فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}.
المعنى من يقل منهم كذا أن لو قاله وليس منهم من قال هذا، وقال بعض المفسرين المراد بقوله: {ومن يقل} الاية، إبليس.
قال القاضي أبو محمد: هذا ضعيف لأن إبليس لم يرو قط أنه ادعى ربوبية، وقرأ الجمهور: {نَجزيه} بفتح النون، وقرأ أبو عبدالرحمن عبدالله بن يزيد {نُجزيه} بضم النون والهاء ووجهها أن المعنى نجعلها تكتفي به من قولك أجزاني الشيء ثم خففت الهمزة ياء. وقوله تعالى: {كذلك} أي كجزائنا هذا القائل جزاؤنا الظالمين، ثم وقفهم على عبرة دالة على وحدانية الله جلت قدرته، والرتق الملتصق بعضه ببعض المبهم الذي لا صدع ولا فتح ومنه امرأة رتقاء، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {كانتا رتقًا ففتقناهما} فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله تعالى سبعًا سبعًا، وعلى هذين القولين فـ: الرؤية الموقف عليها رؤية القلب، وقال فرقة السماء قبل المطر رتق والأرض قبل النبات رتق ففتقهما تعالى بالمطر والنبات، كما قال الله تعالى: {والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع} [الطارق: 11- 12] وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار، وقالت فرقة السماء والأرض رتق بالظلمة وفتقهما الله تعالى بالضوء ع {وجعلنا من الماء كل شيء حي} بين أنه ليس على عموم فإن الملائكة والجن قد خرجوا عن ذلك، ولَكِن الوجه أن يحمل على أعم ما يمكن فالحيوان أجمع والنبات على أن الحياة فيه مستعارة داخل في هذا، وقالت فرقة المراد بـ: {الماء} المني في جميع الحيوان، ثم وقفهم على ترك الإيمان توبيخًا وتقريعًا.
{وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ}.
{الرواسي} جمع راسية أي ثابتة يقال رسا يرسو إذا ثبت واستقر ولا يستعمل إلا في الأجرام الكبار كالجبال والسفينة ونحوه، ويروى أن الأرض كانت تكفأ بأهلها حتى ثقلها الله تعالى بالجبال فاستقرت، والميد التحرك، والفجاج الطرق المتسعة في الجبال وغيرها، و{سبلًا} جمع سبيل، والضمير في قوله تعالى: {فيها} يحتمل أن يعود على الرواسي ويحتمل أن يعود على {الأرض} وهو أحسن، و{يهتدون} معناه في مسالكهم وتصرفهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{ومَنْ يَقُل منهم} أي: من الملائكة.
قال الضحاك في آخرين: هذه خاصة لإِبليس، لم يَدْعُ أحد من الملائكة إِلى عبادة نفسه سواه قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا قول من قال إِنه من الملائكة، فإن إِبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إِلى الأرض، ومن قال: إِنه ليس من الملائكة، قال: هذا على وجه التهديد، وما قال أحد من الملائكة ذلك.
قوله تعالى: {أولم ير الذين كفروا} أي: أولم يعلموا.
وقرأ ابن كثير: ألم ير الذين كفروا بغير واو بين الألف واللام، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة، {أنَّ السموات والأرض كانتا رَتْقًا ففتقناهما} قال أبو عبيدة: السموات جمع، والأرض واحدة، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد والعرب تفعل هذا إِذا أشركوا بين جمع وبين واحد؛ والرَّتْق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء، ومعنى الرَّتْق: الذي ليس فيه ثقب.
قال الزجاج: المعنى: كانتا ذواتَي رَتْق، فجعلهما ذوات فتق، وإِنما لم يقل: رَتْقَيْنِ لأن الرَّتق مصدر.
وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال:
أحدها: أن السموات كانت رَتْقًا لا تُمْطِر، وكانت الأرض رَتْقًا لا تُنْبِت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات.
رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد في رواية، والضحاك في آخرين.
والثاني: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين، ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة.
والثالث: أنَّه فَتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعًا، ومن السماء ست سموات فصارت سبعًا، رواه السدي عن أشياخه، وابن أبي نجيح عن مجاهد.
قوله تعالى: {وجَعَلْنَا من الماء كلَّ شيء حيٍّ} وقرأ معاذ القارئ، وابن أبي عبلة، وحميد بن قيس: {كلَّ شيء حيًّا} بالنصب.
وفي هذا الماء قولان:
أحدهما: أنه الماء المعروف، والمعنى: جعلنا الماء سببًا لحياة كل حيٍّ، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه النُّطفة، قاله أبو العالية.
قوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي} قد فسرناه في [النحل 15].
قوله تعالى: {وجعلنا فيها} أي: في الرواسي {فِجَاجًا}، قال أبو عبيدة: هي المسالك.
قال الزجاج: الفِجَاج جمع فَجّ، وهو كل منخَرق بين جبلين، ومعنى {سُبُلًا} طرقًا.
قال ابن عباس: جعلنا من الجبال طُرُقًا كي تهتدوا إِلى مقاصدكم في الأسفار.
قال المفسرون: وقوله: {سبلًا} تفسير للفِجَاج، وبيان أن تلك الفِجَاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفَجُّ غير نافذ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ}.
قال قتادة والضحاك وغيرهما: عنى بهذه الآية إبليس حيث ادعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره.
وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل: {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}.
وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبَّدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال.
وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء.
وقد تقدم في سورة البقرة.
{كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا} قراءة العامة {أَوَلَمْ} بالواو.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {أَلَمْ يَرَ} بغير واو، وكذلك هو في مصحف مكة.
{أَوَلَمْ يَرَ} بمعنى يعلم.
{الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا} قال الأخفش: {كانتا} لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما لِقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} قال أبو إسحاق: {كانتا} لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء؛ ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون.
وقال: {رتقًا} ولم يقل رتقين؛ لأنه مصدر؛ والمعنى كانتا ذواتي رتق.
وقرأ الحسن {رَتَقًا} بفتح التاء.
قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة.
والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج.
قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئًا واحدًا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء.
وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحًا بوسطها ففتحها بها، وجعل السموات سبعًا والأرضين سبعًا.
وقول ثان قاله مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعًا.
وحكاه القتبي في عيون الأخبار له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين؛ خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والإنس، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، عرضها مسيرة خمسمائة عام؛ ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقوامًا، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس؛ وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج وماجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض.
الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضًا فتسلط على بني آدم.
ثم خلق الله الخامسة مثلها في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار.
ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سُود بُهْم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قوله عز وجل: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عريبة وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين واسم الآخر الفلق، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الفلق فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة.
وقد مضى في البقرة أنها سبع أرضين بين كل أرضَين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر الطلاق زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وقول ثالث قاله عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضًا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقًا لا تمطر، والأرض كانت رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله عز وجل: {والسماء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11 12].
واختار هذا القول الطبري؛ لأن بعده {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}.
قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة؛ ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية؛ ليدل على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء.
وقيل:
يَهُونُ عليهم إذا يَغضبونَ ** سخطُ العداة وإرغامُها

ورَتْق الفُتوق وفَتْق الرُّتوق ** ونَقْضُ الأمورِ وإبرامُها

وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء؛ قاله قتادة.
الثاني؛ حفظ حياة كل شيء بالماء.
الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حيّ؛ قاله قطرب.
{وجعلنا} بمعنى خلقنا.
وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له من حديث أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله! إذا رأيتك طابت نفسي، وقرّت عيني؛ أنبئني عن كل شيء؛ قال: «كل شيء خلق من الماء» الحديث؛ قال أبو حاتم قول أبي هريرة: «أنبئني عن كل شيء» أراد به عن كل شيء خلق من الماء، والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: «كل شيء خلق من الماء» وإن لم يكن مخلوقًا.
وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والأرض رتقًا.
وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 27] وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} والصحيح العموم؛ لقوله عليه السلام: «كل شيء خلق من الماء» والله أعلم.
{أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكوّن كوّنه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكوّن محدثًا.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} أي جبالًا ثوابت.
{أَن تَمِيدَ بِهِمْ} أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها؛ قاله الكوفيون.
وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد.
والميد التحرك والدوران.
يقال: ماد رأسه؛ أي دار.
وقد مضى في النحل مستوفى.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا} يعني في الرواسي؛ عن ابن عباس.
والفجاج المسالك.
والفجُّ الطريق الواسع بين الجبلين.
وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجًا أي مسالك؛ وهو اختيار الطبري؛ لقوله: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي يهتدون إلى السير في الأرض.
{سُبُلًا} تفسير الفجاج؛ لأن الفج قد يكون طريقًا نافذًا مسلوكًا وقد لا يكون.
وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم. اهـ.