فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{اقترب لِلنَّاسِ}.
قيل: اللام بمعنى من أي اقترب من الناس {حِسَابُهُمْ} محاسبة الله إيّاهم على أعمالهم {وَهُمْ} واو الحال {فِي غَفْلَةٍ} عنه {مُّعْرِضُونَ} عن التفكير فيه والتأهّب له، نزلت في منكري البعث.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} يعني ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكّرهم ويعظهم به {إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لا يعتبرون ولا يتّعظون.
قال مقاتل: يحدث الله الأمر بعد الأمر، وقال الحسن بن الفضل: الذكر هاهنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ عليه قوله في سياق الآية {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} ولو أراد الذكر بالقرآن لقال: هل هذا إلاّ أساطير الأولين، ودليل هذا التأويل أيضًا قوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [القلم: 51-52] يعني محمدًا عليه السلام.
{لاَهِيَةً} ساهية {قُلُوبُهُمْ} معرضة عن ذكر الله، من قول العرب: لهيت عن الشيء إذا تركته، ولاهية نعت تقدّم الاسم ومن حقّ النعت أن يتبع الاسم في جميع الإعراب، فإذا تقدّم النعت الاسم فله حالتان: فصل ووصل، فحاله في الفصل النصب كقوله سبحانه {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 7] {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} [الإنسان: 14] و{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ}. قال الشاعر:
لعزّة موحشًا طلال ** يلوح كأنّه خلل

أراد: طلل موحش، وحاله في الوصل حال ما قبله من الإعراب كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} [النساء: 75] قال ذو الرمّة:
قد أعسف النازح المجهول معسفة ** في ظلّ أخضر يدعو هامه البوم

أراد معسفه مجهول وإنّما نصب لانتصاب النازح.
وقال النابغة:
من وحش وجرة موشّي أكارعه ** طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

أراد أنّ أكارعه مَوشيّة.
{وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} كان حقّه وأسرّ لأنه فعل تقدّم الاسم فاختلف النحاة في وجهه، فقال الفرّاء: الذين ظلموا في محلّ الخفض على أنّه تابع للناس في قوله: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير أراد والذين ظلموا أسرّوا النجوى.
وقال قطرب: وهذا سائغ في كلام العرب وحُكي عن بعضهم أنه قال: سمعت بعض العرب يقول: أكلوني البراغيث قال الله سبحانه {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71]. وقال الشاعر:
بك نال النصال دون المساعي ** فاهتدين النبال للأغراض

ويحتمل أن يكون محل الذين رفعًا على الابتداء، ويكون معناه وأسَروّا النّجوى، ثمّ قال هم الذين ظلموا.
{هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أنّه سِحر {قَالَ رَبِّي} قرأ أكثر أهل الكوفة قال على الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون قل على الأمر له {يَعْلَمُ القول فِي السماء والأرض وَهُوَ السميع} لأقوالهم {العليم} بأفعالهم {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أباطليها وأهاويلها {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يعني أنّ المشركين اقتسموا القول فيه: فقال بعضهم: أضغاث أحلام، وقال بعضهم: بل افتراه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر، لأنَّ بل تأتي لتدارك شيء ونفي آخر.
{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} إن كان صادقًا {كَمَا أُرْسِلَ الأولون} من الرسل بالآيات. قال الله سبحانه مجيبًا لهم {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} أهل قرية أتتها الآيات فأهلَكِناهم {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} إن جاءتهم آية... {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ} وهذا جواب لقولهم {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} {فاسئلوا أَهْلَ الذكر} أي التوراة والإنجيل يعني علماء أهل الكتاب {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن يعني فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال عليّ: نحن أهل الذكر.
{وما جَعَلْنَاهُمْ} يعني الرسل الأولين {جَسَدًا} قال الفرّاء: لم يقل أجسادًا لأنّه اسم الجنس {لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} يقول: لم نجعلهم ملائكة، بل جعلناهم بشرًّا محتاجين إلى الطعام، وهذا جواب لقولهم {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7] {وما كَانُواْ خَالِدِينَ} في الدنيا {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد} الذي وعدناهم هلاك أعدائهم ومخالفيهم وإنجائهم ومتابعيهم {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نشاء وَأَهْلَكِنا المسرفين} المشركين.
{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال مجاهد: حديثكم، وقيل: شرفكم.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي أهلَكِنا، والقصم: الكسر يقال: قصمت ظهر فلان، وانقصمت سنة إذا انكسرت.
{وَأَنشَأْنَا} وأحدثنا {بَعْدَهَا} بعد إهلاك أهلها {قَوما آخَرِينَ فَلَمَا أَحَسُّواْ} رأوا {بَأْسَنَا} عذابنا {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} يسرعون هاربين، يقال منه: ركض فلان فرسه إذا كدّه بالرجل، وأصله التحريك.
{لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} نُعّمتم فيه {وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} عن نبيّكم، مجاهد: لعلكم تفقهون بالمسألة، قتادة: لعلّكم تسألون من دنياكم شيئًا استهزاءً بهم، نزلت هذه الآيات في أهل حصورا وهي قرية باليمن، وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبيًّا يدعوهم إلى الله سبحانه فكذّبوه وقتلوه، فسلّط الله عليهم بخت نصّر حتى قتلهم وسباهم ونكّل بهم، فلمّا استحرّ فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم على طريق الاستهزاء {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} إلى مساكنكم وأموالكم، فأتبعهم بخت نصّر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جوّ السماء: يالثارات الأنبياء، فلمّا رأوا ذلك أقرّوا بالذنوب حين لم ينفعهم فقالوا {ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} قولهم وهجّيراهم {حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} بالسيوف كما يحصد الزرع {خَامِدِينَ} ميّتين.
{وما خَلَقْنَا السماء والأرض وما بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} عبثًا وباطلًا {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} قال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن المرأة.
وقال عقبة بن أبي جسرة: شهدت الحسن بمكة وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد فسألوه عن هذه الآية، فقال الحسن: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: الولد.
{لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} من عندنا وما اتّخذنا نساءً وولدًا من أهل الأرض، نزلت في الذين قالوا اتّخذ الله ولدًا.
{إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ} نأتي ونرمي وننزل {بالحق} بالإيمان {عَلَى الباطل} الكفر {فَيَدْمَغُهُ} فيهلكه، وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدِماغ {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ذاهب وهالك.
{وَلَكُمُ الويل} يا معشر الكفّار {مِمَا تَصِفُونَ} لله بما لا تليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد: ممّا تكذبون، ونظيره قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] أي تكذيبهم.
{وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} عبدًا وملكًا {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ}.
قال ابن عباس: لا يستنكفون، مجاهد: لا يجسرون، قتادة ومقاتل والسدّي: لا يعيون، الوالبي عن ابن عباس: لا يرجعون، ابن زيد: لا يملّون.
{يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} لا يضعفون ولا يسأمون، قد أُلهموا التسبيح كما تلهمون النَّفَس.
{أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض} يعني الأصنام {هُمْ يُنشِرُونَ} يحيون الإموات ويخلقون الخلق.
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا} أي في السماء والأرض {آلِهَةٌ إِلاَّ الله} غير الله {لَفَسَدَتَا} وهلك من فيهما.
{فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} لأنه الرب {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} عما لا يعلمون لأنهم عبيده.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} على ذلك، ثمَّ قال مستأنفًا {هذا} يعني القرآن {ذِكْرُ} خبر {مَن مَّعِيَ} بيان الحدود والأحكام والثواب والعقاب {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن القرآن.
{وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ} قرأ أكثر أهل الكوفة بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله: أرسلنا، وقرأ الباقون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول.
{أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} يعني الملائكة {لاَ يَسْبِقُونَهُ} لا يتقدّمونه {بالقول} ولا يتكلّمون إلاّ بما يأمرهم به.
{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى}.
قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلاّ الله، وقال مجاهد: لمن رضي الله عنه، {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} خائفون. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، نزلت بعد سورة إبراهيم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

.[سورة الأنبياء: آية 1]:

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}.
هذه اللام: لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم، كقولك: أزف للحىّ رحيلهم الأصل: أزف رحيل الحىّ، ثم أزف للحىّ الرحيل، ثم أزف للحىّ رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقرّ توكيدا عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم: لا أبالك: لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأول. والمراد اقتراب الساعة. وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}.
فإن قلت: كيف وصف بالاقتراب وقد عدّت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟
قلت: هو مقترب عند اللّه والدليل عليه قوله عزّ وجلّ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ} ولأنّ كلّ آت- وإن طالت أوقات استقباله وترقبه- قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام: «بعثت في نسم الساعة» وفي خطبة بعض المتقدّمين: ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء. وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: أنّ المراد بالناس: المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين. وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لابد من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.