فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويدل على هذا المعنى قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} [الإسراء: 11].
والمراد بالإنسان: الجنس.
وقيل: المراد بالإنسان: آدم، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه، فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع، فقيل: خلق الإنسان من عجل، كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسديّ والكلبي ومجاهد وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل: الطين بلغة حمير.
وأنشدوا:
والنخل تنبت بين الماء والعجل

وقيل: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32].
وقيل: نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب.
وقال الأخفش: معنى خلق الإنسان من عجل أنه قيل له كن فكان.
وقيل: إن هذه الآية من المقلوب، أي خلق العجل من الإنسان وقد حكي هذا عن أبي عبيدة والنحاس، والقول الأول أولى {سأريكم آياتي} أي: سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} أي لا تستعجلوني بالإتيان به، فإنه نازل بكم لا محالة، وقيل: المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة، والأول أولى، ويدل عليه قولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي متى حصول هذا الوعد، الذي تعدنا به من العذاب، قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية.
وقيل: المراد بالوعد هنا: القيامة، ومعنى {إِن كُنتُمْ صادقين}: إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين في وعدكم، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب.
وجملة: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ} وما بعدها مقرّرة لما قبلها، أي لو عرفوا ذلك الوقت، وجواب لو محذوف، والتقدير: لو علموا الوقت الذي {لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} لما استعجلوا الوعيد.
وقال الزجاج: في تقدير الجواب لعلموا صدق الوعد.
وقيل: لو علموه ما أقاموا على الكفر.
وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية، ويدلّ عليه قوله: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى الأمام والخلف لكونهما أشهر الجوانب الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكلّ، بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم، ومحل {حين لا يكفون} النصب على أنه مفعول العلم، وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه، ومعنى {ولا هم ينصرون}: ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم، وجملة {بل تأتيهم بغتة} معطوفة على {يكفون} أي لا يكفونها بل تأتيهم العدّة أو النار أو الساعة بغتة، أي فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} قال الجوهري: بهته بهتًا أخذه بغتة، وقال الفراء: فتبهتهم، أي تحيرهم.
وقيل: فتفجؤهم {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فالضمير راجع إلى النار.
وقيل: راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة.
وقيل: راجع إلى الحين بتأويله بالساعة {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.
وجملة {وَلَقَدِ استهزيء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته، كأنه قال: إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم {فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} أي أحاط ودار بسبب ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزئوا بهم {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}: ما موصولة، أو مصدرية، أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به، أو فأحاط بهم استهزاؤهم، أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب، أو نفس الاستهزاء، إن أريد به العذاب الأخروي.
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن} أي يحرسكم ويحفظكم.
والكلاءة: الحراسة والحفظ، يقال: كلأه الله كلاء بالكسر، أي حفظه وحرسه.
قال ابن هرمة:
إن سليمى والله يكلؤها ** ضنت بشيء ما كان يرزؤها

أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ: من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار من بأس الرحمن وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم؟ وقال الزجاج: معناه: من يحفظكم من بأس الرحمن.
وقال الفراء: المعنى: من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة.
وحكى الكسائي والفراء: من يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم، بل يعرضون عنه، أو عن القرآن، أو عن مواعظ الله، أو عن معرفته.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا}: أم هي المنقطعة التي بمعنى بل، والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه، والدفع عنها.
والمعنى: بل لهم آلهة تمنعهم من عذابنا.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم.
ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدلّ على الضعف والعجز فقال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم {ولا هم منا يصحبون} أي ولا هم يجارون من عذابنا.
قال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار، والعرب تقول: صحبك الله، أي حفظك وأجارك، ومنه قول الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوّذا ** ليصحب منا والرماح دواني

تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه.
قال المازني: هو من أصحبت الرجل: إذا منعته.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبيّ بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبيّ، فسمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوّفه وقال: ما أراك منتهيًا حتى يصيبك ما أصاب عمك، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية»، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَآكَ الذين كَفَرُواْ}.
قلت: ينظر من الذي روى عنه السديّ؟.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس فقال: الحمد لله، فقالت الملائكة: يرحمك الله، فذهب لينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع، فقال الله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.
وقد أخرج نحو هذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
وأخرج نحوه أيضًا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد، وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} قال: يحرسكم، وفي قوله: {وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} قال: لا ينصرون.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} قال: لا يجارون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية: قال لا يمنعون. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}.
بعد ذلك الشوط البعيد المديد في أرجاء الكون، وفي نواميس الوجود، وفي سنن الدعوات، وفي مصائر البشر، وفي مصارع الغابرين.. يرتد السياق إلى مثل ما بدأ به في مطلع السورة عن استقبال المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الوحي؛ واستهزائهم به وإصرارهم على الشرك..
ثم يتحدث عن طبيعة الإنسان العجول، واستعجالهم بالعذاب. فيحذرهم ما يستعجلون به. وينذرهم عاقبة الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعرض لهم مشهدًا من تقلص ظلال الغالبين المسيطرين في الدنيا. ومشهدًا من عذاب المكذبين في الآخرة.
ويختم الشوط بدقة الحساب والجزاء في يوم القيامة. فيربط الحساب والجزاء بنواميس الكون وفطرة الإنسان وسنة الله في حياة البشر وفي الدعوات.
{وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوًا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون}.
إن هؤلاء الكفار يكفرون بالرحمن، خالق الكون ومدبره، ليستنكرون على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم الأصنام بالسوء، بينما هم يكفرون بالرحمن دون أن يتحرجوا أو يتلوموا.. وهو أمر عجيب جد عجيب!
وإنهم ليلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهزء، يستكثرون عليه أن ينال من أصنامهم تلك: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} ولا يستكثرون على أنفسهم وهم عبيد من عبيد الله أن يكفروا به، ويعرضوا عما أنزل لهم من قرآن.. وهي مفارقة عجيبة تكشف عن مدى الفساد الذي أصاب فطرتهم وتقديرهم للأمور!
ثم هم يستعجلون بما ينذرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب؛ ويحذرهم من عاقبته. والإنسان بطبعه عجول:
{خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}..
{خلق الإنسان من عجل}.. فالعجلة في طبعه وتكوينه. وهو يمد ببصره دائمًا إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد ان يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه. ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه. والإيمان ثقة وصبر واطمئنان.
وهؤلاء المشركون كانوا يستعجلون بالعذاب، ويسألون متى هذا الوعد. الوعد بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا.. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهدًا من عذاب الآخرة، ويحذرهم ما أصاب المستهزئين قبلهم من عذاب الدنيا:
{لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}.
لو يعلمون ما سيكون لكان لهم شأن غير شأنهم، ولكفوا عن استهزائهم واستعجالهم.. فلينظروا ماذا سيكون.
ها هم أولاء تنوشهم النار من كل جانب، فيحاولون في حركة مخبلة يرسمها التعبير من وراء السطور أن يكفوا النار عن وجوههم وعن ظهورهم، ولَكِنهم لا يستطيعون. وكأنما تلقفتهم النار من كل جانب، فلا هم يستطيعون ردها، ولا هم يؤخرون عنها، ولا هم يمهلون إلى أجل قريب.
وهذه المباغتة جزاء الاستعجال. فلقد كانوا يقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} فكان الرد هو هذه البغتة التي تذهل العقول، وتشل الإرادة، وتعجزهم عن التفكير والعمل، وتحرمهم مهلة الإنظار والتأجيل.
ذلك عذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فقد حل بالمستهزئين قبلهم. فإذا كانوا هم لم يقدر عليهم عذاب الاستئصال، فعذاب القتل والأسر والغلب غير ممنوع. وليحذروا الاستهزاء برسولهم. وإلا فمصير المستهزئين بالرسل معروف، جرت به السنة التي لا تتخلف وشهدت به مصارع المستهزئين.
أم إن لهم من يرعاهم بالليل والنهار غير الرحمن، ويمنعهم من العذاب في الدنيا أو الآخرة من دون الله؟
{قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصبحون}.
إن الله هو الحارس على كل نفس بالليل والنهار. وصفته هي الرحمة الكبرى، وليس من دونه راع ولا حام. فاسألهم: هل لهم حارس سواه؟
وهو سؤال للإنكار، وللتوبيخ على غفلتهم عن ذكر الله، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولا راعي لهم سواه: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون}.
ثم يعيد عليهم السؤال في صورة أخرى: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} فتكون هي التي تحرسهم إذن وتحفظهم؟ كلا فهؤلاء الآلهة {لا يستطيعون نصر أنفسهم} فهم من باب أولى لا يستطيعون نصر سواهم. {ولا هم منا يصحبون} فيستمدوا القوة من صحبة القدرة لهم كما استمدها هارون وموسى وربهما يقول لهما: {إنني معكما أسمع وأرى} إن هذه الآلهة مجردة من القوة بذاتها؛ وليس لها مدد من الله تستمد منه القوة. فهي عاجزة عاجزة.
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل.. يضرب السياق عن مجادلتهم؛ ويكشف عن علة لجاجتهم؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب، وهو يواجهها إلى تأمل يد القدرة، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير، بعد السعة والمنعة والسلطان!
{بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون}..
فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم.
والمتاع ترف. والترف يفسد القلب ويبلد الحس. وينتهي إلى ضعف الحساسية باللّه، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته. وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها، ويصلها دائما باللّه، فلا تنساه.
ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص. فإذا هي دويلات صغيرة وكانت امبراطوريات. وإذا هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة. وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة. قليلة الخيرات وكانت فائضة بالخيرات..
والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد... فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة، وفيه الرهبة المخيفة! {أَفَهُمُ الْغالِبُونَ}؟ فلا يجري عليهم ما يجري على الآخرين؟
وفي ظل هذا المشهد الذي ترتعش له القلوب يؤمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يلقي كلمة الإنذار:
{قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدعاء إِذا ما يُنْذَرُونَ}..
فليحذروا أن يكونوا هم الصم الذين لا يسمعون! فتطوى رقعة الأرض تحت أقدامهم، وتقص يد القدرة أطرافهم، وتتحيفهم وما هم فيه من متاع!! ويتابع السياق إيقاعه المؤثر في القلوب، فيصورهم لأنفسهم حين يمسهم العذاب: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}..
والنفحة تطلق غالبا في الرحمة. ولَكِنها هنا تطلق في العذاب. كأنما ليقال: إن أخف مسة من عذاب ربك تطلقهم يجأرون بالاعتراف. ولَكِن حيث لا يجدي الاعتراف. فلقد سبق في سياق السورة مشهد القرى التي أخذها بأس اللّه، فنادى أهلها: {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيدًا خامِدِينَ}.. وإذن فهو الاعتراف بعد فوات الأوان. ولخير منه أن يسمعوا نذير الوحي وفي الوقت متسع، قبل أن تمسهم نفحة من العذاب!. اهـ.