فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفًا لقصد العموم، أي لا يصحبهم صاحب، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حِماية الجار فيكون قوله تعالى: {منا} متعلقًا بـ {يصحبون} على معنى مِن التي بمعنى على كقوله تعالى: {فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} [غافر: 29].
وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه، أي من السوء.
والإشارة بـ {هؤلاء} لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش.
وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها أَفَهُمُ الغالبون}.
قريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلًا على تكذيب وقوعه حتى قالوا: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38] تهكمًا وتكذيبًا.
فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار} إلى قوله تعالى: {ما كانوا به يستهزئون} [الأنبياء: 3941] فرّع على ذلك كله استفهامًا تعجيبيًا من عدم اهتدائهم إلى إمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالًا على قربه بحصول أماراته.
والرؤية علمية، وسَدت الجملة مسَدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد، فمَن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى، وكفى بذلك دليلًا على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعنايةِ ربه به كما دلّ عليه فعل {نأتي} فالإتيان تمثيل بِحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتُل ويأسِرُ كما تقدم في قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} [النحل: 26].
والتعريف في {الأرض} تعريف العهد، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [سورة يوسف: 80] {فلن أبرح الأرض} أي أرضَ مصر.
والنقصان: تقليل كمية شيء.
والأطراف: جمع طَرف بفتح الطاء والراء.
وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته، وضده الوسط.
والمراد بنقصان الأرض: نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين، والقرينة المشاهدة.
والمراد: نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة، ومن هاجر منهم إلى الحبشة، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين.
وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.
وجملة {أفَهمُ الغالبون} مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة.
والاستفهام إنكاري، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم.
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى: {أفهم الغالبون} دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}.
سبق أنْ خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا} [الأنبياء: 36] لذلك يُسلِّيه هنا: لست بدعًا من الرسل، فَخُذْ هذه المسألة بصدر رَحْب، فلقد استهزئ بالرسل من قبلك فلا تحزن، فسوف يحيق بهم ما صنعوا، ويجدون عاقبة هذا الاستهزاء.
كما جاء في قصة نوح عليه السلام: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} [هود: 38] فيردُّ نوح: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] أي: انتظروا النهاية، وسوف ترون!!.
ومعنى: {فَحَاقَ} [الأنبياء: 41] أي: حَلَّ ونزل بقسوة {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء: 41].
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 29- 31] أي: مسرورين فرحين، وهذا دليل على لُؤْمهم ورذالة طباعهم، فلم يكتفوا بالاستهزاء، وإنما يحكونه وينبجحون به. {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وما أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 32- 36].
هل استطعنا أنْ نُجازيهم بما عملوا؟ نعم يا ربّ.
ولا ننسى أن استهزاء الكفار بأهل الحق استهزاء موقوت بوقته في الدنيا، أمّا استهزاء الله بهم فاستهزاء أبديّ لا نهايةَ له. ويجب هنا أن نتنبه لهذه المسألة، فكثيرًا ما يتعرض أهل الإيمان للاستهزاء وللسخرية من أهل الباطل، وهؤلاء الذين يسخرون منهم لأجلهم يصون الله لهم الحياة ويدفع عنهم العذاب، كما جاء في الحديث القدسي: «فلولا أطفال رُضَّع، وشيوخ رُكّع، وبهائم رُتَّع لصببتُ عليكم العذاب صبًا».
فحين ترى تقيًا، فإذا لم تشكره على تقواه وتقتدي به فلا أقلَّ من أنْ تدعَه لحاله، لا تهزأ به، ولا تسخر منه؛ لأن في وجوده استبقاءً لحياتك وأَمْنِكَ، وأقل ما يمكنك أنْ تُقيِّم به التقى: يكفيك منه أن أمنتَ شرَّه، فلن يعتدي عليك، ولن ترى منه شيئًا يسؤوك.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار}.
أي: يرعاكم ويحفظكم، وكأن الحق- سبحانه وتعالى- يُجري مقارنة بين إنعامه سبحانه على عباده وما يقابلونه به من جحود ونكران وكفران، أنتم تكفرون بالله وتُؤذُون الصالحين من عباده وتسخرون منهم، وهو سبحانه الذي {يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار} [الأنبياء: 42] أي: كلاءة صادرة من الله الرحمن.
كما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] فليس المراد أنهم يحفظونه من أمر الله الذي أراده الله فيه؛ لأن الحِفْظَ صادر من الله، والحفَظة مكلّفون من قبله تعالى بحفظكم، وليس تطوُّعًا منهم. وكلاءة الله لك وحفْظه إياك في النهار وفي الليل وأنت نائم عليك حَفَظة يحفظونك، ويدفَعون عنك الأذى.
وكثيرًا ما نسمع أن بعض الناس قام من نومه فوجد ثعبانًا في فراشه، ولم يُصِبْه بسوء، وربما فزع لرؤيته فأصابه مكروه بسبب هذا الخوف، وهو لا يعلم أن الثعبان لا يؤذيه طالما أنه لم يتعرَّض له، وهذا من عجائب هذه المخلوقات أنها لا تؤذيك طالما لا تؤذيها. إذن: لا أحدَ يرقبك ويحفظك في نومك مِمَا يُؤذيك إلا الحق سبحانه.
وكلاءة الله لكم لا تقتصر على الحِفْظ من المعاطب، فمن كلاءته سبحانه أن يمدّكم بمقومات الحياةَ، فالشمس بضوئها، والقمر بنوره، والأرض بنباتها، والسماء بمائها. ومع هذا تكفرون به، وتسخرون من رسله وأهل طاعته؛ لذلك يقول بعدها: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] وما كان يصحّ أنْ يغيبَ ذِكْره تعالى عنهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا}.
أَلَهم آلهة أخرى تمنعهم من الإيمان بالله؛ هؤلاء الآلهة لا يستطيعون نَصْر أنفسهم، وكيف ينصرون أنفسهم، وهي أصنام من حجارة نحتَها عُبَّادها على أشكال اختاروها؟ كيف ينصرون أنفسهم، ولو أطاحت الريح بأحدهم لاحتاج لمَنْ يرفعه ويقيمه؟
وقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء: 43] كانوا قديمًا في البادية، إذا فعل أحدهم ذنبًا، أو فعل فَعْله في إحدى القبائل، واحتاج إلى المرور عليهم في طريقه يذهب إلى واحد قويٍّ يصاحبه في مشواره، ويحميه منهم إلى أنْ يمرَّ على ديارهم، كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ على ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14].
فالمراد: يصحبه كي يحميه بهذه الصُّحْبة وينجو من العذاب، فهؤلاء لن نكون في صُحْبتهم لننجيهم، ولا أحدَ يستطيع أن يصحبهم لينجيهم من عذابنا، لا هذه ولا تلك.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَاءَهُمْ}.
أي: أنهم مكثوا فترة طويلة من الزمن يتقلَّبون في نعَم الله، لَكِن انظروا ماذا حدث لهم بعد ذلك، فخذوا منهم عبرةً: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَا عَمَرُوهَا} [الروم: 9].
ومع ذلك أُخذوا أَخْذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكِنا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكِناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
ثم يقول سبحانه: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} [الأنبياء: 44].
وفي موضع آخر: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41].
وهذه آية من الآيات التي وقف عندها بعض علماءنا من النبيين من بعمليات القرآن، فلما أعلن العلماء أن الأرض بيضاوية، لشكل، وليست كاملة الاستدارة، يعني: أقطارها مختلفة بالنسبة لمركزها، سارع بعضهم من منطلق الغَيْرة على دين الله ومحاولة إثبات صِدْق القرآن، وأنه سبق إلى ذِكْر هذه المسألة فقالوا: لقد ذكر القرآن هذا الإكتشاف في قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} [الأنبياء: 44] يعني: من ناحية خط الاستواء، لا من ناحية القطبين.
وغفل هؤلاء أن الآية تقول: {نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} [الأنبياء: 44] لا من طرفها، فالنقص من جميع الأطراف، فمِثْل هذه الأقوال تفتح الباب للطعن في القرآن والخوْض فيه.
ونتساءل {أَفَلاَ يَرَوْنَ} [الأنبياء: 44] رأي هنا علمية أم بصرية؟ لو قلنا: إنها بصرية فهذه ظاهرة لم تُعْرَف إلا في القرن العشرين، ولم ينتبه لها أحد قبل ذلك، إذن: فهي ليست بصرية. وأيضًا ليست علمية، فلم تصل هذه المعلومة إلى هؤلاء، ولم يكُنْ العرب حينذاك أمةَ علم، ولا أمة ثقافة، ولاشيء من ذلك أبدًا. فإذا ما استبعدنا هذا التفسير، فما المعنى المناسب؟
نقول: إنْ كانت رأي بصرية، فقد رأوا هذه الظاهرية في الأمم السابقة، وقد كانوا يصادمون دين الله ويحاربونه؛ لأنه جاء ليقضي على سلطتهم الزمنية، ويجعل الناس سواء، ومع ذلك كان الدين ينتشر كل يوم وتزيد رقعته وتقلّ رُقعة الكفر.
فالمعنى: ننقص أرض الكفر إما من الناس، أو من العمائر التي تُهدم وتخرب بالزلازل والخسف وغيره، فننقص الأرض، وننقص الناس، وننقص مظاهر العمران في جانب الكفر، وهذا النقص هو نفسه الزيادة في أرض الإيمان. وهذه الظاهرة حدثت في جميع الرسالات.
فإنْ قال قائل: كيف نقبل هذا التفسير، وزيادة أرض الإيمان لم تحدث إلا بعد الهجرة، والآية مكية؟ تقول: كَوْن الآية مكية لا يقدح في المعنى هنا، فليس من الضروري أن يَروْا ذلك في أنفسهم، ويكفي أنْ يروها في الأمم السابقة، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137].
وقال: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} [الفجر: 9- 12].
وإن اعتبرنا رأي علمية، فقد علموا ذلك من أهل الكتاب ممَّنْ تحالفوا معهم، فما حدث للأمم السابقة سيحدث لكم.
وقوله تعالى: {أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44] يعني: أفلم يشاهدوا أنَّا ننقص الأرض من أطرافها، أم أن هذا لم يحدث، وهم الغالبون؟ أيهما الغالب: رسل الله، أم الكافرون؟ الإجابة أنهم غُلِبوا واندحروا، فقال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا} [غافر: 51]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ}.
قوله: {مِنَ الرحمن}: متعلق بـ {يَكْلؤُكم} على حذفِ مضافٍ أي من أمرِ الرحمنِ أو بَأْسِه كقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11]. و{بالليل} بمعنى في الليل. والكِلاءَةُ: الحِفْظُ يقال: كَلأَه يَكْلَؤُه اللهُ كِلاءة بالكسر. كذا ضبطه الجوهري فهو كالِىءٌ ومَكْلُوْءٌ. قال ابنُ هَرْمة:
إنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلَؤُها ** ضَنَّتْ بشَيْءٍ ما كان يَرْزَؤها

واكْتَلأْتُ منه: احتَرَسْتُ، ومنه سُمِّي النباتُ كَلًا؛ لأنَّ به تقومُ بُنْيَةُ البهائمِ وتُحْرس. ويقال: بَلَّغَ الله بك أَكْلأَ العُمُرِ والمُكَلأُ: موضعٌ تُحْفظ فيه السفن. وفي الحديث: «نهى عن بيع الكالِىء بالكالِىءِ» أي: بَيْعِ الدَّيْن بالدَّيْن؛ كأنَّ كلًا من رَبِّ الدَّيْنَيْنِ يكلأُ الآخَرَ أي: يراقبه.
وقوله: {بَلْ هُمْ} إضرابٌ عن ما تَضَمَّنه الكلامُ الأول من النفي، إذ التقدير: ليس لهم كالىءٌ ولا مانعٌ غيرُ الرحمنِ.
وقرأ الزهري وابن القعقاع {يَكْلَوُكم} بضمةٍ خفيفةٍ دونَ همزٍ. وحكى الكسائي والفراء {يَكْلَوْكم} بفتحِ اللامِ وسكونِ الواو ولم أعرفْها قراءةً، وهو قريبٌ من لغةِ مَنْ يخفِّف أكلَتْ الكلا على الكلَوْ وقفًا إلاَّ أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}.
قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ}: {أم} منقطعةٌ أي: بل ألهم آلهةٌ. وقد تقدم ما فيها. وقوله: {مِّن دُونِنَا} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بـ {تَمْنَعُهم} قيل: والمعنى: ألهم آلهةٌ تجعلُهم في مَنْعَةٍ وعزٍّ. وإلى هذا ذهب الحوفي. والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفةٌ لـ: {آلهة} أي: آلهةٌ من دونِنا تمنعُهم؛ ولذلك قال ابن عباس: إنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا. وقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} مستأنفٌ فلا محلَّ له، ويجوز أن يكونَ صفةً لـ: {آلهة} وفيه بُعْدٌ من حيث المعنى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}.
تسليةٌ له، وتعريفٌ بوشك الانتصار على الذين كانوا يؤذونه من أعداء الدين؛ أي عن قريب ستجدون وَبالَ ما استوجبوه من العقوبة.
قوله جلّ ذكره: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُمِ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} تقرير عليهم بأن ليس بتداخل المخلوقين نجاتهم، وقد جرَّبوا ذلك في أحوال محنتهم، فكيف لا يتبرءون ممن ليس لهم شيء، ومما ليس منه نَفْعٌ ولا ضرٌّ؟ وفي ذلك تنبيه للمؤمنين بأن مآربهم إلى الخيرات من نوعي النفع والدفع من الله عز وجل، فالواجبُ دوامُ اعتكافِهم بقلوبهم بقوة كَرمِه وجُوده.
قوله جلّ ذكره: {أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا}.
بسط القول وكرره في تعريفهم استحالة حصول الضر والنفع من الجمادات؛ وأصنامُهم التي عبدوها من تلك الجملة، ولم يَرِدْ منهم- على تكرار هذه الألفاظ- إلًا عجزٌ وانقطاعُ قولٍ.
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنْقُصُهَا مِنْ أطرافها أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}.
طولُ الإمتاع إذا لم يكن مقرونًا بالتوفيق، مشفوعًا بالعصمة كان مكرًا واستدراجًا، وزيادةً في العقوبة. والحقُّ كما يعاقِبُ بالآلام والأهوال يعاقِب بالإملاء والإمهال.
وقال: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض} تتوالى القسوة حتى لا يَبْقَى أثرٌ، للصفوة؛ فيتعاقبُ الخذلانُ حتى يتواتر العصيان، ويتأدى ذلك إلى الحرمان الذي فيه ذهاب الإيمان.
ويقال تنقص بذهاب الأكابر ويبقى الأراذل ويتعرض الأفاضل.. وفي هذا أيضًا إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين وتطاول العمر، فإن آخر الأمر كما قيل:
آخِرُ الأمر ما ترَى ** القبرُ واللَّحدُ والثرى

وكما قيل:
طوى العصران ما نَشْرَاه مني ** وأبلى جدتي نَشْرٌ وطيُّ

أراني كلَّ يومٍ في انتقاص ** ولا يبقى مع النقصان شيُّ

. اهـ.