فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَهُ مَن في السموات والأرض}.
استئنافٌ مقررٌ لما قبله من خلقة تعالى لجميع مخلوقاتِه على حكمة بالغةٍ ونظامٍ كامل وأنه تعالى يُحِق الحقَّ ويُزْهق الباطل، أي له تعالى خاصة جميعُ المخلوقات خلقًا ومُلكًا وتدبيرًا وتصرفًا وإحياءً وإماتةً وتعذيبًا وإثابةً من غير أن يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما استقلالًا أو استتباعًا {وَمَنْ عِندَهُ} وهم الملائكةُ عليهم السلام، عبّر عنهم بذلك إثرَ ما عبّر عنهم بمن في السموات تنزيلًا لهم لكرامتهم عليه عز وعلا وزُلْفاهم عنده منزلةَ المقربين عندالملوكِ بطريق التمثيل وهو مبتدأ خبرُه {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتعظمون عنها ولا يُعدّون أنفسهم كبيرًا {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} ولا يكِلّون ولا يَعيَوْن، وصيغةُ الاستفعال المنبئةِ عن المبالغة في الحُسور للتنبيه على أن عباداتِهم بثقلها ودوامها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها ومع ذلك لا يستحسرون، لا لإفادة نفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصلِه في الجملة كما أن نفيَ الظلاّمية في قوله تعالى: {وما أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} لإفادة كثرةِ الظلم المفروضِ تعلقُّه بالعبيد لا لإفادة نفي المبالغةِ في الظلم مع ثبوت أصلِ الظلم في الجملة، وقيل: من عنده معطوف على من الأولى وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في مَن في السموات والأرض للتعظيم كما في قوله تعالى: {وَجِبْرِيلُ} فقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} حينئذ حال من الثانية.
{يُسَبّحُونَ الليل والنهار} أي ينزهونه في جميع الأوقات ويعظّمونه ويمجدونه دائمًا، وهو استئنافٌ وقع جوابًا عما نشأ مما قبله، كأنه قيل: ماذا يصنعون في عباداتهم أو كيف يعبدون؟ فقيل: يسبحون..إلخ، أو حالٌ من فاعل يستحسرون وكذا قوله تعالى: {لاَ يَفْتُرُونَ} أي لا يتخلل تسبيحَهم فترةٌ أصلًا بفراغ أو بشغل آخرَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَهُ مَن في السموات والأرض}.
استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمه بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل، وقيل هو عديل لقوله تعالى: {وَلَكُمُ الويل} وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقًا وملكًا وتدبيرًا وتصرفًا وإحياءً وإماتة وتعذيبًا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ما استقلالًا واستتباعًا، وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجىء بالسموات جميعًا على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السموات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جىء بالسماء بصيغة الإفراد دون الجمع.
وفي الاتقان حيث يراد بالعدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة {وَمَنْ عِندَهُ} وهم الملائكة مطلقًا عليهم السلام على ما روي عن قتادة وغيره، والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة.
وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلًا لهم لكرامتهم عليه عز وجل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل، والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبراء {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ويقال أيضًا أحسرته بالهمز.
والظاهر أن الاستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمراد من الاتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الاتحاد في أصل المعنى، والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة، ونظير ذلك قوله تعالى: {وما رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] على أحد الأوجه المشهورة فيه.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفًا على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم السلام على حاله، وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4] في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله، وقيل إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه، وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام، وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات، والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقًا لا بتجرد بعض دون بعض.
ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} على هذا الوجه أن يكون حالًا من الأولى والثانية على قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في {عِندَهُ} ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجىء الحال من المبتدأ ولا يخفى.
وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبرًا لمن عنده، وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى.
{لاَ يَفْتُرُونَ} في موضع الحال من مضير {يَسْبَحُونَ} على تقديري الاستئناف والحالية، وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالًا من ضمير {لا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أيضًا، ولا يجوز على تقدير الاستئناف كونه حالًا منه للفصل.
وجوز أن يكون استئنافًا والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلًا بفراغ أو شغل آخر، واستشكل كون الملائكة مطلقًا كذلك مع أن منهم رسلًا يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية أخرى.
وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعبًا عن ذلك كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر.
وتعقب بأن فيه بعدًا، وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلًا ببعض آخر، وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه إن لم يحمل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك انتهى.
ولا يخفى حسنه، ويجوز أن يقال: إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة، ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف. اهـ.

.قال القاسمي:

ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلًا ونهارًا، وبراءتهم من البُنُوَّة المفتراة عليهم، إثر إخباره عن ملكه للخلق كافة، بقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض} أي: ملكًا وتدبيرًا: {وَمَنْ عِنْدَهُ} وهم الملائكة: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي: لا يعْيَونَ ولا يتعبون منها. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} أي: من تنزيهه وعبادته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض}.
عطف على جملة {لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدّنا} [الأنبياء: 17] مبيِّنةٌ أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقياممِ بما خلقوا لأجله، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن.
فاللام في {وله} للملك، والمجرور باللام خبر مقدم.
و{من في السموات} مبتدأ، وتقديم المجرور للاختصاص، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد ردًا على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.
و{من في السماوات والأرض} يعم العقلاء وغيرهم وغُلِّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.
وقوله تعالى: {ومن عنده} يجوز أن يكون معطوفًا على {من في السماوات والأرض} فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة {لا يستكبرون عن عبادته} حالًا من المعطوف عليه.
ويجوز أن يكون {مَنْ عنده} مبتدأ وجملة {لا يستكبرون عن عبادته} خبرًا.
وما صدَق مَن جماعة كما دل عليه قوله تعالى: {لا يستكبرون} بصيغة الجمع.
{ومن عنده} هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.
وعلى كلا الوجهين في موقع جملة {لا يستكبرون عن عبادته} يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون.
والاستحسار: مصدر كالحُسور وهو التعب، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاسيخار، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقلَ ذلك العمل، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرجَ مخرج الغالب في أمثاله.
فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسورًا ضعيفًا.
وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.
وجملة {يسبحون الليل والنهار} بيان لجملة {ولا يستحسرون} لأن من لا يتعب من عمل لا يتركه فهو يواظب عليه ولا يَعيَا منه. والليل والنهار: ظرفان.
والأصل في الظرف أن يستوعبَه الواقع فيه، أي يسبحون في جميع الليل والنهار.
وتسبيح الملائكة بأصوات مخلوقة فيهم لا يعطلها تبليغ الوحي ولا غيره من الأقوال.
والفتور: الانقطاع عن الفعل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض}.
سبق أن أخبر الحق سبحانه أنه خلق السماء والأرض وما بينهما، وهذا ظَرْف، فما المظروف فيه؟ المظروف فيه هم الخَلْق، وهم أيضًا لله: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} [الأنبياء: 19] وإنْ كان من الخَلْق مَنْ ميَّزه الله بالاختيار يؤمن أو يكفر، يطيع أو يعصي، فإنْ كان مختارًا في أمور التكليف فهو مقهورة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72].
فاختارت التسخير على الاختيار الذي لا طاقة لها به. أما الإنسان فقد دعاه عقله إلى حملها وفضَّل الاختيار، ورأى أنه سيُوجه هذه الأمانة التوجيه السليم {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوما جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فوصفه رَبُّه بأنه كان في هذا العمل ظلوما جهولًا؛ لأنه لا يدري عاقبة هذا التحمل. فإنْ قلتَ: فما ميزة طاعة السماوات والأرض وهي مضطرة؟ نقول: هي مضطرة باختيارها، فقد خيَّرها الله فاختارت الاضطرار.
وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] أي ليسوا أمثالكم يكذبون ويكفرون، بل هم في عبادة دائمة لا تنقطع، والمراد هنا الملائكة؛ لأنهم {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
{وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] من حسر: يعني ضَعُفَ وكَلّ وتعب وأصابه الملل والإعياء. ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] أي: كليل ضعيف، لا يَقْوي على مواجهة الضوء الشديد كما لو واجهت بعينيك ضوءَ الشمس أو ضوء سيارة مباشر، فإنه يمنعك من الرؤية؛ لأن الضوء الأصل فيه أن نرى به ما لا نراه.
وفي آية أخرى يقول تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172] لأن عِزَّهم في هذه المسألة. {يُسَبِّحُونَ الليل}.
فهؤلاء الملائكة يعبدون الله ويسبحونه، لا يصيبهم ضَعْف، ولا يصيبهم فُتُور، ولا يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه: فالملائكة لا تتكبر عن عبادته والخضوع له.
والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. اهـ.