالم الغيب ولكن أن تفتح وتكشف تجده جسدا في قبره لأنه انتقل من عالم الغيب إلي عالم الشهادة.. أما كيف؟ قلنا إن الغيب ليس فيه كيف.. لذلك لن تعرف وليس مطلوبا منك أن تعرف.
إننا حين نجري عملية جراحية لمريض يعطيه الطبيب البنج لكي يفقد الوحي والحس ولكن لا يعطيه له ليموت ثم يبدأ يجري العملية فلا يشعر المريض بشيء من الألم. فالمادة لا تحس لأنها هي التي أجريت عليها العملية والجسد لازال فيه الحياة من نبض وتنفس ولكنه لا يحس.. ولكن النفس الواعية التي غابت هي التي تحس بالألم. أنت عندما يكون هناك ألم في جسدك وتنام ينقطع الإحساس بالألم فكأن الألم ليس مسألة عضوية ولكنه مرتبط بالوعي.. فعند النوم تنتقل إلي عالم آخر قوانينه مختلفة.. والعلماء فحصوا مخ الإنسان وهو نائم فوجدوا أنه لا يستطيع أن يعمل اكثر من سبع ثوان يرى فيها رؤيا يظل يحكيها ساعات.. فإذا قال الحق تبارك وتعالى: «إنهم أحياء عند ربهم».. فلابد أن نأخذ هذه الحياة على أنها بقدرات الله ومن عنده.. والله عز وجل أراد أن يقرب لنا مسألة البعث والقيامة مثل مسألة النوم.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} من الآية 42 سورة الزمر.
فكأن الحق جل جلاله يعطي الشهداء حياة دائمة خالدة لأنهم ماتوا في سبيله.. ومادام تعالى قال: {لا تشعرون} فلا تحاول أن تدركها بشعورك وحسك لأنك لن تدركها على أن الشهيد لابد أن يقتل في سبيل الله وليس لأي غرض دنيوي.. وإنما لتكون كلمة الله هي العليا. اهـ.