فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

سورة الأنبياء عليهم السلام:
{اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
الناس لفظ عام، وقال ابن عباس: المراد به هنا المشركون من قريش بدليل ما بعد ذلك، لأنه من صفاتهم، وإنما أخبر عن الساعة بالقرب، لأن الذي مضى من الزمان قبلها أكثر مما بقي لها ولأن كل آت قريب.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} يعني بال {ذِكْرٍ} القرِآن، {مُّحْدَثٍ} أي محدث النزول.
{وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} الواو في {وَأَسَرُّواْ} ضمير فاعل، يعود على ما قبله، {الذين ظَلَمُواْ} بدل الضمير، وقيل: إن الفاعل هو الذين ظلموا، وجاء ذلك على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهي لغة بني الحارث بن كعب، وقال سيبويه: لم تأت هذه اللغة في القرآن ويحتمل أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} منصوبًا بفعل مضمر على الذم أو خبر ابتداء مضمر، والأول أحسن {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} هذه الكلام في موضع نصب بدل من النجوى، لأن هو الكلام الذي تناجوا به، والبشر المذكور في الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول} إخبار بأنه ما تناجوا به على أنهم أسّروه فإن قيل: هلا قال يعلم السر مناسبة لقوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى}؟ فالجواب: أن القول يشمل السرّ والجهر فحصل به ذكر السرّ وزيادة.
{بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط منامات، وحكى عنهم هذه الأقوال الكثير، ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم {كَمَا أُرْسِلَ الأولون} أي كما جاء الرسل المتقدمون بالآيات، فليأتنا محمد بآية. فالتشبيه في الإتيان بالمعجزة {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا} لما قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} أخبرهم الله أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا، ثم قال: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي أن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال من قبلهم، ويحتمل أن يكون المعنى: أن كل قرية هلكت لم تؤمن فهؤلاء كذلك، ولا يكون على هذا جوابًا لقولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} بل يكون إخبارًا مستأنفًا على وجه التهديد؛ وأهلَكِناها في موضع الصفة لقرية، والمراد أهل القرية.
{وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا} ردّ على قولهم: {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]؛ والمعنى أن الرسل المتقدمين كانوا رجالًا من البشر، فكيف تنكرون أن يكون هذا الرجل رسولًا {أَهْلَ الذكر} يعني: أحبار أهل الكتاب.
{وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} أي ما جعلنا الرسل اجسادًا غير طاعمين، ووحد الجسد لإرادة الجنس، و{لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} صفة لجسد، وفي الآية ردّ على قولهم {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7].
{وَمَن نشاء} يعني المؤمنين {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي شرفكم وقيل: تذكيركم.
{قَصَمْنَا} أي أهلَكِنا، وأصله من قصم الظهر أي كسره {مِن قَرْيَةٍ} يريد أهل القرية: قال ابن عباس: هي قرية باليمن يقال لها حضور، بعث الله إليهم نبيًّا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فأهلكهم بالقتل، وظاهر اللفظ أنه على العموم لأن كم للتكثير، فلا يريد قرية معينة {يَرْكُضُونَ} عبارة عن فرارهم، فيحتمل أن يكونوا ركبوا الدواب، وركضوها لتسرع الجري أو شبهوا في سرعة جريهم على أرجلهم بمن يركض الدابة {لاَ تَرْكُضُواْ} أي قيل لهم لا تركضوا والقائل لذلك هم الملائكة. قالوه تهكمًا بهم، أو رجال بختنصر إن كانت القرية المعينة، قالوا ذلك لهم خداعًا ليرجعوا فيقتلوهم {أُتْرِفْتُمْ} أي نعمتم {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تهكم بهم وتوبيخ أي: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم، ويحتمل أن يكون {تُسْأَلُونَ} بمعنى يطلب لكم الناس معروفكم وهذا أيضا تهكم.
{قَالُواْ ياويلنآ} الآية اعتراف وندم حين لم ينفعهم {حَصِيدًا خَامِدِينَ} شبهوا في هلاكهم بالزرع المحصود ومعنى {خَامِدِينَ}: موتى وهو تشبيه بخمود النار {لاَعِبِينَ} حال منفية أي ما خلقنا السموات والأرض لأجل اللعب بل للاعتبار بها، والاستدلال على صنعها.
{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} اللهو في لغة اليمن: الولد، وقيل المرأة، و{مِن لَّدُنَّآ}: أي من الملائكة، فالمعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ ولدًا لاتخذناه من الملائكة، لا من بني آدم، فهو ردّ على من قال: إن المسيح ابن الله وعزيز ابن الله، والظاهر أن اللهو بمعنى اللعب لاتصاله بقوله لا عبين.
وقال الزمخشري: المعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ لهوًا لكان ذلك في قدرتنا، ولَكِن ذلك لا يليق بنا لأنه مناقض للحكمة، وفي كلا القولين نظر {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} يحتمل أن تكون إن شرطية وجوابها فيما قبلها، أو نافية، والأول أظهر {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} {الحق} عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق، {الباطل} عام في أضداد ذلك {فَيَدْمَغُهُ} أي يقمعه ويبطله، وأصله من إصابة الدماغ {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يَعْيَوْن ولا يملون {أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} أم هنا للإضراب عما قبلها، والاستفهام على وجه الإنكار لما بعدها {مِّنَ الأرض} يتعلق بينشرون؛ والمعنى: أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أن ينشروا الموتى من الأرض، فليست بآلهة في الحقيقة؛ لأن من صفة الإلهة القدرة على الإحياء والإماتة.
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} هذا برهان على وحدانية الله تعالى، والضمير في قوله: {فِيهِمَا} للسموات والأرض، {إِلاَّ الله} صفة لآلهة، و{إِلاَّ} بمعنى غير، فاقتضى الكلام أمرين: أحدهما نفي كثرة الآلهة، ووجوب أن يكون الإله واحدًا، والأمر الثاني: أن يكون ذلك الواحد هو الله دون غيره، ودل على ذلك قوله: {إِلاَّ الله}، وأما الأول فكانت الآية تدل عليه لو لم تذكر هذه الكلمة، وقال ابن كثير من الناس في معنى الآية: إنها دليل على التمانع الذي أورده الأصوليون، وذلك أنا لو فرضنا إليهن، فأراد أحدهما شيئًا وأراد الآخر نقيضه، فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما، وذلك محال؛ لأن النقيضين لا يجتمعان، وإما أن لا تنفذ إرادة واحدة منهما، وذلك أيضًا محال، لأن النقيضين لا يرتفعان معًا، ولأن ذلك يؤدّي إلى عجزهما وقصورهما، فلا يكونان إليهن، وإما أن ينفذ أرادة واحدة منهما دون الآخر، فالذي تنفذ إرادته هو الإله، والذي لا تنفذ إرادته ليس بإله، فالإله واحد. وهذا الدليل إن سلمنا صحته فلفظ الآية لا يطابقه، بل الظاهر من اللفظ استدلال آخر أصح من دليل التمانع، وهو أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة، ولا ولّيان لخطة واحدة {لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} لأنه مالك كل شيء، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيم، فأفعاله كلها جارية على الحكمة {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لفقد العلتين {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} كرر هذا الإنكار استعظامًا للشرك، ومبالغة في تقبيحه، لأن قبله من صفات الله ما يوجب توحيده، وليناط به ما ذكر بعده من تعجيز المشركين، وأنهم ليس لهم على الشرك برهان؛ لا من جهة العقل، ولا من جهة الشرع.
{هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} تعجيز لهم وقد تكلمنا على هاتوا في [البقرة: 111] {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} ردّ على المشركين والمعنى هذا الكتاب الذي معي، والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك بالله، بل كلها متفقة على التوحيد.
{وما أَرْسَلْنَا} الآية: ردّ على المشركين، والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله إلا الله {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} يعني الملائكة، وهم الذي قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات الله، فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض النبوّة، ووصفهم بالكرامة، لأن ذلك هو الذي غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدبًا معه {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن ارتضى أن يشفع له، ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في الآخرة أو في الدنيا، وهي استغفارهم لمن في الأرض {مُشْفِقُونَ} أي خائفون. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكية.
قال الرازي بإجماع: وهي مائة وإحدى أو ثنتا عشرة آية وألف ومائة وستون كلمة وأربعة آلاف وثمان وتسعون حرفًا.
{بسم الله} الحكم العدل الذي تمت قدرته وعمّ أمره {الرحمن} الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده {الرحيم} الذي نجى من شاء من عباده في معاده قال أبو جعفر بن الزبير في برهانه لما تقدم قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك} [الحجر] إلى قوله: {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى} [طه].
قال تعالى: {اقترب} أي: قرب {للناس حسابهم} أي: في يوم القيامة أي: فلا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة، وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب؛ لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلًا لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب فإن قيل: كيف وصف ذلك اليوم بالاقتراب وقد عدت دون هذا القول أكثر من تسعمائة عام أجيب بأنه مقترب عند الله، والدليل عليه قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج].
ولأن كل آت، وإن طالت أوقات استقباله وترقبه قريب وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض قال الشاعر:
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ** ولا زال ماتخشاه أبعد من أمس

ولأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها بدليل انبعاث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه الموعود ببعثه في آخر الزمان، وقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وأشار بإصبعيه وقال صلى الله عليه وسلم «ختمت النبوة بي» كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي، وعن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون وهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين، وهو قوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {في غفلة} أي: عن الحساب {معرضون} عن التأهب لهذا اليوم لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لابد من جزاء المحسن والمسيء، وأيضًا إن هذه الآية نزلت في كفار مكة، ولما أخبر تعالى عن غفلتهم وإعراضهم دلّ على ذلك بقوله: {ما يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله: {من ذكر} أي: وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة، وقوله تعالى: {من ربهم} صفة ذكر أوصلة ليأتيهم {محدث} إنزاله أي: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية، وقيل: معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع، وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وإضافه إليه؛ لأن الله تعالى قال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم].
{إلا استمعوه} أي: قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق {وهم} أي: والحال أنهم {يلعبون} أي: يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب {لاهية} أي: غافلة معرضة {قلوبهم} عن ذكر الله.
تنبيه:
قوله تعالى: وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان، أو متداخلتان، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفًا على استمعوه: {وأسروا} أي: الناس المحدّث عنهم {النجوى} أي: بالغوا في إسرار كلامهم، وقوله تعالى: {الذين ظلموا} بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أومبتدأ والجملة المتقدمة خبره، والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلًا على فعلهم بأنه ظلم، وقيل: جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث وقيل: منصوب المحل على الذم، ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى: {هل} أي: فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل {هذا} الذي أتاكم بهذا الذكر {إلا بشر مثلكم} أي: في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب، والحياة والممات، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم: {أفتأتون السحر وأنتم} أي: والحال أنكم {تبصرون} بأعينكم أنه بشر مثلكم، فكأنهم استدلوا بكونه بشرًّا على كذبه في ادعاء النبوة والرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكًا، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر، فأنكروا حضوره.
فإن قيل: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب: بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، ويجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع.
ومنه قول الناس: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، قال البقاعي: فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضًا أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها، ثم كأنه قيل: فإذا يقال لهؤلاء فقال: {قال} لهم: {ربي} المحسن إلى {يعلم القول} سواء كان سرًّا أم جهرًا كائنًا {في السماء والأرض} على حد سواء؛ لأنه لا مسافه بينه وبين شيء من ذلك {وهو السميع العليم}، فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.
فإن قيل: هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى: {وأسروا النجوى} [طه].
أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر كما أن قوله: يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم.
فإن قيل: لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} [الفرقان]. ولم يقل: يعلم القول كما هنا؟
أجيب: بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع، ولَكِن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتانًا، ويجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إنّ ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله تعالى: {علام الغيوب} [المائدة].