فصل: بصيرة في لَكِن ولَكِن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الموضع الخامس: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا} قرئ في السبع برفع يأْمركم ونصبه.
فمن رفعه قطعه عمَا قبله، وفاعله ضميره تعالى، أَو ضمير الرسول، ولا على هذه القراءَة نافية لا غير.
ومن نصبه فهو معطوف على يُؤتيه وعلى هذا لا زائدة مؤكَّدة لمعنى النفى.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} قرأَ جماعة لَتُصِيبَنَّ، وخُرّج على حذف أَلف لا تخفيفًا؛ كما قالوا: أَمَ والله.
وأَمَا لا في قوله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} فقيل: نافية، والتاء لتأْنيث اللفظة، نحو: رُبَّت وثُمَّت، وحرّكت لالتقاء الساكنين.
وقيل نافية والتاء زائدة في أَوّل الحِين.
وقيل: إِنما هي كلمة واحدة، فعل ماضٍ بمعنى نَقَص، من قوله تعالى: {لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} فإِنه يقال: لات يليت، كما يقال أَلَت يأْلت، وقد قرئ بهما.
وقيل: أَصلها لَيِس على زنة أَيس، قُلبت الياءُ أَلِفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأَبدلت السين تاء.
واختلف في عمله، فقال الأَكثرون: يعمل عمل ليس، وقيل: يعمل عمل إِنَّ: ينصب الاسم ويرفع الخبر، وقيل: لا يعمل شيئًا.
فإِن وليها مرفوع فمبتدأ محذوف الخبر، أَو منصوب فمعمول لفعل محذوف.
والتقدير في الآية: لا أَرى حين مناص.
وعلى قراءَة الرفع التقدير: لا حينُ مناص كائن لهم.
وقرئ: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} بخفض حين، فزَعم الفرّاء أَن لات يستعمل حرفًا جارا لأَسماءِ الزمان خاصّة؛ كما أَن مذْ ومُنْذ كذلك. والله أَعلم.
بصيرة في لن وليت واللات:
لَنْ: حرف نصب ونفى واستقبال، ولا يفيد توكيد المنفى، ولا التأْبيد، خلافا للزمخشرى؛ ولو كانت للتأْبيد لم يقيّد منفيّها باليوم في قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}، ولكان ذكر الأَبد في قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} تكرارًا، والأَصل عدمه.
ويأْتى للدّعاءِ كقوله:
لن يزالوا كذلكم ثم لا زلـ ** ـتَ لهم خالدا خلود الجبال

ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}.
وتلقّى القسم بها وبلم نادر جدًّا، كقول أَبى طالب:
والله لن يصلوا إِليك بجَمعهم ** حَتّى أُوسَّد في التراب دَفينا

وقد يُجزم بها؛ كقوله:
فلن يَحْلَ للعينين بعدكِ منظر

وليت حرف تمنٍّ يتعلق بالمستحيل غالبا؛ كقوله:
فيا ليت الشَّبابَ يعود يوما ** فأخبره بما فعل المَشِيبُ

ويتعلّق بالممكن قليلًا: {يالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}، {يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ}، {يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}.
وحكمه أَن ينصب الاسم- ويرفع الخبر.
قيل: وقد ينصبهما كقوله:
ياليت أَيام الصبا رواجعا

واللاتُ والعُزَّى صنمان.
أَصل اللات: اللاه، فحذفوا منه الهاء، وأَدخلوا لتاءَ فيه؛ فأَنَّثوه؛ تنبيها على قصوره عن الله تعالى.
وجعلوه مختصّا بما يُتقرّب به إلى الله في زعمهم.

.بصيرة في لَكِن ولَكِن:

لَكِن- مشدَّدة-: حرف، تنصب الاسم وترفع الخبر؛ {وَلَكِن اللَّهَ سَلَّمَ}، {وَلَكِن الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ}، ونظائره كثيرة جدًّا.
ومعناه الاستدراك، وهو: أَن يُثبت لما بعدها حكما مخالفا لحكم ما قبلها ولذلك لابد أَن يتقدّمها كلام مناقض لما بعدها.
وقيل: تارة للاستدراك، وتارة للتوكيد.
وقيل: للتوكيد دائمًا مثل إِنّ، ويصحب التوكيد معنى الاستدراك.
وهى بسيطة عند البصريّين.
وقيل: أَصلها: لَكِن إِنَّ فطُرحت الهمزة للتخفيف، ونون لَكِن للساكنين.
وقيل: مركَّبة من: لا، والكاف الزائدة، ولا التشبيهيَّة، وإِنَّ، حذفت الهمزة تخفيفًا.
وقد يحذف اسمها كقوله:
فلو كنت ضبَيًّا عرفتَ قرابتى ** ولَكِن زنجىٌّ عظيم المشافر

لَكِن ساكنة النون حرف ابتداء لا يعمل، خلافًا لجماعة.
فإِن وَلِيَها كلام فهى حرف ابتداء لمجرد الاستدراك، وليست عاطفة.
ويجوز أَن يستعمل بالواو نحو قوله تعالى: {وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ}، وبدونها نحو قول زهير:
إِنّ ابنَ ورقاءَ لا تُخشى بوادره ** لَكِن وقائعه في الحرب تنتظر

وإِن وليها مفرد فهى عاطفة بشرط أَن يتقدَّمها نفى أَو نهى، نحو: ما قام زيد لَكِن عمرو.
وقيل: لا يستعمل مع المفرد إِلاَّ بالواو. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}.
تفرَّد الحقُّ بالإبداع والإيجاد، وتقدَّس عن الأمثال والأنداد، فالذين يُعْبَدُون مِنْ دونه أمواتٌ غيرُ أحياءٍ. وهم بالضرورة يعرفون، أفلا يَعْتَبِرُون وألا يَزْدَجِرُون؟
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَا يَصِفُونَ (22)}.
أخبر أَنَّ كلَّ أمر يُنَاطُ بجماعةٍ لا يجري على النظامِ؛ إذ ينشأ بينهم النزاعُ والخلافُ. ولمَا كانت أمورُ العالَم في الترتيب مُنَسَّقَة فقد دلَّ ذلك على أنها حاصلةٌ بتقديرِ مُدَبِّرٍ حكيم؛ فالسماء في علوِّها تدور على النظام أفلاكُها، وليس لها عُمُدٌ لإمساكها، والأرض مستقرةٌ بأقطارها على ترتيب تعاقب ليلها ونهارها. والشمسُ لتقديرِ العزيزِ العليمِ علامةٌ، وعلى وحدانيته دلالةٌ.
{لَا يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}.
لِكَوْنِ الخلْق له، وهم يُسأَلون للزوم حقه عليهم؟
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}.
دلت الآيةُ على فسادِ القولِ بالتقليد، ووجوبِ إقامة الحجة والدليل.
ودلَّت الآية على توحيد المعبود، ودلَّت الآية على إثبات الكسب للعبيد؛ إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللومُ والعَتْبُ. وكلُّ مَنْ علَّقَ قلبه بمخلوقٍ، أو تَوَهَّمَ من غير الله حصولَ شيءٍ فَقَد دَخَلَ في غمار هؤلاء لأنَّ الإله مَنْ يصحُّ منه الإيجاد.
قوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى}: الإشارة منه أن الدِّينَ توحيدُ الحق، وإفرادُ الربِّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية.
ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر، ولو وضعوا النظر موضعه لوَجَبَ لهم العلم لا محالة، والأمر يدل على وجوب النظر، وأنَّ العلومَ الدينية كُلَّها كسبية. اهـ.

.تفسير الآيات (25- 28):

قوله تعالى: {وما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير بيانًا لما في الذكرين: ولو أقبلوا على الذكر لعلموا أنا أوحينا إليك في هذا الذكر أنه لا إله ألا أنا، ما أرسلناك إلا لنوحي إليك ذلك، عطف عليه قوله: {وما أرسلنا} أي بعظمتنا.
ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدم لأنه كما أن الرسالة لا يقوم بها كل أحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن، أثبت الجار فقال: {من قبلك} وأعرق في النفي فقال: {من رسول} في شيع الأولين {إلا نوحي إليه} من عندنا {أنه لا إله إلا أنا} ولم يقل: نحن، لئلا يجعلوها وسيلة إلى شبهة، ولذا قال: {فاعبدون} بالإفراد، وترك التصريح بالأمر بالتخصيص بالعبادة لفهمه من المقام والحال، فإنهم كانوا قبل ذلك يعبدونه ولَكِنهم يشركون تنبيهًا على أن كل عبادة فيها شوب شرك عدم.
ولما دل على نفي مطلق الشريك عقلًا ونقلًا، فانتفى بذلك كل فرد يطلق عليه هذا الاسم، عجب من ادعائهم الشركة المقيدة بالولد، فقال عاطفًا على قوله: {وأسروا النجوى} [طه: 62]: {وقالوا} قيل: الضمير لخزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: لليهود حيث قالوا: إنه سبحانه صاهر الجن فكانت منهم الملائكة: {اتخذ} أي تكلف كما يتكلف من يكون له ولد {الرحمن} أي الذي كل موجود من فيض نعمته {ولدًا}.
ولما كان ذلك أعظم الذنب، نزه نفسه سبحانه عنه بمجمع التنزيه فقال: {سبحانه} أي تنزه عن أن يكون له ولد، فإن ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا يصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي {بل} الذي جعلوهم له ولدًا وهم الملائكة {عباد} من عباده، أنعم الله عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإن العبودية تنافي الولدية {مكرمون} بالعصمة من الزلل، ولذلك فسر الإكرام بقوله: {لا يسبقونه} أي لا يسبقون إذنه {بالقول} أي بقولهم، لأنهم لا يقولون شيئًا لم يأذن لهم فيه ويطلقه لهم.
ولما كان الواقف عما لم يؤذن له فيه قد لا يفعل ما أمر به قال: {وهم بأمره} أي خاصة إذا أمرهم {يعملون} لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة؛ ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه فقال: {يعلم ما بين أيديهم} أي مما لم يعملوه {وما خلقهم} مما عملوه، أو يكون الأول لما عملوه والثاني لما لم يعلموه، لأنك تطلع على ما قدامك ويخفى عليك ما خلفك، أي أن علمه محيط بأحوالهم ماضيًا وحالًا ومالًا، لا يخفى عليه خافية؛ ثم صرح بلازم الجملة الأولى فقال: {ولا يشفعون} أي في الدنيا ولا في الآخرة {إلا لمن ارتضى} فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه، وبلازم الجملة الثانية فقال: {وهم من خشيته} أي لا من غيرها {مشفقون} أي دائمًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}.
فاعلم أن يوحى ونوحى قراءتان مشهورتان، وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزهًا عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لابد وأن يكون شبيهًا بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، ثم لابد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن، فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكنًا غير واجب.
وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية، ولذلك نزه نفسه عنه.
أما قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرىء: {مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ} من سابقته فسبقته أسبقه.
والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئًا حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله، وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضًا كذلك مبني على أمره لا يعملون عملًا ما لم يؤمروا به.
ثم إنه سبحانه ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ} والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالمًا بجميع المعلومات علموا كونه عالمًا بظواهرهم هم وبواطنهم، فكان ذلك داعيًا لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية.
وذكر المفسرون فيه وجوهًا.
أحدها: قال ابن عباس: يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم.
وثانيها: ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا وقيل على عكس ذلك.
وثالثها: قال مقاتل: يعلم ما كان قبل أن يخلقهم وما يكون بعد خلقهم.
وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم، وإذا كانت هذه حالتهم فكيف يستحقون العبادة وكيف يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له.
ثم كشف عن هذا المعنى فقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن هو عند الله مرضي: {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول ومشفقون خائفون ولا يأمنون مكره وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطًا كالحلس من خشية الله تعالى» ونظيره قوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38].
أما قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء، وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه:
أحدها: أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولًا ولا يعملون عملًا إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد.
وثانيها: أنه سبحانه لما كان عالمًا بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} [المائدة: 116].
وثالثها: أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلهًا أو ولدًا للإله لا يكون كذلك.
ورابعها: أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد.
وخامسها: نبه تعالى بقوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة.
المسألة الثانية:
احتجت المعتزلة بقوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم.
والجواب: قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك: {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن قال لا إله إلا الله.
واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه، وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما.
المسألة الثالثة:
هذه الآية تدل على أمور ثلاثة: أحدها: تدل على كون الملائكة مكلفين من حيث قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ومن حيث الوعيد.
وثانيها: تدل أيضًا على أن الملائكة معصومون لأنه قال: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.
وثالثها: قال القاضي عبد الجبار قوله: {كذلك نَجْزِى الظالمين} يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة.
والجواب: أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما ما بين أيديهم من أمر الآخرة، وما خلفهم من أمر الدنيا، قاله الكلبي.
الثاني: ما قدموا وما أخروا من عملهم، قاله ابن عباس.
وفيه الثالث: ما قدموا: ما عملوا، وما أخروا: يعني ما لم يعملوا، قاله عطية.
{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} فيه وجهان:
أحدهما: لا يستغفرون في الدنيا إلا لمن ارتضى.
الثاني: لا يشفعون يوم القيامة إلا لمن ارتضى.
وفيه وجهان:
أحدهما: لمن ارتضى عمله، قاله ابن عيسى.
الثاني: لمن رضي الله عنه، قاله مجاهد. اهـ.