فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}.
التفسير: إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالًا وجوابًا فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة أم المنقطعة {أم اتخذوا آلهة من الأرض} نسبت إلى الأرض كما يقال فلان من مكة لأنها اصنام تعبد من الأرض، لأن الالهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال: أنشر الله الموتى ونشرها اي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بإدعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلًا عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور.
والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية. ومعنى {هم} افادت الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال: {لو كان فيهما} أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما {آلهة إلا الله} اي غير الله. قال النحويون: إلا هاهنا بمعنى لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلًا في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال: إن إلا في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان: أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما {لفسدتا} وفيه دلالة على أمرين: الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدًا، والثاني أن لاي كون ذلك الواحد إلا إياه لقوله: {غير الله} وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال: لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح لإلهية. والاعتراض على هذا التقدير من وجهين: الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع.
والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان: أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، فلابد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلًا منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو اراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضًا اختلاف.
ولو قيل: إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير، فلابد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب، بل العاجز لا يصلح للإيجاد اصلًا فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها: أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت: يقدر. كان كل منهما مقهورًا للآخر، وإن قلت: لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئًا من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإِن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزًا ولهذا لا يمكن أن يقال: إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئًا نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلًا عن غيرها. ولقائل أن يقول: إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولاسيما في سورة البقرة في تفسير قوله: {وإلهكم إله واحد} [الآية: 163] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق: إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعًا لقلة جهات الافتقار وكثرتها، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحدًا كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات ولو هذه بمعنى أن والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلهًا غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله: {فسبحان الله رب العرش عما يصفون} من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيره قوله: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلمًا لرجل هل يستويان مثلًا} [الزمر: 29] وفيه قول زيد بن عمرو بن انفيل حين فارق قومه:
أربًا واحدًا أم الف رب ** أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعًا ** كذلك يفعل الرجل البصير

ثم أكد تفرده بالإِلهية بقوله: {لا يسأل عما يفعل} وفيه رد على الثنوية والمجوس الذين أثبتوا لله شريكًا فاعلًا للشرور والآلام، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا: لو كان مدبر العالم واحدًا لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت، ولَكِنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض ولم بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنيًا عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالًا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن لم وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبًا وإجلالًا لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسال عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيدًا بقوله: {وهم يسألون} وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا: إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثًا.
وأيضًا التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق، وأيضًا سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث، وإن كان فيه فائدة فإِن عادت إلى الله تعالى كان محتاجًا مستكملًا، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال: إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم مالا يطيقون وهو يناقص القاعدة الممهدة أنه لا يسال عما يفعل. ثم كرر {أم اتخذوا من دونه آلهة} استفظاعًا لكفرهم وليرتب عليه قوله: {قل هاتوا برهانكم} على ذلك عقلًا أو نقلًا. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذرًا من الفساد، وأما النقل فقوله: {هذا ذكر من معي} هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه اراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله: {وذكر من قبلي} صفة للقرآن ايضًا لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله: {بل أكثرهم} تنبيهًا على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولَكِنه يعاند، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع.
ثم قرر آي التوحيد خصوصًا قوله: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} على أحد التفسيرين بقوله: {وما أرسلناك} الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا} ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله: {سبحانه} ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله {مكرمون} مقربون {لا يسبقونه بالقول} أي بقولهم اي يتبعون قوله ولا يقولون شيئًا حتى يقوله: {وهم بأمره يعملون} فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وافعالهم {يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم} وقد مر تفسيره في طه وفي آية الكرسي {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} كقوله في طه {لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولًا} [طه: 109] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف {وهم من خشيته مشفقون} أي متوقعون من أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية. ويحتمل أن يقال: إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطًا كالحلس من خشية الله عز وجل. ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله: {ومن يقل منهم إني إله من دونه} فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله: {ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88] وفي قوله: {فذلك} دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك، وأراد بالظلم هاهنا الشرك، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق والأنفس قائلًا {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض} أي جماعة السموات وجماعة الأرض {كانتا تقًا ففتقناهما} الرتق بالسكون السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن، وقتادة أن المراد كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحًا توسطتهما فحصل الفتق، وقال أبو صالح ومجاهد: كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعًا وكذلك الأرضون. وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين، أن السموات والأرض كانتا رتقًا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر.
ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله: {والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع} [الطارق: 1112] ويؤيده قوله عقيبه {وجعلنا من الماء كل شيء حي} وقيل: إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم ثوب أخلاق وبرمة أعشار وقريب من هذا قول من قال: المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37] وقال أبو مسلم الاصفهاني: الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله: {فاطر السموات والأرض} [الأنعام: 14] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد. وهاهنا سؤال: وهو أن الكفار متى رأوهما رتقًا حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض}؟ [الكهف: 51] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الكشاف في الجواب: إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلابد للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه. قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} قال السكاكي صاحب المفتاح: اي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجسامًا مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف: إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله: {خلق الإنسان من علق} وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعديًا إلى مفعولين، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لابد له منه. وقال في التفسير الكبير: اللفظ وإن كان عامًا إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لابد أن يكون مشاهدًا محسوسًا ليكون أقرب إلى المقصود، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئًا من ذلك: قلت: فعلى هذا يكون قوله: {وجعلنا} داخلًا في حيز الاستفهام كأنه قيل: ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملًا للنبات أيضًا كقوله: {فأحيا به الأرض بعد موتها} [الجاثية: 5] قوله: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} قد مر تفسيره في أول النحل وباقي الآية كقوله في طه {وسلك لكم فيها سبلًا} [الاية: 53] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة {سبلًا} قدمت عليه فصارت حالًا عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله: {لتسلكوا منها سبلًا فجاجًا} [نوح: 20] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله: {وجعلنا} فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وروي عن ابن عمر أنه قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجًا وجعل فيها طرقًا. قال علماء الإسلام: ليس في قوله: {وجعلنا السماء سقفًا} إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله، ولَكِنه أطلق عليها اسم السيقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان: أي {محفوظًا} بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. {وهم عن آياتها معرضون} فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله: {كل في فلك} من مقلوب الكل. والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي: ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله: {يسبحون} والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء: هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والاتئام والنمو والذبول، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكنًا، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك.