فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن أنكر أن أكون العبث نقصًا كالكذب فقد كابر عقله، وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليه سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الأصحاب للوجوب عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة، ولعله حينئذٍ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناءً على استلزامه محالًا بعد صدور موجبه اختيارًا لا مطلقًا ولا بشرط تمام الاستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الاختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلًا، ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم.
وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى.
ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه من المجردات بل هو فيها أظهر في الاستحالة، وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تيادرًا مما في الكشف وذلك أبعد مغزى، وقال الإمام الواحدي: اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهوًا وكذا الولد لأنه يستروح بكل منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه، والمعنى لو أردنا أن نتخذ امرأة ذات لهو أو ولدًا ذا لهو لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصطفى مِمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [الزمر: 4] وقال المفسرون: أي من الحور العين، وهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه السلام السلام ولدًا وكونها صاحبة، ومعنى {مّن لَّدُنَّا} من عندنا بحيث لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى.
وتفسير اللهو هنا بالولد مروى عن ابن عباس والسدي، وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت، وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه، وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع، وأنشد قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

والظاهر حمل اللهو على ما سمعت أولًا لقوله تعالى: {وما بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الأنبياء: 16] ولأن نفي الولد سيجىء مصرحًا إن شاء الله تعالى، ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا، ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسنًا معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد والحسن، وقتادة، وابن جريج استدرك عليه بعضهم بأن أكثر مجىء إن النافية مع اللام الفارقة لَكِن الأمر في ذلك سهل {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الاتخاذ كأنه قيل لَكِنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شؤونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد، وعن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره، والعموم هو الأولى، وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل.
{فَيَدْمَغُهُ} أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة، وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق.
وجوز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه، وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فان، وجوز أيضًا أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجىء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل، ولعل القول بالتمثيل أمثل، وقرأ عيسى ابن عمر {فَيَدْمَغُهُ} بالنصب، وضعف بأن ما بعد الفاء إنما ينتصب بإضمار أن لا بالفاء خلافًا للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم ير مثله إلا في الشعر كقوله:
سأترك منزلي لبني تميم ** وألحق بالحجاز فاستريحا

على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوبًا بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف، ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقيل وهو يشبه التمني في الترقب، ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل، وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذًا والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء، والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به.
وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبنًا وماءً باردًا صح، واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل بالقذف فالدمغ، وقرئ {فَيَدْمَغُهُ} بضم الميم والغين {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل.
{وَلَكُمُ الويل مِمَا تَصِفُونَ} وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضًا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب، وما تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر، وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائنًا مما تصفونه عز وجل به، وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد، وأبعد كل البعد من قال: إنه خطاب لأهل القرى على طريق الالتفات من الغيبة في قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] إليه. اهـ.

.قال القاسمي:

{وما خَلَقْنَا السماء وَالأرض وما بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي: بل للإنعام عليهم. وما أنعمنا عليهم بذلك إلا ليقوموا بشكرها وينصرفوا إلى ما خلقوا له. قال الزمخشري عليه الرحمة: أي: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق، مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للّهو واللّعب. وإنما سويناها للفوائد الدينية، والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى. وقال أبو السعود: في هذه الآية إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحكم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة. وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى، من مقتضيات تلك الحكم، ومتفرعاتها. عن حسب اقتضاء أعمالهم إياه. وإن للمخاطبين المقتدين بآثارهم ذنوبًا مثل ذنوبهم. أي: ما خلقناهما وما بينهما على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع، خالية عن الحكم والمصالح. وإما عبر عن ذلك باللعب واللهو، حيث قيل: {لاعِبِينَ} لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة. بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه تعالى. بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدًا لوجود الإنسان وسببًا لمعاشه. ودليلًا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى، بواسطة طاعتنا وعبادتنا. كما ينطق به قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وقوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو. أي: لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب لاتخذناه من عندنا. كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها، وتسوية الفروش وتزيينها. لَكِن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة. فيستحيل اتخاذنا له قطعًا. وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} جوابه محذوف دل عليه ما قبله. أي: لاتخذناه. وقيل: إنّ إن نافية. أي: ما كنا فاعلين. أي: لاتخاذ اللهو، لعدم إرادتنا إياه. فيكون بيانًا لانتفاء التالي، لانتفاء المقدم.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته. وتنزيه منه لذاته العلية كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب أو نريده، بل من شأننا أن ندحض الباطل بالحق: {فَيَدْمَغُهُ} أي: يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: هالك بالكلية. وقد استعير لإرسال الحق على الباطل القذف الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة. ولمحقه للباطل الدمغ الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف. وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح، استعارة تصريحية تبعية. ويصح أن يكون تمثيلًا لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه، برمي جرم صلب على رأس دماغها رخو ليشقه، وذكر: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} لترشيح المجاز. لأن من رمى فدمغ تزهق روحه. فهو من لوازمه. قال أبو السعود: وفي إذا الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان، ما لا يخفى. فكأنه زاهق من الأصل وفي الآية إيماء إلى علوّ الحق وتسفل الباطل. وأن جانب الأول باقٍ والثاني فانٍ: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَا تَصِفُونَ} أي: مما تصفونه به من اتخاذ الولد ونحوه، مما تتنزه عظمته عنه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وما خَلَقْنَا السماء وَالأرض وما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)}.
قد قدما الآيات الموضجة لهذا في سورة الحجر فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وكذلك قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} [الأنبياء: 18] الآية. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة بني إسرائيل، وكذلك الآيات التي بعد هذا قدْ قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وما خَلَقْنَا السماء وَالأرض وما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)}.
كثير في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نُظمها وسُننها وفِطَرها، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مُجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى في سورة: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الحجر: 85] وقد بيّنا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.
وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المناسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبسًا بالحق، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عَمّتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام، وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاءَ ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقًا.
فلذلك كثر أن تُعقب الآياتُ المبينة لما في الخلق من الحقّ بالآيات التي تذكُر الجزاء والحساب، والعكس، كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} في آخر سورة [المؤمنين: 115]، وقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} آخر [الحجر: 85]، وقوله تعالى: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} في سورة [ص: 2628]، وقوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلَكِناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولَكِن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} في سورة [الدخان: 3740]، وقوله تعالى: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون} في سورة [الأحقاف: 3] إلى غير هذه من الآيات.
فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلَكين، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كلّ مخلوق ما به قِوامه، فإذا كانت تلك سنةَ الله في خلق العوالم ظَرفِها ومظروفها، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به، وإذا علّمهم أنهم لا يفوتون ذلك بالموت بل إن لهم حياةً آخِرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.
ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض.
وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار} الآيات ختام سورة [آل عمران: 190191].
ولأجل هذا اطرد أوْ كادَ أن يطرد ذكر لفظ {وما بينهما} بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به لأن أشرفه هو نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف.
فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعبًا منظورًا فيه إلى رد اعتقاد معتقدٍ ذلك ولَكِنه بني على النفي أخذًا لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعبًا.
واللعبُ: العمل أو القول الذي لا يُقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ولا تحصيل نفع أو دفع ضر.
وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل: لابد للعاقل من حَمْقة يعيش بها.
ويرادفه العبث واللهو، وضده: الجد.
واللعب من الباطل إذ ليس في عمله حكمة فضده الحقّ أيضًا.
وانتصب {لاعبين} على الحال من ضمير {خلَقْنا} وهي حال لازمة إذ لا يستقيم المعنى بدونها.
وجملة {لو أردنا أن نتخذ لهوًا} مقررة لمعنى جملة {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} تقريرًا بالاستدلال على مضمون الجملة، وتعليلًا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لَعبًا، أي عبثًا بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلًا في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصًا بالله تعالى إذ جعَل سكانها عبادًا له مخلصين، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو {لَدُن} مضافًا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى من {لدنا}، أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عَالم الغيب الذي هو أشد اختصاصًا بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين.
فالظرفية المفادة من {لدن} ظرفية مجازية.
وإضافة {لدن} إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى: {رزقا من لدنا} في سورة [القصص: 57]، وقوله تعالى: {وهب لنا من لدنك رحمة} في سورة [آل عمران: 8]، أي لو أردنا أن نتخذ لهوًا لما كان اتخاذه في عالم شهادتكم.
وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخد شيئًا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.
وجملة {إن كنا فاعلين} إن جعلت إن شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب لو وهو جملة {لاتخذناه} فيكون تكريرًا للتلازم؛ وإن جعلت إن حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من لو، أي ما كنا فاعلين لهوًا.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
بل للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخَلق لعبًا إضرابَ إبطال وارتقاء، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهيةً للباطل بَلْهَ أن نعمل عملًا هو باطل ولعب.
والقذف، حقيقته: رمي جسم على جسم. واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زَجْر أو إعداممٍ أو تكوين ما يغلب، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء يأتي عليه ليتلفه أو يشتته، فالله يبطل الباطل بالحقّ بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله، وبأن أوجَد في عقولهم إدراكًا للتمييز بين الصلاح والفساد، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل، قال تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} في سورة الأنفال (12).
والدمغ: كَسْر الجسم الصُلب الأجوف، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل، وهو استعارة أيضًا حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالتِه كما يزيل القذف الجسم المقذوف، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين.
ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحقّ الباطلَ عند وروده لأن للحقّ صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح، قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدًا رابيا} إلى قوله تعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} في سورة الرعد (17).
والزاهق: المنفلت من موضعه والهالك، وفِعله كسمع وضرب، والمصدر الزهوق.
وتقدم في قوله تعالى: {وتَزْهَقَ أنفسُهم وهم كافرون} في سورة براءة (55) وقوله تعالى: {إن الباطل كان زهوقًا} في سورة الإسراء (81).
وعندما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} إلى قوله تعالى: {كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 3 5].
وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر.
خُتم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى: {ولكم الويل مما تصفون}، أي مما تصفون به محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن.
والويل: كلمة دعاء بسوء.
وفيها في القرآن توجيه لأن الوَيْل اسم للعذاب. اهـ.