فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (45- 47):

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدعاء إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تبين الخلف في قولهم على كثرته وادعائهم الحكمة والبلاغة، وفعلهم على كثرتهم وزعمهم القوة والشجاعة، ثبت أن أقواله الناقضة لذلك من عند الله بما ثبت من استقامة معانيها وإحكامها، بعدما اتضح من إعجاز نظومها وحسن التئامها، فأمره أن يبين لهم ذلك بقوله: {قل إنما أنذركم} أيها الكفار {بالوحي} أي الآتي به الملك عن الله فلا قدح في شيء من نظمه ولا معناه والحال أنكم لا تسمعون- على قراءة الجماعة والحال أنك لا تسمعهم- على قراءة ابن عامر بضم الفوقانية وكسر الميم ونصب الصم خاصة، ولَكِنهم لما كانوا لا ينتفعون بإنذاره لتصامّهم وجعلهم أصابعهم في آذانهم وقت الإنذار عدهم صمًا، وأظهر الوصف لتعليق الحكم به فقال: {ولا يسمع الصم الدعاء} أي ممن يدعوهم، أو يكون معطوفًا على ما تقديره: فإن كانت أسماعكم صحيحة سمعتم فأجبتم، ونبه بقوله: {إذا ما ينذرون} على أن المانع لهم مع الصمم كراهة الإنذار، وبالبناء للمفعول على منذر.
ولما كان المنذر لا يترك الاستعداد لما ينذر به من العذاب إلا إذا كان قويًا على دفعه.
بيّن أنهم على غير ذلك فقال: {ولئن} أي لا يسمعون والحال أنه لا قوة بهم، بل إن {مستهم} أي لاقتهم أدنى ملاقاة {نفحة} أي رائحة يسيرة مرة من المرات {من عذاب ربك} المحسن إليك بنصرك عليهم {ليقولن} وقد أذهلهم أمرها عن نخوتهم.
وشغلهم قدرها عن كبرهم وحميتهم: {يا ويلنا} الذي لا نرى الآن بحضرتنا غيره {إنا كنا} أي بما لنا مما هو في ثباته كالجبلات {ظالمين} أي عريقين في الظلم في إعراضنا وتصامّنا ترفقًا وتذللًا لعله يكف عنهم.
ولما بيّن ما افتتحت السورة من اقتراب الساعة بالقدرة عليه واقتضاء الحكمة له، وأن كل أحد ميت لا يستطيع شيئًا من الدفع عن نفسه فضلًا عن غيره، وختمت الآيات بإقرار الظالم بظلمه، وكانت عادة كثير من الناس الجور عند القدرة، بين أنه سبحانه بخلاف ذلك فذكر بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل فقال عاطفًا على قوله: {بل تأتيهم بغتة}: {ونضع} فأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى هوانه عنده وإن كان لكثرة الخلائق وأعمال كل منهم متعذرًا عندنا {الموازين} المتعددة لتعدد الموزونات أو أنواعها.
ولما كانت الموازين آلة العدل، وصفها به مبالغة فقال: {القسط} أي العدل المميز للأقسام على السوية.
ولما كان الجزاء علة في وضع المقادير، عبر باللام ليشمل- مع ما يوضع فيه- ما وضع الآن لأجل الدنيوية فيه فقال: {ليوم القيامة} الذي أنتم عنه- لإعراضكم عن الذكر- غافلون.
ولما جرت العادة بأن الملك قد يكون عادلًا فظلم بعض أتباعه، بين أن عظمته في إحاطة علمه وقدرته تأبى ذلك، فبنى الفعل للمجهول فقال: {فلا} أي فتسبب عن هذا الوضع أنه لا {تظلم} أي من ظالم ما {نفس شيئًا} من عملها {وإن كان} أي العمل {مثقال حبة} هذا على قراءة الجماعة بالنصب.
والتقدير على قراءة نافع بالرفع: وإن وقع أو وجد {من خردل} أو أحقر منه، وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وزاد في تحقيره بضمير التأنيث لإضافته إلى المؤنث فقال: {أتينا بها} بما لنا من العظمة في العلم والقدرة وجميع صفات الكمال فحاسبناه عليها، والميزان الحقيقي.
ووزن الأعمال على صفة يصح وزنها معها بقدرة من لا يعجزه شيء.
ولما كان حساب الخلائق كلهم على ما صدر منهم أمرًا باهرًا للعقل، حقره عند عظمته فقال: {وكفى بنا} أي بما لنا من العظمة {حاسبين} أي لا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أنه لا يروج عليه شيء من خداع ولا يقبل غلطًا، ولا يضل ولا ينسى، إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس أو شوب نقص، ووعد من جهة أنه لا يطلع على كل حسن فقيد وإن دق وخفي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}.
اعلم أنه سبحانه لما كرر في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى} أي بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أن ذلك من قبلي بل الله آتيكم به وأمرني بإنذاركم فإذا قمت بما ألزمني ربي فلم يقع منكم القبول والإجابة فالوبال عليكم يعود، ومثلهم من حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من إنذاره مع كثرته وتواليه بالصم الذين لا يسمعون أصلًا إذ الغرض بالإنذار ليس السماع بل التمسك به في إقدام على واجب وتحرز عن محرم ومعرفة بالحق.
فإذا لم يحصل هذا الغرض صار كأنه لم يسمع.
قال صاحب الكشاف: قرئ ولا تسمع الصم الدعاء بالتاء والياء أي لا تسمع أنت أو لا يسمع رسول الله أو لا يسمع الصم من أسمع، فإن قلت: الصم لا تسمع دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر.
فكيف قال إذا ما ينذرون؟ قلت: اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس، والأصل ولا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصاممهم وسدهم أسماعهم إذا أنذروا أي هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامم عن آيات الإنذار.
ثم بين تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون وهذا هو المراد بقوله: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} وأصل النفح من الريح اللينة والمعنى ولئن مسهم شيء قليل من عذاب الله كالرائحة من الشيء دون جسمه لتنادوا بالويل واعترفوا على أنفسهم بالظلم.
قال صاحب الكشاف في المس والنفحة ثلاث مبالغات: لفظ المس وما في النفح من معنى القلة والنزارة، يقال: نفحته الدابة وهو رمح يسير ونفحه بعطية رضخه، ولفظ المرة.
ثم بين سبحانه وتعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلًا فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط} وصفها الله تعالى بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيمًا وقد يكون بخلافه، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط، وأكد ذلك بقوله: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
معنى وضعها إحضارها، قال الفراء: القسط صفة الموازين وإن كان موحدًا وهو كقولك للقوم: أنتم عدل، وقال الزجاج: ونضع الموازين ذوات القسط وقوله: {لِيَوْمِ القيامة} قال الفراء في يوم القيامة وقيل لأهل يوم القيامة.
المسألة الثانية:
في وضع الموازين قولان: أحدهما: قال مجاهد هذا مثل والمراد بالموازين العدل ويروى مثله عن قتادة والضحاك والمعنى بالوزن القسط بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه يعني أن حسناته تذهب بسيئاته ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفت موازينه أي أن سيئاته تذهب بحسناته، حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الثاني: وهو قول أئمة السلف أنه سبحانه يضع الموازين الحقيقية فتوزن بها الأعمال، وعن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام.
ويروى:
«أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه، فلما أفاق قال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» ثم على هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان.
أحدهما: أن توزن صحائف الأعمال.
والثاني: يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه سبحانه وتعالى عادلًا غير ظالم أو لا يعلمون ذلك.
فإن علموا ذلك كان مجرد حكمة كافيًا في معرفة أن الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة ألبتة، وإن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف لاحتمال أنه سبحانه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلمًا فثبت أن وضع الميزان على كلا التقديرين خالٍ عن الفائدة.
وجوابه على قولنا قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] وأيضًا ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق، فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور وللآخر أعظم الغم، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره.
إذا ثبت هذا فنقول: الدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز، لاسيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب.
المسألة الثالثة:
قال قوم: إن هذه الآية يناقضها قوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105]، والجواب: أنه لا يكرمهم ولا يعظمهم.
المسألة الرابعة:
إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم، ويجوز أن يرجع إلى الموزونات.
أما قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيىء.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرئ: {مِثْقَالَ حَبَّةٍ} على كان التامة كقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {أَتَيْنَا بِهَا} وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقرأ حميد: أثبنا بها من الثواب، وفي حرف أبي جئنا بها.
المسألة الثانية:
لم أنث ضمير المثقال؟ قلنا: لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه.
المسألة الثالثة:
زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزء من الثواب فهذا الأقل يتحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان.
واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة.
المسألة الرابعة:
قالت المعتزلة قوله: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم، فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح.
والجواب: الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق، ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلًا أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال، فالظلم على الله تعالى محال.
وأيضًا فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية، فحينئذ يكون كونه إلهًا من الجائزات لا من الواجبات، وذلك يقدح في إلهيته.
المسألة الخامسة:
إن قيل الحبة أعظم من الخردلة، فكيف قال حبة من خردل؟ قلنا: الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار.
والغرض المبالغة في أن شيئًا من الأعمال صغيرًا كان أو كبيرًا غير ضائع عند الله تعالى.
أما قوله تعالى: {وكفى بِنَا حاسبين} فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه، ويروي عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال:
حاسبونا فدققوا.. ثم منوا فأعتقوا. اهـ.