فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}.
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى هاهنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالًا وجوابًا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد.
أما قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: أم هاهنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة قد أذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر هو اتخاذهم آلهم من الأرض ينشرون الموتى، ولعمري إن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات، فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وبأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث، ويقولون: {مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة ألبتة؟ قلت: لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها ولابد للعبادة من فائدة هي الثواب فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل، يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة.
المسألة الثانية:
قوله: {مّنَ الأرض} كقولك فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني إذ معنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لأن الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض.
المسألة الثالثة:
النكتة في {هُمْ يُنشِرُونَ} معنى الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم.
المسألة الرابعة:
قرأ الحسن {ينشرون} وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها.
أما قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال أهل النحو إلا هاهنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا، ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الإستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد، وذلك باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم.
ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه.
المسألة الثانية:
قال المتكلمون: القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالًا، إنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلابد وأن يكون كل واحد منهما قادرًا على كل المقدورات ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرًا على تحريك زيد وتسكينه فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معًا لوجدا معًا وذلك محال أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك محال أيضًا لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كل واحد منهما قادرًا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لابد وأن يستويا في القدرة.
وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح.
وثانيهما: أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادرًا والذي لم يقع مراده يكون عاجزًا والعجز نقص وهو على الله محال.
فإن قيل الفساد إنما يلزم عند اختلافهما في الإرادة وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما في الإرادة بل أقصى ما تدعونه أن اختلافهما في الإرادة ممكن، فإذا كان الفساد مبنيًا على الإختلاف في الإرادة وهذا الإختلاف ممكن والمبني على الممكن ممكن فكان الفساد ممكنًا لا واقعًا فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد؟ قلنا الجواب من وجهين: أحدهما: لعله سبحانه أجرى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر من حيث إن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب.
والثاني: وهو الأقوى أن نبين لزوم الفساد لا من الوجه الذي ذكرناه بل من وجه آخر، فنقول: لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرًا على جميع المقدّورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه فإذا كان كل واحد منهما مستقلًا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلًا منهما جميعًا فيلزم استغناؤه عنهما معًا واحتياجه إليهما معًا وذلك محال.
وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد، فنقول القول بوجود الإلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحد منهما وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع ألبتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعًا، أو نقول لو قدرنا إلهين، فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال وإن اختلفا، فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، فإن قلت: لم لا يجوز أن يتفقا على الشيء الواحد ولا يلزم الفساد لأن الفساد إنما يلزم لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو وهذا اختلاف، أما إذا أراد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما بعينه فهناك لا يلزم وقوع مخلوق بين خالقين، قلت: كونه موجدًّا له، إما أن يكون نفس القدرة والإرادة أو نفس ذلك الأثر أو أمرًا ثالثًا، فإن كان الأول لزم الإشتراك في القدرة والإرادة والاشتراك في الموجد، وإن كان الثاني فليس وقوع ذلك الأثر بقدرة أحدهما وإرادته أولى من وقوعه بقدرة الثاني، لأن لكل واحد منهما إرادة مستقلة بالتأثير، وإن كان الثالث وهو أن يكون الموجد له أمرًا ثالثًا فذلك الثالث إن كان قديمًا استحال كونه متعلق الإرادة.
وإن كان حادثًا فهو نفس الأثر، ويصير هذا القسم هو القسم الثاني الذي ذكرناه.
واعلم أنك لما وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل وحدانية الله تعالى بل وجود كل واحد من الجواهر والأعراض دليل تام على التوحيد من الوجه الذي بيناه.
وهذه الدلالة قد ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه، واعلم أن هاهنا أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى.
أحدها: وهو الأقوى أن يقال: لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتيهما فلابد وأن يشتركا في الوجود ولابد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بنفسه وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركبًا مما به يشارك الآخر ومما به امتاز عنه، وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته.
هذا خلف، فإذن واجب الوجود ليس إلا الواحد وكل ما عداه فهو ممكن مفتقر إليه وكل مفتقر في وجوده إلى الغير فهو محدث فكل ما سوى الله تعالى محدث، ويمكن جعل هذه الدلالة تفسيرًا لهذه الآية.
لأنا إنما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجبًا وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، وحينئذ يلزم الفساد فثبت أنه يلزم من وجود إلهين وقوع الفساد في كل العالم.
وثانيها: أنا لو قدرنا إلهين لوجب أن يكون كل واحد منهما مشاركًا للآخر في الإلهية، ولابد وأن يتميز كل واحد منهما عن الآخر بأمر ما وإلا لما حصل التعدد، فما به الممايزة إما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خاليًا عن الكمال فيكون ناقصًا والناقص لا يكون إلهًا، وإن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفًا بما لايكون صفة كمال فيكون ناقصًا، ويمكن أن يقال: ما به الممايزة إن كان معتبرًا في تحقق الإلهية فالخالي عنه لا يكون إلهًا وإن لم يكن معتبرًا في الإلهية لم يكن الاتصاف به واجبًا، فيفتقر إلى المخصص فالموصوف به مفتقر ومحتاج.
وثالثها: أن يقال: لو فرضنا إلهين لكان لابد وأن يكونا بحيث يتمكن الغير من التمييز بينهما، لَكِن الامتياز في عقولنا لا يحصل إلا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب والإمكان وكل ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الإمتياز.
ورابعها: أن أحد الإلهين إما أن يكون كافيًا في تدبير العالم أو لا يكون فإن كان كافيًا كان الثاني ضائعًا غير محتاج إليه، وذلك نقص والناقص لا يكون إلهًا.
وخامسها: أن العقل يقتضي احتياج المحدث إلى الفاعل ولا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبرًا لكل العالم.
فأما ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال.
وسادسها: أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يخص نفسه بدليل يدل عليه ولا يدل على غيره أو لا يقدر عليه.
والأول محال لأن دليل الصانع ليس إلا بالمحدثات وليس في حدوث المحدثات ما يدل على تعيين أحدهما دون الثاني والتالي محال لأنه يفضي إلى كونه عاجزًا عن تعريف نفسه على التعيين والعاجز لا يكون إلهًا.
وسابعها: أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يستر شيئًا من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلًا، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزًا.
وثامنها: لو قدرنا إلهين لكان مجموع قدرتيهما بينهما أقوى من قدرة كل واحد منهما وحده، فيكون كل واحد من القدرتين متناهيًا والمجموع ضعف المتناهي فيكون الكل متناهيًا.
وتاسعًا: العدد ناقص لاحتياجه إلى الواحد، والواحد الذي يوجد من جنسه عدد ناقص ناقص، لأن العدد أزيد منه، والناقص لا يكون إلهًا فالإله واحد لا محالة.
وعاشرها: أنا لو فرضنا معدوما ممكن الوجود ثم قدرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزًا والعاجز لا يكون إلهًا، وإن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر يكون إلهًا، وإن قدرا جميعًا فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجًا إلى إعانة الآخر، وإن قدر كل واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادرًا عليه وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول قد أزال قدرة الثاني وعجزه فيكون مقهورًا تحت تصرفه فلا يكون إلهًا.
فإن قيل الواجد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز، قلنا: الواحد إذا أوجده فقد نفذت قدرته فنفاذ القدرة لا يكون عجزًا، أما الشريك فإنه لما نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة ألبتة بل زالت قدرته بسبب قدرة الأول فيكون تعجيزًا.
الحادي عشر: أن نقرر هذه الدلالة على وجه آخر وهو أن نعين جسمًا وتقول هل يقدر كل واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلًا عن السكون وبالعكس، فإن لم يقدر كان عاجزًا وإن قدر فنسوق الدلالة إلى أن نقول إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون، فالأول أزال قدرة الثاني وعجزه فلا يكون إلهًا، وهذان الوجهان يفيدان العجز نظرًا إلى قدرتيهما والدلالة الأولى إنما تفيد العجز بالنظر إلى أرادتيهما.
وثاني عشرها: أنهما لما كانا عالمين بجميع المعلومات كان علم كل واحد منهما متعلقًا بعين معلوم الآخر فوجب تماثل علميهما والذات القابلة لأحد المثلين قابلة للمثل الآخر، فاختصاص كل واحد منهما بتلك الصفة مع جواز اتصافه بصفة الآخر على البدل يستدعي مخصصًا يخصص كل واحد منهما بعلمه وقدرته فيكون كل واحد منهما عبدًا فقيرًا ناقصًا.
وثالث عشرها: أن الشركة عيب ونقص في الشاهد، والفردانية والتوحد صفة كمال، ونرى الملوك يكرهون الشركة في الملك الحقير المختصر أشد الكراهية.
ونرى أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة عن الشركة أشد، فما ظنك بملك الله عز وجل وملكوته فلو أراد أحدهما استخلاص الملك لنفسه، فإن قدر عليه كان المغلوب فقيرًا عاجزًا فلا يكون إلهًا، وإن لم يقدر عليه كان في أشد الغم والكراهية فلا يكون إلهًا.
ورابع عشرها: أنا لو قدرنا إلهين لكان إما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كل واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر والآخر يستغني عنه، فإن كان الأول كان كل واحد منهما ناقصًا لأن المحتاج ناقص وإن كان الثاني كان كل واحد منهما مستغنيًا عنه، والمستغني عنه ناقص، ألا ترى أن البلد إذا كان له رئيس والناس يحصلون مصالح البلد من غير رجوع منهم إليه ومن غير التفات منهم إليه عد ذلك الرئيس ناقصًا، فالإله هو الذي يستغني به ولا يستغنى عنه، وإن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس كان المحتاج ناقصًا والمحتاج إليه هو الإله.
واعلم أن هذه الوجوه ظنية إقناعية والاعتماد على الوجوه المتقدمة، أما الدلائل السمعية فمن وجوه: أحدها: قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] فالأول هو الفرد السابق، ولذلك لو قال أول عبد اشتريته فهو حر فلو اشترى أولا عبدين لم يحنث لأن شرط الأول أن يكون فردًا.
وهذا ليس بفرد فلو اشترى بعد ذلك واحدًا لم يحنث أيضًا لأن شرط الفرد أن يكون سابقًا وهذا ليس بسابق.
فلما وصف الله تعالى نفسه بكونه أولًا وجب أن يكون فردًا سابقًا فوجب أن لا يكون له شريك.
وثانيها: قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] فالنص يقتضي أن لا يكون أحد سواه عالمًا بالغيب ولو كان له شريك لكان عالمًا بالغيب وهو خلاف النص.
وثالثها: أن الله تعالى صرح بكلمة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 163] في سبعة وثلاثين موضعًا من كتابه وصرح بالوحدانية في مواضع نحو قوله: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وكل ذلك صريح في الباب.