فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ}.
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له.
يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزىء برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا.
ثم وعده النصر فقال: {فَحَاقَ} أي أحاط ودار {بالذين} كفروا و{سَخِرُواْ مِنْهُمْ} وهزءوا بهم {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي جزاء استهزائهم.
قوله تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} أي يحرسكم ويحفظكم.
والكلاَءة الحراسة والحفظ؛ كلاه الله كِلاَء بالكسر أي حفظه وحرسه.
يقال: اذهب في كِلاءة الله؛ واكتلأت منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هَرْمة:
إنّ سليمى واللَّهُ يَكلأُهَا ** ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَأُها

وقال آخر:
أَنَخْتُ بَعيرِي وَاكْتَلأْتُ بعَيْنِهِ

وحكى الكسائي والفراء {قُلْ مَنْ يَكْلَوْكُمْ} بفتح اللام وإسكان الواو.
وحكيا {مَنْ يَكْلاَكُمْ} على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة.
فأما {يَكْلاَكُمْ} فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة إنما يكون في الشعر.
والثاني: أنهما يقولان في الماضي كَلَيْتُه، فينقلب المعنى؛ لأن كَلَيته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كَلاَك الله فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بالوجع في كُلْيته.
ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي.
وتقديره: قل لا حافظ لكم {بالليل} إذا نمتم {و} بـ: {بِالنَّهَارِ} إذا قمتم وتصرفتم في أموركم.
{مِنَ الرحمن} أي من عذابه وبأسه؛ كقوله تعالى: {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} [هود: 63] أي من عذاب الله.
والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع؛ أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه.
{بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ} أي عن القرآن.
وقيل: عن مواعظ ربهم.
وقيل: عن معرفته.
{مُّعْرِضُونَ} لاهون غافلون.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} المعنى: ألهم والميم صلة.
{تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} أي من عذابنا.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ} يعني الذين زعم هؤلاء الكفار أنهم ينصرونهم لا يستطيعون {نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} فكيف ينصرون عابديهم.
{وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} قال ابن عباس: يُمنَعون.
وعنه: يُجَارون؛ وهو اختيار الطبري.
تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان؛ أي مجير منه؛ قال الشاعر:
يُنادِي بأعلى صوتِه متعوِّذًا ** ليُصحَبَ منها والرِّماحُ دَوَانِي

وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {يُنْصَرُونَ} أي يحفظون.
قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبًا لهم.
قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَاءَهُمْ} قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها و{طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} في النعمة فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبير حجج الله عز وجل.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضًا بعد أرض، وفتحها بلدًا بعد بلدٍ مما حول مكة؛ قال معناه الحسن وغيره.
وقيل: بالقتل والسبي؛ حكاه الكلبي.
والمعنى واحد.
وقد مضى في الرعد الكلام في هذا مستوفى.
{أَفَهُمُ الغالبون} يعني كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما تقدم قوله: {إن يتخذونك إلاّ هزوًا} سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جنوها هلاكًا وعقابًا في الدنيا والآخرة، فكذلك حال هؤلاء المستهزئين.
وتقدم تفسير مثل هذه الآية في الأنعام.
ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من بأس الله أي لا أحد يحفظكم منه، وهو استفهام تقريع وتوبيخ.
وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه ليس لهم مانع ولا كالىء، وعلى هذا النفي تركيب بل في قوله: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون} قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: بل هم معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم فضلًا أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالىء وصلحوا للسؤال عنه، والمراد أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالىء ثم بيّن أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم انتهى.
وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة: يكلُوكم بضمة خفيفة من غير همز، وحكى الكسائي والفراء يكلَوكم بفتح اللام وإسكان الواو.
{أم لهم آلهة} بمعنى بل، والهمزة كأنه قيل بل ألهم آلهة فأضرب ثم استفهم {تمنعهم} من العذاب.
وقال الحوفي {من دوننا} متعلق بـ تمنعهم انتهى.
قيل: والمعنى ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز من أن ينالهم مكروه من جهتنا.
وقال ابن عباس: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم تقول: منعت دونه كففت أذاه فمن دوننا هو من صلة {آلهة} أي أم لهم آلهة دوننا أو من صلة {تمنعهم} أي {أم لهم} مانع من سوانا.
ثم استأنف الإخبار عن آلهتهم فبيَّن أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره؟ وقال ابن عباس {يصحبون} يمنعون.
وقال مجاهد: ينصرون.
وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير.
وقال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذًا ** ليصحب منا والرماح دوان

وقال مجاهد: يحفظون.
وقال السدّي: لا يصحبهم من الملائكة من يدفع عنهم، والظاهر عود الضمير في {ولا هم} على الأصنام وهو قول قتادة.
وقيل: على الكفار وهو قول ابن عباس، وفي التحرير مدار هذه الكلمة يعني {يصحبون} على معنيين أحدهما أنه من صحب يصحب، والثاني من الإصحاب أصحب الرجل منعه من الآفات.
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}.
{هؤلاء} إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع {هؤلاء} الكفار {وآباءهم} من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه {أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون} تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد.
واقتصر الزمخشري من تلك الأقوال على معنى أنّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال: فإن قلت: أي فائدة في قوله: {نأتي الأرض}؟ قلت: الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها انتهى.
وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم: {أفهم الغالبون} دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ}.
تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به عليه السلام في ضمن الاستعجال وعِدةٌ ضمنيةٌ بأنه يصيبهم مثلُ ما أصاب المستهزئين بالرسل السالفةِ عليهم الصلاة والسلام، وتصديرُها بالقسم لزيادة تحقيقِ مضمونها، وتنوينُ الرسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقةٌ بمحذوف هو صفة له، أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطير وذوي عددٍ كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامه.
{فَحَاقَ} أي أحاط عَقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر، والحيقُ ما يشتمل على الإنسان من مكروهٍ فَعَله، وقوله تعالى: {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بـ حاق وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى: {مَا كَانُوا بِهِ} للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم، وما إما موصولة مفيدةٌ للتهويل والضمير المجرورُ عائدٌ إليها والجار متعلق بـ الفعل وتقديمُه عليه لرعاية الفواصلِ، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤن به حيث أهلكوا لأجله، وإما مصدريةٌ فالضمير المجرور راجعٌ حينئذ إلى جنس الرسول المدلولِ عليه بالجمع كما قالوا، ولعل إيثارَه على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاءُ استهزائهم بكل واحدٍ واحدٌ منهم عليهم السلام لا جزاءُ استهزائهم بكلهم من حيث هو كلٌّ فقط، أي فنزل بهم جزاءُ استهزائهم على وضع السبب موضعَ المسبب إيذانًا بكمال الملابسةِ بينهما أو عينُ استهزائهم إن أريد بذلك العذابُ الأخرويُّ بناء على تجسيم الأعمال الظاهرةِ في هذه النشأة بصور عرضية تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبةٍ لها في الحسن والقبح وعلى ذلك بني الوزن، وقد مر تفصيلُه في سورة الأعراف في قوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} الآية إلى آخرها.
{قُلْ} خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليته بما ذكر من مصير أمرِهم إلى الهلاك وأمرٌ له عليه السلام بأن يقول لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتبكيت: {مَن يَكْلَؤُكُم} أي يحفظكم {باليل والنهار مِنَ الرحمن} أي من بأسه الذي تستحقون نزولَه ليلًا أو نهارًا، وتقديمُ الليل لما أن الدواهيَ أكثرُ فيه وقوعًا وأشدُّ وقعًا، وفي التعرض لعنوان الرحمانيةِ إيذانٌ بأن كالِئَهم ليس إلا رحمتُه العامةُ، وبعد ما أُمر عليه السلام بما ذكر من السؤال على الوجه المذكور حسبما تقتضيه حالُهم لأنهم بحيث لولا أن الله تعالى يحفظهم في المَلَوَيْن لحل بهم فنون الآفاتِ، فهم أحقّاءُ بأن يكلفوا الاعترافَ بذلك فيوبخوا على ما هم عليه من الإشراك، أُضرب عن ذلك بقوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} ببيان أن لهم حالًا أخرى مقتضيةً لصرف الخطابِ عنهم هي أنهم لا يُخطِرون ذكرَه تعالى ببالهم، فضلًا أن يخافوا بأسَه ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعَةِ حفظًا وكَلاءةً حتى يسألوا عن الكالِىءِ على طريقة قول من قال:
عُوجوا فحيُّوا لنعمى دِمنةَ الدار ** ماذا تُحيُّون من نُؤْيٍ وأحجارِ

وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيرادِ اسمِ الرب المضافِ إلى ضميرهم المنبىء عن كونهم تحت ملكوتِه وتدبيره وتربيتِه تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصيةِ من الضلالة والغيّ ما لا يخفى، وكلمةُ أم في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا} منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقالِ عما قبله من بيان أن جهلَهم بحفظه تعالى إياهم لعدم خوفِهم الناشىءِ عن إعراضهم عن ذكر ربهم بالكلية إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظَ إليها، والهمزةُ لإنكار أن يكون لهم آلهةٌ تقدر على ذلك والمعنى بل ألهم آلهةٌ تمنعهم من العذاب تتجاوز منْعنا أو حفظَنا، أو من عذاب كائنٍ من عندنا فهم معوّلون عليها واثقون بحفظها، وفي توجيه الإنكارِ والنفي إلى وجود الآلهةِ الموصوفة بما ذكر من المنع لا إلى نفس الصفةِ بأن يقال: أم تمنعهم آلهتُهم الخ، من الدِلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلًا عن رتبة المنع ما لا يخفى، وقوله عز وعلا: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} استئنافٌ مقرّر لما قبله من الإنكار وموضِّحٌ لبُطلان اعتقادِهم أي هم لا يستطيعون أن ينصُروا أنفسهم ولا يُصحَبون بالنصر من جهتنا، فكيف يتوهم أن ينصُروا غيرهم؟ وقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} إضرابٌ عما توهموا ببيان أن الداعيَ إلى حفظهم تمتيعُنا إياهم بما قدّر لهم من الأعمار أو عن الدِلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارُهم فحسِبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه، ولذلك عقّب بما يدل على أنه طمعٌ فارغٌ وأمل كاذبٌ حيث قيل: {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أي ألا ينظرون فلا يرَون {أَنَّا نَأْتِى الأرض} أي أرضَ الكفرة {نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا، وهو تمثيلٌ وتصويرٌ لما يُخْرِبه الله عز وجل من ديارهم على أيدي المسلمين ويُضيفها إلى دار الإسلام {أَفَهُمُ الغالبون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والفاء لإنكار ترتيب الغالبيةِ على ما ذكر من نفس أرضِ الكفرةِ بتسليط المسلمين عليها، كأنه قيل: أبعد ظهورِ ما ذكر ورؤيتِهم له يتوهم غلَبتُهم؟ كما مر في قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} وقوله تعالى: {قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} وفي التعريف تعريضٌ بأن المسلمين هم المتعيِّنون للغلَبة المعروفون بها. اهـ.