فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}.
والاقتراب: إما أن يكون زمنًا أو مكانًا، فإذا كانت المسألة في مسافات قلنا: اقترب للناس حسابهم يعني مكانه. وإذا كانت للزمن قلنا: اقترب زمنه. فالاقتراب: دُنُو الحدث من ظرفية زمانًا أو مكانًا.
والحق سبحانه حينما يُعبِّر بالماضي {اقترب} [الأنبياء: 1] يدل على أن ذلك أمر لازم وسيحدث ولابُدَّ، والبشر حينما يتحدثون عن أمر مقبل يقولون: يقترب لا اقتربَ؛ لأن اقتربَ هكذا بالجزم والحكم بأنه حدثَ فعلًا لا يقولها إلا الله الذي يملك الأحداث ويقدر عليها، أما الإنسان فلا يملك الأحداث، ولا يستطيع الحكم على شيء لا يملكه بعد أن يتلفظ بهذا اللفظ.
ومثال ذلك في قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] فلا يُقال لك: لا تستعجل شيئًا إلا إذا كان لم يحدث بَعْد: فكيف- إذن- جمع بين الماضي {أتى} [النحل: 1] والمستقبل {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
قالوا: أنت ممنوع أن تحكم بمُضيٍّ على أمر مستقبل؛ لأنك لا تملك نفسك، ولا تملك ظروف المستقبل، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23-24].
لابُدَّ أن تُردف هذا القول بالمشيئة؛ لأن قولك سأفعل ذلك غدًا قضيةٌ يدعوك للفعل والقدرة التي تُعينك أن تفعل.
وهذه كلها عناصر لا تملك أنت شيئًا منها، وربما جاء غَدٌ فتغيَّر عنصر من هذه العناصر، وحال بينك وبين ما تريد، فينبغي أن تُبرِّيء نفسك من احتمال الكذب فتقول: إن شاء الله وتردُّ الأمر إلى القادر عليه الذي يملك كل هذه العناصر، وكأن ربك يُعلِّمك ألا تكون كاذبًا.
لذلك نجد أن اللغة قد راعتْ قدرة المتكلم، ووضعتْ له الزمن المناسب، فإنْ علمتَ حدوث العفل قُلْ بالماضي: حضر فلان، انتهت القضية، فإنْ علمتَ أنه توجه للحضور واستعدَّ له قُلْ: سيحضر فلان أي قريبًا، أو سوف يحضر أي: بعد ذلك.
هذا الذي يناسب قدرة البشر. أما الحق سبحانه فيملك زمام الأشياء وتوجيهها، وكلّ شيء مرهون بأمره التكويني، فإنْ قال للأمر المستقبل: أتى أو اقترب فصدِّق؛ لأنه لا شيء يُخرج الأمر عن مراده تعالى، وهو وحده الذي يملك الانفعال لكلمة كُنْ، فإنْ قالها فَقد انتهتْ المسألة.
لذلك يقول سبحانه: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] بصيغة الماضي ولم يقل: يقترب أو سيقترب؛ لأن المتكلم هو الله.
وقد ورد الماضي قترب أيضًا في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1]. وفي قوله تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] فاقترب غير قَرُب، قرُب: يعني دنا، أما اقترب أي: دنا جدًّا حتى صار قريبًا منك.
والحساب: كلمة تُطلَق إطلاقات عِدّة، فالحساب أنْ تحسب الشيء بالأعداد جمعًا، أو طرحًا، أو ضَرْبًا، وتدير حصيلة لك أو عليك، فإنْ كانت لك فأنت دائن، وإنْ كانت عليك فأنت مدين. أو تربط المسبِّبات بأسبابها.
وهناك أمور تأتي بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] فهذه مسألة لا تستطيع ضبطها، والله لا يُسأل: أعطاني زيادة أم نقصانًا.
أما الحساب في {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] فيقتضي مُحَاسبًا هو الله عز وجل، ومُحاسَبًا هم الناس، ومُحَاسَبًا عليه وهي الأعمال والأحداث التي أحدثوها في دنياهم، وهذه قسمان: قسم قبل أنْ يُكلَّفوا، وقسم بعد أن كُلِّفوا.
ما كان قبل التكليف وسِنِّ البلوغ لا يحاسبنا الله عليه، إنما تركنا نمرح ونرتع في نعمه سبحانه دون أن نسأل عن شيء، أما بعد البلوغ فقد كلَّفنا بأشياء تعود علينا بالخير، وألزمنا المنهج الذي يضمن سعادتنا بافعل ولا تفعل وهذا يقتضي أن نحاسب، فعلنا، أم لم نفعل.
إذن: المسألة حساب، ليست جُزَافًا، جماعة في الجنة وجماعة في النار، وقوله سبحانه في الحديث القدسي: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي» بِناءً على علمه تعالى بما يُؤدُّونه وقت الحساب، ففي علم الله ما فعلوا وما تركوا.
ولا تنْسَ أن المحاسب في هذا الموقف هو الله، فإنْ كان الحساب في الخير عاملك بالفضل والزيادة كما يشاء سبحانه؛ لذلك يضاعف الحسنات، وإنْ كان الحساب في الشر كان على قَدْره دون زيادة، كما قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26].
وما دام المحاسب هو الله سبحانه وتعالى، وهو لا ينتفع بما يقضيه على الخَلْق، فمن رحمته بِنَا ونعمته علينا أنْ حذَّرنا من أسباب الهلاك، ولم يأخذنا على غَفْلة، ولم يفاجئنا بالحساب على غِرّة، إنما أبان لنا التكاليف، وأوضح الحلال والحرام، وأخبرنا بيوم الحساب لسنتعدَّ له، فلا نسير في الحياة على هوانا.
فقال سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
فمن رحمته تعالى بعابده أنْ وعدهم هذا الوعد، وعرفهم هذا الميزان وهم في سَعَة الدنيا، وإمكان تدارك الأخطاء، واستئناف التوبة والعمل الصالح، من رحمته بنا أنْ يعِظَنا هذه الموعظة ويكررها على أسماعنا ليلَ نهارَ.
إذن: ما أخذنا ربنا على غِرَّة، ولم تُفاجئْنا القيامة بأهوالها، فمن الآن اعلم {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] وما دام الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يُقَدِّر قَدْر الاقتراب، ومتى سينتقل إلى يوم الحساب، ولا تظن أن عُمرك هو عمر الدنيا منذ خلقها الله، إنما عمرك ودنياك على قَدْر مُكْثك فيها، وهو مُكْث مظنون غير مُتيقَّن، فمن الخَلْق من عمَّر دهرًا، ومنهم مَنْ مات في بطن أمه. إذن: لا تُؤجِّل لأنك لا تدري، أيمهلك الأجل حتى تتوب؟ أم يُعاجلك فتُؤخذ بذنبك؟ والحق سبحانه يقول: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] مع أن الساعة مازالت بعيدة، وبيننا وبين القيامة مَا لا يعلمه إلا الله. فكيف ذلك؟
قالوا: لأن الحساب إنما يكون على الأعمال، والأعمال لها وقت هو الدنيا، فَمنْ مات فقد انقطع عمله، واقترب وقت حسابه؛ لأن المدة التي يقضيها في القبر لا يشعر بها، فكأنها ساعة من نهار.
فإنْ قُلْت: من الناس مَنْ يعيش مائة عام، ومائة وخمسين عامًا. نقول: هذا شيء ظنيّ لا نضمنه، والإنسان عُرضة للموت في أيِّ لحظة لسبب أو دون سبب.
ونلحظ في قوله تعالى: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] فقال للنَّاسِ مع أن الحساب لهم وعليهم، فهل معنى للناس أي: لمصلحتهم؟ لا يبدو ذلك؛ لأنه قال بعدها: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].
إذن: الحساب ليس في مصلحتهم إنما الحساب عليهم، إذن: كيف يكون فـ: مثل هذا السياق {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] ما دام الأمر على الكفار؟ كان المفروض أن يقول: اقترب على الناس حسابهم.
نقول: هذا إذا أخذتَ اللام للحساب، إنما اللام هنا للاقتراب، لا للحساب، أي: اقترب من الناس، إنما الحساب لهم أو عليهم، هذه مسألة أخرى.
وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] الغفلة معناها: زحزحة الشيء عن بال الواجب أَلاَّ يزحزح عنه، فكان الواجب أنْ يتذكره ولا يغفل عنه، والغفلة غير النسيان؛ لأن الغفلة أن تهمل مسألة كان يجب ألاَّ تهمل، وألاَّ تغيب عن بالك، أما النسيان فخارج عن إرادتك.
وغفلتهم هنا عن أصل وقمة الدين، وهو الإيمان بالألوهية، فإن آمنتَ بالألوهية فالغفلة عن الأحكام التي جاء بها الدين، وهذه هي المعاصي، والكلام هنا عن الكافرين بدليل قوله بعدها: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] والغفلة عن الربِّ الأعلى مثلها الغفلةَ عن حكم الرب الأعلى، وفَرْق ين غَفْلة وغَفْلة.
وقد حدَّثَ النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن هذه الغفلة، كما روى سيدنا حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا «أن الأمانة نزلت في جِذَرْ قلوب الرجال» والأمانة هي الإيمان الحق بالله، أي: حَلَّ الإيمان، واستقر في القلب، ونطقنا بالشهادة ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السُّنة ثم حدَّثنا عن رَفْع الأمانة فقال: «ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه» أي: يغفل «فيظل أثرها مثل أثر الوكت» الوكت: مثل سيجارة مثلًا تقع على الجلد فلسعته، فيتغير لونه «ثم ينام النومة» أي: مرة أخرى «فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل» والمجل: جمرة النار «فنفط فتراه منتبرًا عاليًا، وليس به شيء» أي: انتفخ «فيصبح الناس» أي: بعد رفع الأمانة «يتابعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا» لندرة الأمانة بين الناس.
ثم يقول الراوي: «وقد مر عليَّ زمان ما كنت أبالي أيكُم بايعت، فلئن كان مسلمًا ليردنَّه عليَّ دينه» يعني: إنْ غشَّني في شيء أو حدث خطأ ما في البيع «ولئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ليردنَّه عليَّ ساعيه» أي: الناس المكلفون بمراقبة الأسواق، وهم أهل الحِسْبة، فإنْ رأَوْا عِشًّا منعوه، وردوا إلى صاحب الحق حقه «وأما الآن فأنا لا أكاد أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا» فإنْ كان هذا في أيامهم فما بال أيامنا؟
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» أي: رَغْم كثرتها لا تجد فيها جملًا يحمل رَحْلك ويحملك.
وفي رواية أخرى: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُودًا عودًا» أي: كنسج الحصير، عُودًا بعد عود، حتى تتم الحصيرة، ثم يكون الرَّان على القلب.
فغفْلة هؤلاء غَفْلة عن القمة، وعن الألوهية، لا عن التكاليف؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالمكلّف سبحانه.
وقوله تعالى: {مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] تدل على الافتعال أي: أنهم مفتعلون هذا الإعراض؟
ثم يقول الحق سبحانه: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ}.
أي: ذكر من القرآن {مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] يعني: يسمعونه جديدًا لأول مرة {إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] لا يعطونه اهتمامًا، ولا يُلْقون له بالًا، وهم يتعمدون هذا، ويُوصِي بعضهم بعضًا به ويُحرّضون عليه، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى حكاية عنهم: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
إنهم يخافون إنْ سمعوا القرآن أنْ يتأثروا به فيؤمنوا؛ لذلك لا تسمعوه، بل شَوِّشوا عليه حتى لا يسمعه أحد في هدوء واطمئنان فيؤمن به. وهذا يعني أن هذا العمل في مصلحتهم؛ لأنهم لا يستطيعون رَدَّ حُجَج القرآن ولا الثبات أمام إعجازيته ولا بلاغته ولا تأثيره على النفوس، فهُمْ لا يملكون إلاَّ أنْ يصرفوا الناس عن سماعه، والتشويش عليه، حتى لا يتمكّن من الأسماع، وينفذ إلى القلوب، فيخالطها الإيمان.
واللعب: أن تشغل نفسك بعمل لا قَصْدَ فيه لغاية، كما يأخذ الطفل الصغير كراسة أخيه، ويعبث فيها بالقلم دون نظام ودون هدف.
وهناك أيضًا اللهو: وهو عمل مقصود لغاية، لَكِن هذه الغاية تضعها أنت لنفسك، أو يضعها غيرك ممَّنْ يريد أنْ يُفسِدك بها، إذن: هو عمل مقصود وله غاية، ليس مجرد شخبطة كمَنْ ينشغل مثلًا برسم بعض الصور للتسلية، أو ينشغل بحلِّ الكلمات المتقاطعة، فهي أعمال لا فائدة منها.
أما العمل النافع الذي ينبغي أن ينشغل الإنسان به فهو الذي يضعه لك مَنْ هو أعلى منك، وأنْ يكون حكيمًا مُحبًا لك، وهذه المواصفات لا تجدها إلا في الإله، لذلك كل ما يُلهِيك عَمَا يضعه لك إلهك فهو لَهْو؛ لأنه شَغَلك عما هو أهَمّ.
لذلك يقول تعالى: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36].
فاللعب في مرحلة الطفولة، بل نأتي نحن باللُّعب ونقول للطفل: العب، إنما اللهو أن تنشغلَ بعمل مقصود وله غاية لَكِنها تلهيك عن غاية أسمى هي التي وضعها لك الحكيم القادر الأعلى منك المحبّ لك.
إذن: منتهي اللهو واللعب أن يلعبوا عند سماع القرآن، فلم يستمعوا له، حتى على أنه لهو له غاية، إنما على أنه لَعِبٌ لا غاية له ولا فائدةَ منه؛ لأن غايته ضارّة.
واللعب وإنْ كان مُباحًا في فترة ما قبل البلوغ، إنما القلوب يجب أن تُربَّى على أنْ تلتفت إلى الله عز وجل الخالق الرازق في هذه الفترة المبكرة من حياة الإنسان، وهذه مهمة الأب، فإنْ أتى لولده بطعام أو شراب يقول أمام الولد الصغير: ربنا رزقنا به. وهكذا في كل أمور الحياة يسند الأمر إلى الله وينبه الولد الصغير: قل: بسم الله قل: الحمد لله.
وهكذا تُربِّى في الولد مواجيده على اليقين بالله القوي، وإنْ كان الولد لا يراه فإنه يرى آثاره ونِعَمه.
ويرى أباه الذي يتعهده، ويأتي له بكل شيء لا يتصيّد المجد لنٌفسه، إنما ينسب كل شيء إلى الله.
فأبوه- وهو المثل الأعلى له- يزحزح هذه المسائل عنه وينسبها لله، فيتربى وجدانُ الولد على الإيمان. فإذا لم يُرَبَّ الولد هذه التربية تسلل إلى نفسه اللَّهْو واللَّعِب.
وسبق أن قلنا: إن كُلَّ فعل من الأفعال لابد أنْ ينشأ عن مَوْجدة من المواجيد، ولا ينشأ الفعل دون مَوجدة إلا فعل المجنون، والقلوب هي التي تُوجِّه الجوارح، ولو لم تكُنْ القلوب لاهية ما لعبت الجوارح.
لذلك سيدنا عمر- رضي الله عنه- حينما دخل على رجل يعبث بذقنه هو يصلي- كما يفعل الكثيرون- قال: لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحه. فحركة الجوارح دليل على انشغال القلب؟ لذلك يقول تعالى بعدها: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى}.
ويا ليت كلًا منهم يفعل هذا الفعل في نفسه، إنما يتآمرون جميعًا على الحق ليفسدوه باللعب واللهو {وَأَسَرُّواْ النجوى} [الأنبياء: 3] أي: يتناجَوْن في الإثم، ويُسِرُّونه يعني: يجعلونه سرًّا. والنَّجْوى أو التناجي: خَفْضِ الصوت، كما جاء في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7].
فلا تظنوا أنكم مستورون عن الله، أو تُخْفون عنه شيئًا. وتلاحظ في ارتقاءات العدد في هذه الآية أنها لم تذكر اثنين، فبدأت من العدد ثلاثة؛ لأنه عادةً لا تكون النجوى بين الاثنين، إنما تكون بين الثلاثة، حيث يتناجى اثنان حتى لا يسمع الثالث.
كما أنها لم تذكر الأعداد بالترتيب، فلم تَقُلْ مثلًا: ولا أربعة إلا هو خامسهم؛ ذلك لأن الآية لا تقصد الترتيب العددي، إنما تعطيك مجرد أمثلة ونماذج من الأعداد.
وكذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} [المجادلة: 8].
وما داموا يُخْفون كلامًا ويُسِرُّونه، فلابد أنه مخالف للفطرة السليمة، ولو كان حقًّا لَقالُوه علانية، فالنجْوى دليلُ اتهامهم في العقل، وفي القلب، وفي كل شيء.
أما قوله تعالى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12].
وهل كان الصحابة يُحدِّثون الرسول سرًّا؟ لا بل هنا إشارة أخرى أوضحها قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].
فالمراد ألاّ نرفع أصواتنا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم كما يحدث مِنّا حين يُكلِّم بعضنا بعضًا، بل نُكلِّمه كلام المهيب، ونلتزم معه الأدب والخشوع.
وقوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] هل الذين هنا هي الفاعل لأسرُّوا؟ القاعدة النحوية: إذا تقدم أكلوا على الفاعل لقال: وأَسَرَّ الذين ظلموا، إنما جاء الفاعل واو الجماعة ثم الاسم الموصول الذين بعدها فليست هي الفاعل، وليست هذه من لغات العرب الصحيحة.
فكأن سائلًا سأل: ومَن الذي أسَرَّ؟ فأجاب: {الّذِينَ ظَلَمُوا} وكلمة {ظَلَمُوا} عامة في الظلم، فقد ظلموا أنفسهم أولًا؛ لأن ظلمهم عائد عليهم بالعذاب، وظُلْم نفسه ناشيء من أنه ظلم الحق الأعلى {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ثم ظلم الناس في أمور أخرى وفي حقوق لهم، لَكِن جاءتْ {ظلموا} عامة؛ لأن الظلم الواحد سيشمل كل أنواع الظلم، وما دام قد وصل به الأمر إلى أنْ ظَلَم الله فلا غرابةَ أنْ يظلم ما دونه تعالى. فما النجوى التي أسرَّهَا القوم؟ ومَنْ أخبر رسول الله بها؟
النجوى قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].
فكيف عرف محمد هذه المقولة، وقد قالوها في أنفسهم وأسرُّوها؟ ألم يكُن على هؤلاء أن يتنبَّهوا: كيف عرف محمد مقولتهم؟ وأن الذي أخبره بما يدور هو ربُّه الإله الأعلى، الذي لا تَخْفى عليه خافية، كان عليهم أن يلتفتوا إلى رب محمد، الله الإله الحق الذي يعلم خَبْءَ كل شيء فيرتدعوا عَمَا هم فيه، وبدل أنْ يشغلوا عقولهم بمسائل الشرك ينتهوا بها إلى الإيمان.
ومما جاء في تناجيهم {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] إذن: أنكروا أن يكون رسولًا لأنه بشر، والرسول لابد أن يكون ملكًا {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3] فسمُّوا القرآن سحْرًا، لأنهم يروْنَ السحر يُفرِّق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3] أن القرآن يفعل مثل هذا. اهـ.