فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ولما نفى تعالى الشريك مطلقًا، ثم مقيدًا بالولدية أتبعه التهديد على ادّعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع بقوله تعالى: {ومن يقل منهم} أي: من الخلائق حتى العباد المكرمين الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم {إنى إله من دونه} أي: الله أي غيره، والذي قال ذلك كما قال الجلال المحلي هو إبليس دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها {فذلك} أي: اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلًا {نجزيه جهنم} لظلمه {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الفظيع جدًّا {نجزي الظالمين} أي: المشركين، ثم إنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدّالة على وجود الصانع، فذكر منها ستة أنواع؛ النوع الأول: قوله تعالى: {أولم ير} أي: يعلم {الذين كفروا} علمًا هو كالمشاهدة {أن السموات والأرض كانتا} ولم يقل: كنَّ؛ لأنّ المراد جماعة السموات وجماعة الأرض {رتقًا} قال ابن عباس والضحاك: كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين زبدة واحدة {ففتقناهما} أي: فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة السد، والفتق الشق، قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحًا توسطتهما، ففتحهما بها، وقال مجاهد والسدّي: كانت السموات رتقًا طبقة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت رتقًا طبقة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين، وقال عكرمة وعطية: كانت السموات رتقًا لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فيكون المراد بالسموات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق أو السموات بأسرها على أن لها مدخلًا في الأمطار، وإنما قال تعالى: {رتقًا} على التوحيد، وهو نعت للسموات والأرض لأنه مصدر، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكنون من العلم بالنظر، أو باستفسار من العلماء، أو مطالعة الكتب، وقرأ ابن كثير ألم بغير واو بين الهمزة ولم، والباقون بالواو بين الهمزة واللام.
النوع الثاني من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا} أي: خلقنا بما اقتضته عظمتنا {من الماء} الماء هو الدافق وغيره {كل شيء حي} مجازًا في النبات وحقيقة في الحيوان فإن قيل: قد خلق الله تعالى بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة؟
أجيب: بأن هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، أي: أن أكثر ما خلق الله خلق من الماء وبقاؤه بالماء، وقيل: المراد بالماء ما نزل من السماء أو نبع من الأرض {أفلا يؤمنون} مع ظهور هذه الآيات الواضحات بتوحيدي، النوع الثالث من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي} أي: جبالًا ثوابت كراهة {أن تميد} أي: تتحرك {بهم} قيل: إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء، فأرساها الله وأثبتها بالجبال، النوع الرابع من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا فيها} أي: في الرواسي {فجاجًا} أي: مسالك واسعة سهلة، ثم أبدل منها {سبلًا} أي: مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد {لعلهم يهتدون} إلى منافعهم من ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية، النوع الخامس من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا السماء} وأفردها مع إرادة الجنس؛ لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا السماء الدنيا، ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن {سقفًا} أي: للأرض كالسقف للبيت {محفوظًا} أي: عن السقوط بالقدرة، وعن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بالمشيئة، وعن الشياطين بالشهب {وهم} أي: أكثر الناس {عن آياتها} أي: من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره، وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال من الجلال والجمال {معرضون} لا يتفكرون فيما فيها من السير والتدبير وغير ذلك، فيعلمون أنّ خالقها لا شريك له، النوع السادس من الدلائل: قوله تعالى: {وهو} أي: لا غيره {الذي خلق الليل والنهار} ثم أتبعهما أعظم آيتهما بقوله تعالى: {والشمس} التي هي أعظم آية النهار {والقمر} الذي هو أعظم آية الليل {كل} أي: من الشمس والقمر، وتابعه وهو النجوم {في فلك} أي: مستدير كالطاحونة في السماء {يسبحون} أي: يسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وللتشبيه به أتى بضمير جمع من يعقل والمراد بالفلك الجنس كقولك: كساهم الأمير حلة، وقلدهم سيفًا، أي: كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارًا، ولأن الغرض الدلالة على الجنس، ونزل لما قال الكفار: إن محمدًا سيموت: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} أي: البقاء في الدنيا {أفإن} أي: أيتمنون موتك، فإن {مت فهم الخالدون} فيها لا والله ليسوا بخالدين، فالجملة الأخيرة هي محل الاستفهام الإنكاري، وفي معنى ذلك قول فروة بن مسيك الصحابي:

وقل للشامتين بنا أفيقوا ** سيلقى الشامتون كما لقينا

وقرأ نافع وحفص والكسائي بكسر الميم والباقون بضمها، ثم بيّن تعالى أن أحدًا لا يبقى في هذه الدنيا بقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} أي: ذائقة مرارة الموت، أي: مرارة مفارقة روحها جسدها، فلا يفرح أحد، ولا يحزن لموت أحد بل يشتغل بما يهمه، وإليه الإشارة بقوله: {ونبلوكم} أي: نعاملكم معاملة المبتلي المختبر ليظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر، والمؤمن والكافر كما هو عندنا في عالم الغيب بأن نخالطكم {بالشر}، وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والألم، وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين {والخير} وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، والتمكن من المرادات، وقوله تعالى: {فتنة} مفعول له أي: لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، فبين تعالى أنّ العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم {وإلينا} بعد الموت لا إلى غيرنا {ترجعون} فنجازيكم بما فعلتم، ثم عطف تعالى على قوله: {وأسرّوا النجوى} قوله تعالى: {وإذا رآك} أي: وأنت أشرف الخلق {الذين كفروا إن} أي: ما {يتخذونك} أي: حال الرؤية {إلا هزوًا} أي: مهزوًا به يقولون إنكارًا واستصغارًا {أهذا الذي يذكر آلهتكم} أي: بسوء، والذكر يكون بالخير والشر، فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه وذكر العدوّ لا يكون إلا بسوء {وهم} أي: والحال أنهم {بذكر الرحمن} أي: إذا ذكر لهم الرحمن {هم كافرون} وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وهم الثانية للتأكيد، ونزل في استعجالهم العذاب {خلق الإنسان من عجل} كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه كقولك: خلق زيد من الكرم، فجعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له، ولذلك قيل: إنه على القلب أي: خلق العجل من الإنسان، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر، واستعجال الوعد، وقال سعيد بن جبير والسدّي: لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلًا إلى ثمار الجنة، فوقع، فقيل: خلق الإنسان من عجل، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، وقال قوم: معناه خلق الإنسان يعني آدم عليه السلام من تعجيل في خلق الله تعالى إياه لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس، قال مجاهد: فلما أحيا الروح رأسه قال: يارب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وغيرها، وقال قوم: من عجل أي: من طين قال الشاعر:
والنبع في الصخرة الصماء منبته ** والنخل ينبت بين الماء والعجل

ثم قال تعالى مهددًا للمكذبين: {سأريكم آياتي} أي: مواعيدي بالعذاب {فلا تستعجلون} أي: تطلبون أن أوجد العجلة بالعذاب، أو غيره فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم؛ لأنها إرادة الشيء قبل أوانه فإن قيل: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله: خلق الإنسان من عجل وقوله تعالى: {وكان الإنسان عجولًا}، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟
أجيب: بأن هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة، وقد أراهم بعض آياته وهو القتل ببدر.
{ويقولون} في استهزائهم {متى هذا الوعد} أي: بإتيان الآيات من الساعة ومقدّماتها وغيرها {إن كنتم} فيما توعدون به {صادقين} أي: عريقين في هذا الوصف يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء، ثم بيّن تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم بقوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا} وذكر المفعول به بقوله تعالى: {حين} أي: وقت {لا يكفون} أي: لا يدفعون {عن وجوههم} التي هي أشرف أعضائهم {النار} استسلامًا وعجزًا {ولا عن ظهورهم} التي هي أشدّ أجسامهم السياطَ {ولا هم ينصرون} أي: لا يمنعون من العذاب في القيامة وجواب لو محذوف والمعنى: لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا العذاب، ولا قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
{بل تأتيهم} أي: القيامة {بغتة} أي: فجأة {فتبهتهم} أي: تحيرهم، يقال: فلان مبهوت أي: متحير {فلا يستطيعون ردّها} أي: لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم منه {ولا هم ينظرون} أي: يمهلون لتوبة أو معذرة، ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك أتبعه ما يدل على أنّ الرسل في ذلك شرع واحد تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال عاطفًا على {وإذا رآك}: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} أي: كثيرين فلك بهم أسوة، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر الدال والباقون بالضم وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء ساكنة {فحاق} أي: نزل {بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك، ولما أعلم الله تعالى أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجهوهم النار ولا عن ظهورهم بسائر ما وصفهم به. أتبعه بأنهم في الدنيا أيضًا لولا أنّ الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل} يا أشرف المرسلين للمستهزئين {من يكلؤكم} أي: يحفظكم {بالليل والنهار من الرحمن} أي: من عذابه إن نزل بكم أي: لا أحد يفعل ذلك {بل هم عن ذكر ربهم} أي: القرآن {معرضون} لا يتفكرون فيه ولا يخطرونه ببالهم فضلًا أن يخافوا بأسه.
{أم} فيها معنى الهمزة للإنكار أي: الله {لهم آلهة} {موصوفة بأنها تمنعهم} مما يسوءهم {من دوننا} ليس لهم ذلك ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال تعالى: {لا يستطيعون} أي: الآلهة {نصر أنفسهم} فكيف ينصرون عابديهم {ولا هم} أي: الكفار {منّا} أي: من عذابنا {يصحبون} أي: يجارون يقال: صحبك الله أي: حفظك وأجارك.
{بل متعنا هؤلاء} أي: الكفار على حقارتهم {وآباءهم} من قبلهم بالنعم استدراجًا {حتى طال عليهم العمر} أي: امتدّت بهم أيام الدنيا بالروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنتهم واستمتاعهم فاغتروا بذلك وذلك طمع فارغ وأمل كاذب، وغلظ ورش اللام بخلاف عنه {أفلا يرون} أي: يعلمون علمًا هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر {أنّا نأت الأرض} أي: أرض الكفرة {ننقصها من أطرافها} بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها بقتل بعض ورّد بعض عن دينه إلى الإسلام فهم في نقص وأولياؤنا في زيادة {أفهم الغالبون} أي: مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا. ولما كرّر سبحانه وتعالى في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله تعالى: {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء المشركين {إنما أنذركم} أي: أخوّفكم {بالوحي} أي: بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أنه من قبل نفسي {ولا يسمع الصم الدعاء} أي: ممن يدعوهم {إذا ما ينذرون} أي: يخوّفون فهم لترك العمل بما سمعوه كالصم فإن قيل: الصم لا يسمعون دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل: إذا ما ينذزون؟
أجيب: بأنه وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا، أي: هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة وعلى التصامّ عن آيات الإنذار، وقرأ ابن عامر ولا تسمع بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم ونصب ميم الصم على الخطاب النبوي والباقون بالياء التحتية وفتح الميم ورفع ميم الصم وفي الدعاء، وإذا همزتان مختلفتان من كلمتين؛ الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء والباقون بتحقيق الهمزتين، وهذا في حال الوصل، فإن وقف على الهمزة الأولى فالجميع يبتدئون الثانية بالتحقيق، ويقف حمزة وهشام بإبدال الهمزة ألفًا مع المدّ والتوسط والقصر.
{ولئن مستهم} أي: أصابتهم {نفحة} أي: دفعة خفيفة وفي ذلك مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء والتاء الدالة على المرّة {من عذاب ربك} المحسن إليك بنصرك عليهم من الذي ينذرون به {ليقولنّ} وقد أذهلهم أمرها {يا ويلنا} الذي لا نرى بحضرتنا الآن غيره {إنّا كنّا ظالمين} دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقرّوا بالظلم، ثم ذكر تعالى بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل، فقال عاطفًا على قوله تعالى: {بل تأتيهم بغتة}:
{ونضع الموازين القسط} أي: ذوات العدل {ليوم القيامة} أي: فيه وإنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم ويجوز أن يرجع إلى الوزنات وقيل: وضع الموازين تمثيلًا لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله تعالى يضع ميزانًا حقيقة توزن به أعمال العباد وعن الحسن هو الميزان له كفتان ولسان، ويروى أنّ داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه ثم أفاق فقال: إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، قال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة فإن قيل: كيف توزن الأعمال مع أنها أعراض؟
أجيب: بأن فيه طريقين؛ أحدهما أن توزن صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة وصحائف السيئات في كفة والثاني أن توضع في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: هذه الآية يناقضها قوله تعالى في الكفار: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} [الكهف].
أجيب: بأن المراد منه أنا لا نكرمهم ولا نعظمهم {فلا تظلم نفس شيئًا} أي: من نقص حسنة أو زيادة سيئة {وإن كان} أي: العمل {مثقال} أي: وزن {حبة من خردل} أو أصغر منه وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وقرأ نافع برفع اللام على أنّ كان تامّة والباقون بالنصب وكذا في لقمان {أتينابها} أي: بوزنها ولما كان حساب الخلائق كلهم في كل ما صدرمنهم أمرًا باهرًا للعقل حقره عند عظمته فقال: {وكفى بنا} أي: بما لنا من العظمة {حاسبين} أي: محصين في كل شيء، فلا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أن لا يروج عليه شيء من خداع، ولا يقبل غلطًا ولا يضل ولا ينسى إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس وشوب منقص ووعد من جهة أنه مطلع على حسن قصد وإن دق وخفي. ولما تكلم سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض وذكر منها عشرًّا: القصة الأولى: قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهرون} أي: أخاه الذي سأل ربه أن يشدّ أزره به {الفرقان} أي: التوراة الفارقة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام {وضياء} بهاء لا ظلام معه أي: ليستضاء بها في ظلمات الحيرة والجهل وقرأ قنبل بعد الضاد بهمزة مفتوحة ممدودة والباقون بياء بعدها ألف {وذكرًا} أي: عظة {للمتقين} أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع وقيل الفرقان النصر وقيل فلق البحر ويراد بالضياء على هذين التوراة، ثم بيّن المتقين بوصفهم بقوله تعالى: {الذين يخشون} أي: يخافون خوفًا عظيمًا {ربهم} أي: المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان {بالغيب} عن الناس أي: في الخلاء عنهم أو بالغيب قبل أن يكشف لهم الحجاب في الجنة {وهم من الساعة} التي توضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ومباعد عن كل ضير {مشفقون} أي: خائفون لأنهم لقيامها متحققون ولنصب الموازين فيها عالمون، ولما ذكر تعالى فرقان موسى عليه السلام وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به حثهم على كتابهم هو أشرف منه بقوله تعالى: {وهذا} أي: القرآن وأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم {ذكر} أي: موعظة {مبارك} أي: كثير خيره {أنزلناه} على أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أفأنتم له منكرون} أي: جاحدون استفهام توبيخ. اهـ.