فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ في الآخرة مِنْ خلاق وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة؛ 102] وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهى الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح، وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب {يَلْعَبُونَ} بذلك حينئذٍ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل، والمراد بالحدوث الذي يستدعيه {مُّحْدَثٍ} التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم، ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتباره نفسه وإن صح ذلك بناءً على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعرة من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مرارًا لا يزيدهم ذلك إلا فرارًا، وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الإفهام.
وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقًا كذلك؛ والمراد من الحدوث التجدد ويقال: إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة.
والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لئلا تقوم الآية حجة عليهم، وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمي ذكرًا في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا} [الطلاق: 10، 11] ويدل عليه هنا {هَلْ هذا}..إلخ. الآتي قريبًا إن شاء الله تعالى وفيه نظر، وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى {وَأَسَرُّواْ النجوى} كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم، و{النجوى} اسم من التناجي ولا تكون إلا سرًّا فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها، ويجوز أن تكون مصدرًا بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم، وهذا على ما في الكشف أظهر وأحسن موقعًا، وقال أبو عبيدة: الإسرار من الأضداد، ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول الفرزدق:
فلما رأى الحجاج جرد سيفه ** أسر الحروري الذي كان أضمرا

وأنت تعلم أن الشائع في الاستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه التبريزي ولا موجب للعدول عن ذلك، وقوله تعالى: {الذين ظَلَمُواْ} بدل من ضمير {أَسَرُّواْ} كما قال المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه، وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به، وقال أبو عبيدة، والأخفش، وغيرهما: هو فاعل {أَسَرُّواْ} والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزدشنوءة قال شاعرهم:
يلومونني في اشتراء النخيل ** أهلي وكلهم ألوم

وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان وليست شاذة كما زعمه بعضهم، وقال الكسائي: هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتمامًا به، والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلًا على فعلهم بكونه ظلمًا، وقيل هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيرًا ما يضمر، واختاره النحاس، وهو على هذه الأقوال في محل الرفع.
وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه الزجاج أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم، وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتًا {لِلنَّاسِ} [الأنبياء: 1] كما قال أبو البقاء أو بدلًا منه كما قال الفراء وكلاهما كما ترى، وقوله تعالى: {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ}..إلخ. في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل قالوا هذا هذا..إلخ. أو بدل من {أَسَرُّواْ} أو معطوف عليه، وقيل حال أي قائلين هل هذا..إلخ. وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس، وقيل مفعول للنجوى نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل وسيبويه، وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث، و{هَلُ} بمعنى النفوي ليست للاستفهام التعجبي كما زعم أبو حيان، والهمزة في قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السحر} للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله سبحانه: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار مؤكدة للاستبعاد، وأرادوا كما قيل ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتى به سحر تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الاذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكًا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر، وعنوا بالسحر هاهنا القرآن ففي ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه قاتلهم الله تعالى أني يؤفكون، وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيق العهد وترتيب مبادي الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، وقيل أسروه ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقًّا فاخبرونا بما أسررناه؟ ورده في الكشف بأنه لا يساعده النظم ولا يناسب المبالغة في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} ولا في قوله سبحانه {أَفَتَأْتُونَ} السحر. اهـ.

.قال القاسمي:

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي: دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخرويّ وهو عذابهم: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي: عما يراد بهم: {مُعْرِضُونَ} أي: مكذّبون به. وإنما كان مقتربًا لأن كل آتٍ وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب. وقد قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6- 7]، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، ولا يخفى ما في عموم الناس من الترهيب البليغ. وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم. كما أن في تسمية يوم القيامة، بيوم الحساب زيادة إيقاظ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ففي العنوان ما يرهب منه، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيويّ والأخروي لم يبعد، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم، كما أشير أليه في آية: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52]، ووعد به النبيّ وصحبه في آيات كثيرة. إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخرويّ، حمل المفسرين على قصر الآية عليه. والله أعلم. وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي له الأنفس.
قال الزمخشري: بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، فأن الله يجدد لهم الذكر وقتًا فوقتًا. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعبًا وتلهيًا واستسخارًا. والذكر هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.
تنبيه:
استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية. فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثًا لكونه مؤلفًا من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلمًا، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبيّ عليه الصلاة السلام، أو غيرهم كشجرة موسى.
وأما الكرامية، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفًا للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدالّ والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلًا للحوادث.
والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلوّ دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.
قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلّغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهيرٌ ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليها.
وقد عدّ الإمام ابن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه مطابقة المنقول للمعقول: احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثًا، وما تقدم على غيره قديمًا. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يّس: 39]، وقوله تعالى عن إخوة يوسف: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] وقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]، وقوله تعالى عن إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 75- 76]، انتهى.
وقال العارف ابن عربيّ في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من فتوحاته في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجودًا قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.
فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسمًا {إنَّهُ} يعني: القرآن: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]. فأضاف الكلام إلى الواسطة والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولَكِن بين السماعين بعد المشرقين. فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط. انتهى.
وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في منهاج السنة: أن الله تعالى لم ينزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به. وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا.
وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفًا بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئًا فشيًا. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.
ثم قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا: نعم. وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء- فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول: {فَلَمَا جَاءَهَا نُودِيَ} [النمل: 8]، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
ثم قال رحمه الله: قالوا- يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما- وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئًا بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يردّه الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض، والله منزه عن ذلك. ولَكِن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.
ثم قال: والقول بدوام كونه متكلمًا ودوام كونه فاعلًا بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارميّ وغيرهم.
ثم قال: فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفًا بصفات الكمال متكلمًا ذاتًا. فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول أنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لمَا كان أزليًا لم ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلًا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لابد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصًا.
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: أسروا هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله. والذين بدل من واو أسروا أو مبتدأ خبره أسروا أو منصوب على الذم: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي: تنقادون له وتتبعونه. وقوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد. قال الزمخشري رحمه الله: اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكًا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحره. فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. قال أبو السعود: وزلّ عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السماء وَالأرض وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4).
{قَالَ رَبِّي} حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقرىء: قلْ على الأمر له صلوات الله عليه: {يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السماء وَالأرض وَهُوَ السَّمِيعُ} أي: لما أسروه: {الْعَلِيمُ} أي: به فيجازيهم. اهـ.