فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.
اعلم أنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع، وهذه الدلائل أيضًا دالة على كونه منزهًا عن الشريك، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم، ووجود الإلهين يقتضي وقوع الفساد.
فهذه الدلائل تدل من هذه الجهة على التوحيد فتكون كالتوكيد لما تقدم.
وفيها أيضًا رد على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات الشريفة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع.
فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر هاهنا ستة أنواع من الدلائل:
النوع الأول: قوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ أَنَّ السموات والأرض كَانَتَا رَتْقًا ففتقناهما}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن كثير ألم ير بغير الواو والباقون بالواو وإدخال الواو يدل على العطف لهذا القول على أمر تقدمه.
قال صاحب الكشاف: قرئ رتقًا بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول كالخلق والنفض أي كانتا مرتوقتين، فإن قلت الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر فما بال الرتق؟ قلت: هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئًا رتقًا.
المسألة الثانية:
لقائل أن يقول: المراد من الرؤية في قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ}، إما الرؤية، وإما العلم والأول مشكل، أما أولًا فلأن القوم ما رأوهما كذلك ألبتة، وأما ثانيًا فلقوله سبحانه وتعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض} [الكهف: 51]، وأما العلم فمشكل لأن الأجسام، قابلة للفتق والرتق في أنفسها، فالحكم عليها بالرتق أولًا وبالفتق ثانيًا لا سبيل إليه إلا السمع، والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة، فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال.
والجواب: المراد من الرؤية هو العلم وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه: أحدها: أنا نثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله: ثم نجعله دليلًا على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد.
وثانيًا: أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل، يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصًا.
وثالثها: أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينها، وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.
المسألة الثالثة:
إنما قال: {كانتا رتقًا} ولم يقل كن رتقًا لأن السموات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس، قال الأخفش: السموات نوع والأرض نوع، ومثله:
{إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين، ومرت بنا غنمان أسودان، لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم.
المسألة الرابعة:
الرتق في اللغة السد، يقال: رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين.
قال الزجاج: الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق، قال المفضل: إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله: {وما جعلناهم جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8] لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق.
المسألة الخامسة:
اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال: أحدها: وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية، قال كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحًا توسطتهما ففتقهما بها.
وثانيها: وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتتقة فجعلت سبع سموات وكذلك الأرضون.
وثالثها: وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقًا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر، ونظيره قوله تعالى: {والسماء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11- 12] ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَىٍّ} وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا، قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق وبرمة أعشار.
واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار.
ورابعها: قول أبي مسلم الأصفهاني: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله: {فَاطِرَ السموات والأرض} [الشورى: 11] وكقوله: {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.
أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازًا عن العدم والفتق عن الوجود.
وخامسها: أن الليل سابق على النهار، لقوله تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وكانت السموات والأرض مظلمة أولًا ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر، فإن قيل: فأي الأقاويل أليق بالظاهر؟ قلنا: الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقًا، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان، والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة، وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحًا، ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني.
وهو أن كل واحد منهما كان رتقًا ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعًا، ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج، ففتقهما لينزل المطر من السماء، ويظهر النبات على الأرض.
المسألة السادسة:
دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة، لأن أحدًا لا يقدر على مثل ذلك، والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقًا لما فيه من المصلحة للملائكة، ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقًا لما فيه من منافع العباد.
النوع الثاني من الدلائل: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف قوله: وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَاء} [النور: 45] أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لابد له منه، ومن هذا نحو من في قوله عليه السلام: «ما أنا من دد ولا الدد مني» وقرئ حيًا وهو المفعول الثاني.
المسألة الثانية:
لقائل أن يقول كيف قال: وخلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِى} [المائدة: 110] وقال في حق آدم: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] والجواب: اللفظ وإن كان عامًا إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لابد وأن يكون مشاهدًا محسوسًا ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئًا من ذلك.
المسألة الثالثة:
اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله: {كُلَّ شيء حَىّ} الحيوان فقط، وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار ناميًا وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر، وهذا القول أليق بالمعنى المقصود، كأنه تعالى قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيًا، حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حيًا، قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله تعالى: {كَيْفَ يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] أما قوله تعالى: {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} فالمراد أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ويتركوا طريقة الشرك.
النوع الثالث: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا في الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أن تميد بهم كراهة أن تميد بهم أو لئلا تميد بهم فحذف لا واللام الأولى وإنما جاز حذف لا لعدم الالتباس كما ترى ذلك في قوله: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}.
المسألة الثانية:
الرواسي الجبال، والراسي هو الداخل في الأرض.
المسألة الثالثة:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفىء بأهلها كما تنكفىء السفينة، لأنها بسطت على الماء فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال.
النوع الرابع: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: الفج الطريق الواسع، فإن قلت في الفجاج معنى الوصف فمالها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى: {لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} قلت لم تقدم وهي صفة، ولَكِنها جعلت حالًا كقوله:
لعزة موحشًا طلل قديم

والفرق من جهة المعنى أن قوله سبلًا فجاجًا، إعلام بأنه سبحانه جعل فيها طرقًا واسعة، وأما قوله: {فِجَاجًا سُبُلًا} فهو إعلام بأنه سبحانه حين خلقها جعلها على تلك الصفة، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.
المسألة الثانية:
في قوله: {فِيهَا} قولان: أحدهما أنها عائدة إلى الجبال، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجًا سبلًا، أي طرقًا واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرقها فجاجًا وجعل فيها طرقًا.
الثاني: أنها عائدة إلى الأرض، أي وجعلنا في الأرض فجاجًا وهي المسالك والطرق وهو قول الكلبي.
المسألة الثالثة:
قوله: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} معناه لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.
المسألة الرابعة:
في يهتدون قولان: الأول: ليهتدوا إلى البلاد.
والثاني: ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال، قالت المعتزلة وهذا التأويل يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء.
والكلام عليه قد تقدم، وفيه قول ثالث وهو أن الإهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في مفهوم واحد وهو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ تكون الآية متناولة للأمرين ولا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملًا في مفهوميه معًا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز جل: {أَنَّ السَّموَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففتق الله بينهما بالهواء، قاله ابن عباس.
الثاني: أن السموات كانت مرتتقة مطبقة ففتقها الله سبع سموات وكانت الأرض كذلك ففتقها سبع أرضين، قاله مجاهد.
الثالث: أن السموات كانت رتقًا لا تمطر، والأرض كانت رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات، قاله عكرمة، وعطية، وابن زيد.
والرتق سدُّ، والفتق شق، وهما ضدان، قال عبد الرحمن بن حسان:
يهون عليهم إذا يغضبو ** ن سخط العداة وإرغامُها

ورتق الفتوق وفتق الرتو ** ق ونقض الأمور وإبرامها

{وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن خلق كل شيء من الماء، قاله قتادة.
الثاني: حفظ حياة كل شيء حي بالماء، قاله قتادة.
الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي، قاله قطرب.
{أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} يعني أفلا يصدقون بما يشاهدون.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} والرواسي الجبال، وفي تسميتها بذلك وجهان:
أحدهما: لأنها رست في الأرض وثبتت، قال الشاعر:
رسا أصله تحت الثرى وسما به ** إلى النجم فرعٌ لا يزال طويل

الثاني: لأن الأرض بها رست وثبتت. وفي الرواسي من الجبال قولان:
أحدهما: أنها الثوابت: قاله قطرب.
الثاني: أنها الثقال قاله الكلبي.
{أَن تَمِيدَ بِهِم} فيه وجهان:
أحدهما: لئلا تزول بهم.
الثاني: لئلا تضطرب بهم. الميد الاضطراب.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} في الفجاج وجهان: أحدهما: أنها الأعلام التي يهتدى بها.
الثاني: الفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع بين جبلين. قال الكميت:
تضيق بنا النجاح وهنّ فج ** ونجهل ماءها السلم الدفينا

{لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: سبل الاعتبار ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم.
الثاني: مسالك ليهتدوا بها إلى طرق بلادهم. اهـ.