فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما طريقة التمانع فقال المتكلمون: القول بوجود إلهين مفضٍ إلى المحال لأنّا لو فرضنا وجود إلهين، فلابد أن يكون كل واحد منهما قادرًا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرًا على تحريك زيد وتسكينه، ولو فرضنا أنّ أحدهما أراد تحريكه والآخر أراد تسكينه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدّين، أو لا يقع واحد منهما، وهو محال؛ لأنّ المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضًا محال؛ لأنّ الذي وقع مراده يكون قادرًا، والذي لم يقع مراده يكون عاجزًا، والعجز نقص، وهو على الإله محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، وإذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أنّ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل على أنّ وحدانية الله تعالى والدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن، ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر للسموات والأرض إلا واحدًا، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله تعالى قال: {فسبحان الله} أي: فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال {ربّ} أي: خالق {العرش} أي: الكرسي المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير، ومنشأ التقادير {عما يصفون} أي: الكفار الله به من الشريك له وغيره، ثم بيّن تعالى ذلك بقوله عز وجل: {لا يسأل} أي: من سائل ما {عما يفعل} لعظمته وقوّة سلطانه، وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبًا وإجلالًا مع جواز الخطأ والزلل، وأنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه تعالى الخطأ {وهم يسألون} لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه، ولما قام الدليل ووضح السبيل واضمحلّ كل قال وقيل، وانمحقت الأباطيل كرّر تعالى: {أم اتخذوا من دونه آلهة} كرّره استفظاعًا لشأنهم واستعظامًا لكفرهم، وإظهارًا لجهلهم، ولما كان جوابهم: اتخذنا ولا نرجع، أمر الله تعالى نبيه بجوابهم فقال: {قل هاتوا برهانكم} على ما ادّعيتموه من عقل أو نقل كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل، ولما كان تعالى لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضمّ إليه دليل النقل أتبعه قوله مشيرًا إلى ما بعث الله تعالى به الرسل من الكتب {هذا ذكر} أي: موعظة وشرف {من معي} ممن آمن بي وهو القرآن الذي عجزتم عن معارضته {وذكر} أي: وهذا ذكر {من قبلي} من الأمم الماضية وهو التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب السماوية، فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ولما كانوا لا يجدون شبهة لهم فضلًا عن حجة ذمّهم الله تعالى على جهلهم بمواضع الحق فقال تعالى: {بل أكثرهم} أي: هؤلاء المدّعون {لا يعلمون الحق} فلا يميزون بينه وبين الباطل بل أكثرهم جهلة، والجهل أصل الشرّ والفساد {فهم} أي: فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم {معرضون} عن التوحيد واتباع الرسل، ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدّم كما أنّ الرسالة لا يقوم بها كل واحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن أثبت الجار في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك} وأغرق في النفي فقال: {من رسول} في شيع الأولين {إلا نوحي إليه} من عندنا {أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وهذا مقرّر لما سبقه من آي التوحيد، وقال تعالى: {إلا أنا}، ولم يقل: نحن لئلا يجعلوا ذلك وسيلة إلى ما ادّعوه من تعدّد الآلهة، ولذلك قال: فاعبدون بالإفراد، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء، ولما بيّن سبحانه وتعالى بالدلائل الباهرة كونه منزهًا عن الشريك والضدّ والندّ أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد بقوله: {وقالوا اتخذ} أي: تكلف كما يتكلف من لا يكون له ولد {الرحمن} أي: الذي كل موجود من فيض نعمه {ولدًا} نزل في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: نزل ذلك في اليهود حيث قالوا: إنه تعالى صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة كما حكى الله تعالى عنهم قولهم، وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا، ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن أن يكون له ولد، فإنّ ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا تصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي {بل} أي: الذين جعلوهم له ولدًا وهم الملائكة {عباد} من عباده أنعم عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإنّ العبودية تنافي الولدية {مكرمون} بالعصمة من الزلل ولذلك فسر الإكرام بقوله تعالى: {لا يسبقونه} أي: لا يسبقون إذنه {بالقول} أي: لا يقولون شيئًا حتى يقوله كما هو شأن العبيد المؤدّبين {وهم بأمره} إذا أمرهم {يعملون} لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له تعالى، فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل، وذلك غاية الطاعة، ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه بقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي: ما عملوا وما هم عاملون لا تخفى عليه تعالى خافية مما قدّموا وأخروا، ثم صرح تعالى بلازم الجملة الأولى، فقال: {ولا يشفعون} أي: لا في الدنيا، ولا في الآخرة {إلا لمن ارتضى} فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى؛ قال ابن عباس والضحاك: إلا لمن ارتضى أي: لمن قال: لا إله إلا الله، فسقط بذلك قول المعتزلة: إنّ الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر، ثم صرّح بلازم الجملة الثانية فقال: {وهم من خشيته} أي: لا من غيرها {مشفقون} أي: خائفون، وأصل الخشية خوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدّى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدى بعلى فبالعكس. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)}.
نبه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا} يعني القرآن {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} صفة لـ: {كتابًا}، والمراد بالذكر هنا: الشرف، أي فيه شرفكم كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وقيل: {فيه ذكركم} أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب.
وقيل: فيه حديثكم، قاله مجاهد. وقيل: مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم، وقيل: فيه العمل بما فيه حياتكم، قاله سهل بن عبد الله، وقيل: فيه موعظتكم، والاستفهام في: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} للتوبيخ والتقريع، أي: أفلا تعقلون أن الأمر كذلك، أو لا تعقلون شيئًا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر. ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة، فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة}: كم في محل نصب على أنها مفعول {قصمنا} وهي الخبرية المفيدة للتكثير.
والقصم: كسر الشيء ودقه، يقال: قصمت ظهر فلان: إذا كسرته، واقتصمت سنه: إذا انكسرت، والمعنى هنا: الإهلاك والعذاب.
وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، وجملة: {كَانَتْ ظالمة} في محل جرّ صفة لقرية، وفي الكلام مضاف محذوف، أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين، أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان {وأنشأنا بعدها قوما آخرين} أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوما ليسوا منهم.
{فَلَمَا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} أي أدركوا أو رأوا عذابنا، وقال الأخفش: خافوا وتوقعوا، أو البأس: العذاب الشديد {إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ} الركض: الفرار والهرب والانهزام، وأصله: من ركض الرجل الدابة برجليه، يقال: ركض الفرس: إذا كدّه بساقيه، ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه: {اركض بِرِجْلِكَ} [ص: 42] والمعنى: أنهم يهربون منها راكضين دوابهم.
فقيل لهم: {لاَ تَرْكُضُواْ} أي لا تهربوا.
قيل: إن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم.
وقيل: إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم، والمترف المنعم، يقال: أترف فلان، أي وسع عليه في معاشه {ومساكنكم} أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم.
وقيل: المعنى: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به؛ وقيل: لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم.
قال المفسرون وأهل الأخبار: إن المراد بهذه الآية: أهل حضور من اليمن، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبيًّا اسمه شعيب بن مهدم، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضنن، وبينه وبين حضور نحو بريد، قالوا: وليس هو شعيبًا صاحب مدين.
قلت: وآثار القبر بجبل ضين موجودة، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم.
{قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي قالوا لما قالت لهم الملائكة {لا تركضوا} يا ويلنا، أي: ياهلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدّمنا.
فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب.
{فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي ما زالت هذه الكلمة دعواهم أي: دعوتهم، والكلمة هي قولهم: {يا ويلنا} أي يدعون بها ويردّدونها {حتى جعلناهم حَصِيدًا} أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، والحصيد هنا بمعنى المحصود، ومعنى {خامدين} أنهم ميتون من خمدت النار إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات: قد طفىء.
{وما خَلَقْنَا السماء والأرض وما بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} أي لم نخلقهما عبثًا ولا باطلًا، بل للتنبيه على أن لهما خالقًا قادرًا يجب امتثال أمره.
وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} اللهو: ما يتلهى به.
قيل: اللهو: الزوجة والولد.
وقيل: الزوجة فقط.
وقيل: الولد فقط.
قال الجوهري: قد يكفي باللهو عن الجماع، يدل على ما قاله قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

ومنه قول الآخر:
وفيهنّ ملهى للصديق ومنظر

والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها، وجواب لقوله: {لاتخذناه مِن لَّدُنَّا} أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم.
قال المفسرون أي من الحور العين، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وقيل: أراد الردّ على من قال: الأصنام أو الملائكة بنات الله.
وقال ابن قتيبة: الآية ردٌّ على النصارى.
{إِن كُنَّا فاعلين} قال الواحدي: قال المفسرون: ما كنا فاعلين.
قال الفراء والمبرد والزجاج: يجوز أن تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون، أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولدًا؛ ويجوز أن تكون للشرط، أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا.
قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية.
{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} هذا إضراب عن اتخاذ اللهو، أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره، وأصل الدمغ: شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة.
قال الزجاج: المعنى: نذهبه ذهاب الصغار والإذلال، وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب.
قيل أراد بالحق: الحجة، وبالباطل: شبههم.
وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي.
وقيل: الباطل: الشيطان.
وقيل: كذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: زائل ذاهب، وقيل: هالك تالف، والمعنى متقارب، وإذا هي الفجائية {وَلَكُمُ الويل مِمَا تَصِفُونَ} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه، وقيل: الويل: وادٍ في جهنم، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك؛ ومن: هي التعليلية.
{وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض} عبيدًا وملكًا، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم، فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكًا يعبد كما يعبد، وهذه الجملة مقررة لما قبلها {وَمَنْ عِندَهُ} يعني: الملائكة، وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفي التعبير عنهم بكونهم {عنده} إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم، وأنهم بمنزلة المقربين عند الملوك، ثم وصفهم بقوله: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلل له {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يعيون، مأخوذ من الحسير، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال: حسر البعير يحسر حسورًا: أعيا وكلّ، واستحسر وتحسر: مثله وحسرته أنا حسرًّا، يتعدى ولا يتعدى.
قال أبو زيد: لا يكلون، وقال ابن الإعرابي: لا يفشلون.
قال الزجاج: معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله، عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206].
وقيل: المعنى لا ينقطعون عن عبادته، وهذه المعاني متقاربة، {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} أي ينزهون الله سبحانه دائمًا لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون، وقيل: يصلون الليل والنهار.
قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك تسبيحهم دائم، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أو في محل نصب على الحال {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض} قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام: الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء، وأم: هي المنقطعة، والهمزة لإنكار الوقوع.
قال المبرد: إن أم هنا بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى، ولا تكون أم هنا بمعنى بل، لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدّر أم مع الاستفهام، فتكون أم المنقطعة، فيصح المعنى، و{من الأرض} متعلق باتخذوا، أو بمحذوف هو صفة لآلهة، ومعنى {هُمْ يُنشِرُونَ}: هم يبعثون الموتى، والجملة صفة لآلهة، وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع منهم لا محالة.
والمعنى: بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى، وليس الأمر كذلك، فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك.
قرأ الجمهور: {ينشرون} بضم الياء وكسر الشين من أنشره أي: أحياه، وقرأ الحسن بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون.
ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدّد الآلهة، فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} أي: لو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا، أي لبطلتا، يعني السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات، قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة: إن إلا هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها، ومنه قول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

وقال الفراء: إن إلا هنا بمعنى سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا، ووجه الفساد أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرًا على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد {فسبحان الله رَبّ العرش عَمَا يَصِفُونَ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان، أي تنزّه عزّ وجلّ عما لا يليق به من ثبوت الشريك له، وفيه إرشاد للعباد أن ينزّهوا الربّ سبحانه عما لا يليق به.
{لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوّة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره {وَهُمْ} أي: العباد {يُسْئَلُونَ} عما يفعلون أي: يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده.