فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (36- 40):

قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هذا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر سبحانه عن إعراضهم عن الساعة تكذيبًا، واستدل على كونها منزهة عن الغيب في خلق هذا العالم وتعالى عن جميع صفات النقص واتصافه بأوصاف الكمال إلى أن ختم ذلك بمثل ما ابتدأ به على وجه أصرح، وكان فيه تنبيههم على الابتلاء وكان الابتلاء على قدر النعم، فكان صلى الله عليه وسلم أعظم شيء ابتلوا به لأنه لا نعمة أعظم من النعمة به، ولا شيء أظهر من آياته عطف على قوله: {وأسروا النجوى} قوله: {وإذا رءاك} أي وأنت أشرف الخلق وكلك جد وجلال وعظمة وكمال {الذين كفروا} فأظهر منبهًا على أن ظلمهم الذي أوجب لهم ذلك هو الكفر وإن كان في أدنى رتبة، تبشيعًا له وتنبيهًا على أنه يطمس الفكر مطلقًا.
ولما كان من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عن الهزء، قال منبهًا على أنهم أعرقوا في الكفر حتى بلغوا الذروة: {إن} أي ما {يتخذونك} أي حال الرؤية، وسيعلم من يبقى منهم عما قليل أنك جد كلك {إلا هزوًا} أي جعلوك بحمل أنفسهم على ضد ما يعتقد عين ما ليس فيك شيء منه؛ ثم بين استزاءهم به بأنهم يقولون إنكارًا واستصغارًا: {أهذ الذي يذكر} أي بالسوء {ءالهتكم} قال أبو حيان: والذكر يكون بالخير والشر، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه- انتهى.
فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه {وهم} أي والحال أنهم على حال كانوا بها أصلًا في الهزء، وهي أنهم {بذكر الرحمن} الذي لا نعمة عليهم ولا على غيرهم إلا منه، وكرر الضمير تعظيمًا بما أتوا به من القباحة فقال: {هم} أي بظواهرهم وبواطنهم {كافرون} أي ساترون لمعرفتهم به، فلا أعجب ممن هو محل للهزء لكونه أنكر ذكر من لا نعمة منه ولا نقمة أصلًا بالسوء، وهو يذكر من كل نعمة منه بالسوء ويهزأ به.
ولما كان من آيات الأولين التي طلبوها العذاب بأنواع الهول، وكانوا هم أيضًا قد طلبوا ذلك واستعجلوا به {عجل لنا قطنا} [ص: 26] ونحو ذلك، وكان الذي جرأهم على هذا حلم الله عنهم بإمهاله لهم، قال معللًا لذلك: {خلق} وبناه للمفعول لأن المقصود بيان ما جبل عليه والخالق معروف {الإنسان} أي هذا النوع.
ولما كان مطبوعًا على العجلة قال: {من عجل} فلذا يكفر، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى؛ ثم قال تعالى مهددًا للمكذبين: {سأوريكم} حقًّا {ءاياتي} القاصمة والعاصمة، بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عندكم من أتباعه المستضعفين وخلافتهم بين أيديكم وجعلهم شجًا في حلوقكم حتى يتلاشى ما أنتم عليه وغيره ذلك من العظائم {فلا تستعجلون} أي تطلبوا أن أوجد العجلة بالعذاب أو غيره، فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم.
ولما ذم العجلة وهي إرادة الشيء قبل أوانه، ونهى عنها، قال دالًا عليها عاطفًا على عامل {هذا}: {ويقولون} أي في استهزائهم بأولياء الله: {متى هذا} وتهكموا بقولهم: {الوعد} أي بإتيان الآيات من الساعة ومقدماتها وغيرها، وزادوا في الإلهاب والتهييج تكذيبًا فقالوا: {إن كنتم صادقين} أي عريقين في هذا الوصف جدًّا- بما دل عليه الوصف وفعل الكون.
ولما غلوا في الاستهزاء فكانوا أجهل الجهلة باستحالة الممكن، استأنف الجواب عن كلامهم بنفي العلم عنهم في الحال والمآل دون المعاينة على طريق التهكم والاستهزاء بهم: {لو يعلم الذين كفروا} وذكر المفعول به فقال: {حين} أي لو تجدد لهم علم ما بالوقت الذي يستعجلون به؛ وذكر ما أضيف إليه ذلك الوقت فقال: {لا يكفون} أي فيه بأنفسهم {عن وجوههم} التي هي أشرف أعضائهم {النار} استسلامًا وضعفًا وعجزًا {ولا عن ظهورهم} التي هي أشد أجسادهم، فعرف من هذا أنها قد أحاطت بهم وأنهم لا يكفون عن غير هذين من باب الأولى {ولا هم ينصرون} أي ولا يتجدد لهم نصر ظاهرًا ولا باطنًا بأنفسهم ولا بغيرهم، لم يقولوا شيئًا من ذلك الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولَكِنهم لا يعلمون ذلك بنوع من أنواع العلم إلا عند الوقوع لأنه لا أمارة لها قاطعة بتعيين وقتها ولا تأتي بالتدريج كغيرها، وهذا معنى {بل تأتيهم} أي الساعة التي هي ظرف لجميع تلك الأحوال وهي معلومة لكل أحد فهي مستحضرة في كل ذهن {بغتة فتبهتهم} أي تدعهم باهتين حائرين؛ ثم سبب عن بهتهم قوله: {فلا يستطيعون ردها} أي لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم عنه {ولا هم ينظرون} أي يمهلون من ممهل ما ليتداركوا ما أعد لهم فيها، فيا شدة أسفهم على التفريط في الأوقات التي أمهلوا فيها في هذه الدار، وصرفهم إياها في لذات أكثرها أكدار. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزؤًا}.
قال السدي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو سفيان مع أبي جهل، فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبيًّا في بني عبد مناف.
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل: «ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان: فإنما قلت ما قلت حمية» فنزلت هذه الآية، ثم فسر الله تعالى ذلك بقوله: {أهذا الذي يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ} والذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل سمعت فلانًا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقًا فهو ثناء، وإن كان عدوًا فهو ذم، ومنه قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} [الأنبياء: 60] والمعنى أنه يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها.
وأما قوله تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون} فالمعنى أنه يعيبون عليه ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع {أَنَّهُمْ بِذِكْرِ الرحمن} الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت {كافرون} ولا فعل أقبح من ذلك، فيكون الهزؤ واللعب والذم عليهم يعود من حيث لا يشعرون، ويحتمل أن يراد {بِذِكْرِ الرحمن} القرآن والكتب، والمعنى في أعادة هم أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل، والثانية إبانة لاختصاصهم به، وأيضًا فإن في أعادتها تأكيدًا وتعظيمًا لفعلهم.
أما قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في المراد من الإنسان قولان: أحدهما: أنه النوع، والثاني: أنه شخص معين.
أما القول الأول فتقريره أنهم كانوا يستعجلون عذاب الله تعالى وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} [الملك: 25] فأراد زجرهم عن ذلك، فقدم أولًا ذم الإنسان على إفراط العجلة ثم نهاهم وزجرهم كأنه قال: لا يبعد منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم، فإن قيل: مقدمة الكلام لابد وأن تكون مناسبة للكلام، وكون الإنسان مخلوقًا من العجل يناسب كونه معذورًا فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} قلنا: لأن العائق كلما كان أشد، كانت القدرة عليه مخالفته أكمل، فكأنه سبحانه نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة شريفة عالية مرغوب فيها.
أما القول الثاني: وهو أن المراد شخص معين فهذا فيه وجهان: أحدهما: أن المراد آدم عليه السلام، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك، وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: خلق الله آدم عليه السلام بعد كل شيء من آخر نهار الجمعة، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل خلقي قبل غروب الشمس، قال ليث: فذلك قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} وعن السدي لما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقال ذلك: فقال الله له: يرحمك ربك.
فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه إلى ثمار الجنة. وهذا هو الذي أورث أولاده العجلة.
وثانيهما: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث والمراد بالإنسان هو، واعلم أن القول الأول أولى لأن الغرض ذم القوم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع.
المسألة الثانية:
من المفسرين من أجرى هذه الآية على ظاهرها ومنهم من قلبها، أما الأولون فلهم فيها أقوال: أحدها: قول المحققين وهو أن قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي خلق عجولًا، وذلك على المبالغة كما قيل للرجل الذكي: هو نار تشتعل، والعرب قد تسمي المرء بما يكثر منه فتقول: ما أنت إلا أكل ونوم، وما هو إلا إقبال وإدبار، قال الشاعر:
أما إذا ذكرت حتى إذا غفلت ** فإنما هي إقبال وإدبار

وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} [الإسراء: 11] قال المبرد: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي من شأنه العجلة كقوله: {خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} [الروم: 54] أي ضعفاء.
وثانيها: قال أبو عبيد: العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا:
والنخل يثبت بين الماء والعجل

وثالثها: قال الأخفش: من عجل أي من تعجيل من الأمر وهو قوله كن.
ورابعها: من عجل، أي من ضعف عن الحسن.
أما الذين قلبوها فقالوا المعنى: خلق العجل من الإنسان، كقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} [الأحقاف: 20] أي تعرض النار عليهم والقول الأول أقرب إلى الصواب وأبعد الأقوال هذا القلب لأنه إذا أمكن حمل الكلام على معنى صحيح وهو على ترتيبه فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب، وأيضًا فإن قوله: خلقت العجلة من الإنسان فيه وجوه من المجاز.
فما الفائدة في تغيير النظم إلى ما يجري مجراه في المجاز.
المسألة الثالثة:
لقائل أن يقول: القوم استعجلوا الوعد على وجه التكذيب ومن هذا حاله لا يكون مستعجلًا على الحقيقة.
قلنا: استعجالهم على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه إذا ذم المرء استعجال الأمر المعلوم فبأن يذم على استعجال ما لا يكون معلوما له كان أولى، وأيضًا فإن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين في الحقيقة.
أما قوله تعالى: {سأريكم ءاياتى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} فقد اختلفوا في المراد بالآيات على أقوال: أحدها: أنها هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها.
وثانيها: أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول.
وثالثها: أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن والأول أقرب إلى النظم.
أما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهين: الأول: بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} قال صاحب الكشاف: جواب لو محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم: {متى هذا الوعد} وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدام ومن خلف فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون أيضًا ناصرًا ينصرهم لقوله تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا} [غافر: 29] لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولَكِن جهلهم به هو الذي هونه عليهم وإنما حسن حذف الجواب لأن ما تقدم يدل عليه.
وهذا أبلغ ومثله: {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 165]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 50]، {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] وإنما خص الوجوه والظهور لأن مس العذاب لهما أعظم موقعًا ولكثرة ما يستعمل ذكرهما في دفع المضرة عن النفس ثم إنه تعالى لما بين شدة هذا العذاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم بل تأتيهم الساعة بغتة وهم لها غير محتسبين ولا لأمرها مستعدين فتبهتهم أي تدعهم حائرين واقفين لا يستطيعون حيلة في ردها ولا عما يأتيهم منها مصرفًا ولا هم ينظرون أي لا يمهلون لتوبة ولا معذرة، واعلم أن الله تعالى إنما لم يعلم المكلفين وقت الموت والقيامة لما فيه من المصلحة لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذرًا وأقرب إلى التلافي. اهـ.