فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}.
في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن إخوانه من الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم استهزأ بهم الكفار، كما استهزءوا به صلى الله عليه وسلم. يعني: فاصبر كما صبروا، ولك العاقبة الحميدة، والنصر النهائي كما كان لهم. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من ذلك جاء موضحًا في مواضع من كتاب الله. كقوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43]، وقوله تعالى: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] الآية، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} [الأنعام: 34]، وقوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر: 25- 26]، وقوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [فاطر: 4] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَحَاقَ بالذين} أي أحاط بهم. ومادة حاق يائية العين. بدليل قوله في المضارع: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ولا تستعمل هذه المادة إلا في إحاطة المكروه خاصة.
فلا تقول: حاق به الخير بمعنى أحاط به. والأظهر في معنى الآية: أن المراد: وحاق بهم العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ويستهزؤون به، وعلى هذا اقتصر ابن كثير. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: {فَحَاقَ} أي أحاط ودار {بالذين} كفروا و{سَخِرُواْ مِنْهُمْ} وهزءوا بهم {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي جزاء استهزائهم. والأول أظهر، والعلم عند الله تعالى. والآية تدل على أن السخرية من الاستهزاء وهو معروف.
قوله تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن}.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم: {مَن يَكْلَؤُكُم} أي من هو الذي يحفظكم ويحرسكم {بالليل} في حال نومكم {والنهار} في حال تصرفكم في أموركم. والكِلاءة بالكسر: الحفظ والحِراسة. يقال: اذهب في كِلاءة الله. أي في حفظه، واكتلأت منهم: احترست. ومنه قول ابن هرمة:
إنَّ سُلَيمى والله يكلؤها ** ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤُها

وقول كعب بن زهير:
أَنَخْت بَعيري واكْتَلأَت بِعَيْنِهِ ** وآمرت نفسي أي أمري أفعلُ

و من في قوله: {مِنَ الرحمن} فيها للعلماء وجهان معروفان: أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير: أن من هي التي بمعنى بدل. وعليه فقوله: {مِنَ الرحمن} أي بدل الرحمن، يعني غيره. وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز:
جارية لم تلبس المرققا ** ولم تذق من البقول الفستقا

أي لم تذق بدل البقول الفستق. وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] أي بدلها ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر.
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ** ظلما ويكتب للأمير أفيلا

يعني أخذوا في الزكاة المخاض بدل الفصيل. والوجه الثاني أن المعنى {مَن يَكْلَؤُكُم} قال أبو حيان في البحر: هو استفهام تقريع وتوبيخ. وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير. فوجه كونه إنكاريًا أن المعنى: لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله البتَّة إلاَّ الله تعالى. أي فكيف تعبدون غيره. ووجه كونه تقريريًّا أنهم إذا قيل لهم: من يكلؤكم؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله. لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب، ولا يدعون معه غيره، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة الإسراء وغيرها. فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم باللَّيل والنهار إلى ما لا ينفع ولا يضر. وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد يمنع أحدًا من عذاب الله، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده جاء مبينًا في مواضع أخر. كقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] على أظهر التفسيرات، وقوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] الآية، وقوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]، وقوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا} [المائدة: 17]، وقوله تعالى: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] إلى غير ذلك من الآيات.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}.
قوله في هذه الآية الكريمة {أَمْ} هي المنقطعة، وهي بمعنى بل والهمزة، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار، والمعنى: ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعزّ حتى لا ينالهم عذابنا. ثم بين أن آلهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها، فكيف تنفع غيرها بقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ}. وقوله: {مِّن دُونِنَا} فيه وجهان: أحدهما أنه متعلق. {آلِهَةٌ} أي ألهم آلهة {مِّن دُونِنَا} أي سوانا {تَمْنَعُهُمْ} مما نريد أن نفعله بهم من العذاب! كلا! ليس الأمر كذلك. الوجه الثاني أنه متعلق. {تَمْنَعُهُمْ} لقول العرب: منعت دونه، أي كففت أذاه. والأظهر عند الأول. ونحوه كثير في القرآن كقوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ} [الأنبياء: 29] الآية وقوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان: 3] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها فكيف تنفع غيرها جاء مبينًا في غير هذا الموضع؟ كقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَواء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 191- 195]، وقوله تعالى: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 197- 198]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: 13- 14] الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة} [الأحقاف: 5] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع البتة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي يجارون: أي ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا. لأن الله يجير ولا يجاز عليه كما صرح بذلك في سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] في قوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88]. والعرب تقول: أنا جار لك وصاحب من فلان. أي مجير لك منه. ومنه قول الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوِّذًا ** ليصحب منا والرماح دواني

يعني ليجار ويُغاث منا. وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا. كقول بعضهم {يُصْحَبُونَ} يُمنعون. وقول بعضهم يُنصرون. وقول بعضهم {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل الرحمة صاحبًا لهم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَاءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر}.
الظاهر أن الإضراب. {بَلْ} في هذه الآية الكريمة انتقالي. والإشارة في قوله: {هؤلاء} راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن} [الأنبياء: 42] الآية، وهم كفَّار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله. والمعنى: أنه متَّع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، فحملهم ذلك على الطغيان واللجاج في الكفر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة، وأن ذلك يزيدهم كُفرًا وضلالًا جاء موضحًا في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]، وقوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182- 183]، وقوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ولَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوما بُورًا} [الفرقان: 18]، وقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَاءَهُمْ حتى جَاءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَا جَاءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 29- 30] والآيات بمثل ذلك كثيرة. والعمر يطلق على مدة العيش.
قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها أَفَهُمُ الغالبون}.
في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء: وبعضها تدل له قرينة قرآنية:
قال بعض العلماء: نقصها من أطرافها: موت العلماء، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هرير. وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس والثمرات، إلى غير ذلك من الأقوال، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية: فهو أن معنى {نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها، وردها دار إسلام. والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده {أَفَهُمُ الغالبون}. والاستفهام لإنكار غلبتهم. وقيل: لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون، فقوله: {أَفَهُمُ الغالبون} دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور. ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} [الرعد: 31] على قول من قال: إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم تفتح أطراف بلادهم، أو تحل أنت يا نبي الله قريبًا من دارهم.
وممن يروى عنه هذا القول: ابن عباس وأبو سعيد وعكرمة ومجاهد وغيرهم. وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة الرعد أيضًا في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41].
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الأنبياء هذه: إن أحسن ما فُسِّر به قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} [الأنبياء: 44] هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكِنا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27].
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره ابن كثير رحمه الله صواب، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه. وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله، والكفر بما جئت به {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلَكِنا قوم صالح وقوم لوط، وهم يمرون بديارهم. وكما أهلَكِنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل مُمَزَّق كل ذلك بسبب تكذيب الرسل، والكفر بما جاءوا به. وهذا هو معنى قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكِنا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} [الأحقاف: 27] كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم. وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده {أَفَهُمُ الغالبون} والمعنى: أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم، وأنتم لستم بأقوى منهم، ولا أكثر أموالًا ولا أولادًا. كما قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكِناهُمْ} [الدخان: 37] الآية. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرض فَمَا أغنى عَنْهُم مَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [غافر: 82]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ} [الروم: 9] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وإنذار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جدًّا في القرآن. وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير رحمه الله من تفسير آية الأنبياء هذه بآية الأحقاف المذكورة كما بينا.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: أي فائدة في قوله: {نَأْتِي الأرض}؟ قلت: فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها اهـ منه. والله جل وعلا أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}.
عطف على جملة {سأريكم آياتي} [الأنبياء: 37] تطمين للنبيء صلى الله عليه وسلم وتسلية له.
ومناسبة عطفها على جملة {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار} [الأنبياء: 39] إلى آخرها ظاهرة.
وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام.
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن}.
بعد أن سُلِّيَ الرسول صلى الله عليه وسلم على استهزائهم بالوعيد أُمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قِبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظًا لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم.
والاستفهام إنكار وتقريع، أي لا يكلؤُهم منه أحد فكيف تجهلون ذلك، تنبيهًا لهم إذ نسوا نعمه.
وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل: من يكلؤكم في جميع الأوقات. وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يُعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام.
وذكر النهار بعده للاستيعاب. ومعنى {من الرحمان} من بأسه وعذابه. وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب.
فالإضراب الأول قوله تعالى: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون}، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يُرجَى منهم الانتفاع بالقوارع، أي أخِّرْ السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورّطوا في العذاب عرفوا أن لا كالىء لهم.
ثم أضرب إضرابًا ثانيًا بـ أم المنقطعة التي هي أخت بل مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا}، أي بل ألهم آلهة.
والاستفهام إنكار وتقريع، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا.
وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء.
وجملة {لا يستطيعون نصر أنفسهم} مستأنفة معترضة.
وضمير {يستطيعون} عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم.
والمعنى: كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول.
ثم أضرب إضرابًا ثالثًا انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخَذ الله إياهم بالعذاب فجرّأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد، وهو قوله تعالى: {بل متعنا هؤلاء وآباءهم}، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء، ولَكِن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مَداها حتى طالت أعمار آبائهم.
وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمدٍ عَلِمَه.
وقد وُجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى: {قل من يكلؤكم}، ثم أُعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} الآية في سورة [يونس: 22].
و{يصحبون} إما مضارع صحبهُ إذا خالطه ولازمه، والصحبة تقتضي النصر والتأييد، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعلُ المبنيّ للنائب مرادًا به الله تعالى، أي لا يصحبهم الله، أي لا يؤيدهم؛ فيكون قوله تعالى: {منا} متعلقًا بـ {يصحبون} على معنى مِن الاتصالية، أي صحبة متصلةً بنا بمعنى صحبة متينة.
وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3].