فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني:

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}.
[4] السعي بين الصفا والمروة:

.التحليل اللفظي:

{الصفا والمروة}: الصفا في أصل اللغة: الحجرُ الأملس، واشتقاقه من صفا إذا خلص، ومنه الصفوان وهو الحجر الأملس الصلب قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264]، والصفا جمعٌ مفردة صفاة قال جرير:
إنّا إذا قرع العدو صفاتنا ** لاقوالنا حجرًا أصمّ صلودا

قال المبرّد: الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من تراب أو طين.
وأما المروة: فقال الخليل: هي من الحجارة ما كان أبيض أملس صلبًا شديد الصلابة، وجمعها مرو مثل تمرة وتمرٌ قال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مَرْوةٌ ** بصفا المشاعر كلّ يوم يُقرع

قال الألوسي: وقد صار في العُرف علمين لموضعين جبلين معروفين بمكة.
{شَعَائِرِ الله}: جمع شعيرة وهي في اللغة العلامة، ومنه الشعار للعلامة، وأشعر الهدي أي جعل له علامة ليعرف أنه هديٌ قال الشاعر:
نقتّلهمْ جيلًا فجيلًا تراهُمُ ** شعائر قُربانَ بهمُ يتقرب

والمراد أن هذين الموضعين من علامات دين الله، ومن معالمه ومواضع عباداته.
والشعائر تطلق على كل معالم الدين التي تعبدنا الله تعالى بها كالطواف، والسعي والأذان الخ.
{حَجَّ}: الحجّ في اللغة: القصدُ وإكثار التردّد إلى الشيء، قال الشاعر:
ألم تعلمي يا أمّ عمرةَ أنني ** تخاطأني ريبُ الزمان لأكبرا

وأشهد من عوفٍ حلولًا كثيرة ** يحجّون بيتَ الزّبرقان المزغفرا

يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته.
وفي الشرع: هو قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة وسائر الأعمال.
{اعتمر}: العمرة في اللغة: الزيارة، والمعتمر: الزائر لأنه يعمر المكان بزيارته له قال الشاعر:
لقد سَمَا ابنُ مَعْمرٍ حين اعتمر

وفي الشرع: زيارة البيت لأداء نُسك معين من الطواف، والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير. وليس في العمرة وقوف بعرفة، ولا مبيت بمزدلفة، ولا رمي جمار إلى آخر ما هو معروف في الفقه.
{جُنَاحَ}: الجناح بالضم: الميلُ إلى الإثم، وقيل: هو الإثم نفسه، سمي جناحًا لأنه ميل إلى الباطل.
قال في لسان العرب: جنح: مال. وجنحت الناقة: إذا مالت على أحد شقيها، وجنحت السفينة إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض.
قال ابن الأثير: وقد تكرر الجناح في الحديث فأين ورد فمعناه الإثم والميل.
والمعنى: لا إثم عليكم ولا حرج ولا تضييق في السعي بين الصفا والمروة.
{يَطَّوَّفَ}: أي يتطوّف أدغمت التاء في الطاء، مثل {المزمّل} و{المدّثر} أصله المتزمل والمتدثر، وطاف وأطاف بمعنى واحد.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: إن الصفا والمروة- أيها المؤمنون- من علامات دين الله، التي جعلها الله لعباده معلمًا ومشعرًا، يعبدونه عندها بالدعاء، والذكر، وسائر أنواع القربات.
والسعيُ بين هذين الجبلين شعيرة من شعائر الدين، ومنسك من مناسك الحج لا يصح التفريط فيه، لأنه تشريع الحكيم العليم، الذي أمر به خليله إبراهيم عليه السلام، حين سأل ربه أن يريه مناسك الحج {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} [البقرة: 128].
فمن قصد منكم- أيها المؤمنون- بيت الله العتيق للحج، أو قصده للزيارة، فلا يتحرجنّ من الطواف بينهما، إذ لا إثم عليه ولا حرج لأنه إنما يسعى لله، امتثالًا لأمره، وطلبًا لرضاه، والمشركون يطوفون للأصنام، وأنتم تطوفون لله ربّ العالمين. فلا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين، فهم يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تطوفون بهما إيمانًا وتصديقًا لرسولي، وطاعة لأمري، فلا إثم ولا جناح عليكم في الطواف بهما، ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكر له طاعته، ومجازيه عليها خير الجزاء يوم الدين.

.سبب النزول:

أ- عن عائشة رضي الله عنها أن عُروة بن الزبير قال لها: أرأيتِ قول الله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحدٍ جُناحًا ألاّ يطّوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت {فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما} ولكنها إنما نزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله: إنّا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله} قالت عائشة ثمّ قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحدٍ أن يدع الطواف بهما.
ب- وأخرج البخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال: كنّا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله}.

.وجوه القراءات:

قرأ الجمهور: {ومن تَطوّعَ} بالتاء وفتح العين على أنه ماضٍ من التطوع، وقرأ حمزة والكسائي {ومن يَطوّعْ} بالياء مجزوم على أنه فعل مضارع إلا أنّ التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله}.
قال العكبري: في الكام حذف مضاف تقديره: إن سعي الصفا، وألف الصفا مبدلة عن واو لقولهم في تثنيته صفوان و{من شعائر الله} خبر إنّ.
2- قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} {مَنْ}: اسم موصول بمعنى الذي مبتدأ، وجملة {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} خبر المبتدأ، وأجاز بعضهم أن تكون {من} شرطية والله أعلم.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
قال الإمام الفخر: اعلم أن تعلّق هذه الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى بيّن أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة، ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، بإحياء شرائع إبراهيم ودينه، وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم كما في قصة بناء الكعبة، وسعي هاجر بين الجبلين، فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية.
اللطيفة الثانية:
السعيُ بين الصفا والمروة إمّا فرض أو واجب، أو مسنون، فكيف نفى الله تعالى الجناح الإثم عمن سعى بينهما؟
والجواب: إنه كان على الصفا صنم يقال له: إساف وعلى المروة صنم يقال له: نائلة كما قال ابن عباس وكان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما، فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية، وتحرجوا من الطواف لهذا السبب، فنزلت الآية تدفع الحرج عنهم، لأنهم إنما يسعون لله لا للأصنام.
اللطيفة الثالثة:
الشكر معناه مقابلة النعمة والإحسان، بالثناء والعرفان، وهذا المعنى محال على الله، إذ ليس لأحد عنده يد ونعمة حتى يشكره عليها، فقوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} محمول على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين.
قال العلامة أبو السعود: المعنى أنه تعالى مجازٍ له على الطاعة، عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإحسان على العباد فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرًا، وسمى الله تعالى نفسه شاكرًا، على سبيل المجاز.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل السعي بين الصفا والمروة فرض أو تطوع؟
اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال:
1- القول الأول: أنه ركن من أركان الحج، من تركه يبطل حجه وهو مذهب الشافعية والمالكية وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو مروي عن ابن عمر، وجابر، وعائشة من الصحابة.
2- القول الثاني: أنه واجب وليس بركن، وإذا تركه وجب عليه دم، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري.
3- القول الثالث: أنه تطوع سنّة لا يجب بتركه شيء، وهو مذهب ابن عباس، وأنس، ورواية عن الإمام أحمد.
دليل المذهب الأول:
استدل القائلين بأن السعي ركن وهم الجمهور بما يلي:
أ- قوله عليه الصلاة والسلام: «اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي».
ب- ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سعي في حجة الوداع، فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله} فبدأ بالصفا وقال: «ابدءوا بما بدأ الله به» ثم أتمّ السعي سبعة أشواط وأمر الصحابة أن يقتدروا به فقال: «خذوا عني مناسككم» والأمر للوجوب فدل على أنه ركن.
ج- حديث عائشة: لعمري ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة.
د- وقالوا: إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، وهو نسك في الحج والعمرة، فكان ركنًا فيهما كالطواف بالبيت.
دليل المذهب الثاني:
واستدلّ أبو حنيفة والثوري على أنه واجب وليس بركن بما يلي:
أ- إن الآية الكريمة رفعت الإثم عمّن تطّوف بهما {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ورفعُ الجناح يدل على الإباحة لا على أنه ركن، ولكنّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم جعله واجبًا فصار كالوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، وطواف الصدر، يجزئ عنه دم إذا تركه.
ب- واستدل بما روى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله: جئت من جبل طي، ما تركتُ جبلًا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «من صلى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه، وقضى تفثه».
ووجه الاستدلال في الحديث من وجهين:
أحدهما: إخباره بتمام الحج وليس فيه السعي بين الصفا والمروة.
والثاني: أنه لو كان من فروضه وأركانه لبيّنه للسائل لعلمه بجهله بالحكم.
دليل المذهب الثالث:
واستدل من قال بأنه تطوع وليس بركنٍ ولا واجب بما يلي:
أ- قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فبيّن أنه تطوع وليس بواجب، فمن تركه لا شيء عليه عملًا بظاهر الآية.
ب- حديث: «الحج عرفة» قالوا: فهذا الحديث يدل على أنّ من أدرك عرفة فقد تمّ حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، العمل ترك به في بعض الأشياء، فبقي العمل معمولًا به في السعي.
قال ابن الجوزي: واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أنّ من ترك السعي لم يجزه حجه، ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمدًا أو سهوًا، ولا ينبغي أن يتركه، ونقل الميموني أنه تطوع.
الترجيح: ورجّح صاحب المغني المذهب الثاني وقال: هو أولى لأن دليل من أوجبه دلّ على مطلق الوجوب، لا على كونه لا يتم الواجب إلا به، وقول عائشة مُعَارَضٌ بقول من خالفها من الصحابة.
أقول: الصحيح قول الجمهور لأن النبي عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة وقال: «خذوا عني مناسككم» والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واجب ودعوى من قال: إنه تطوع أخذًا بالآية غير ظاهر لأن معناها كما قال الطبري: أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى والله أعلم.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- الصفا والمروة من شعائر دين الله وأعلام طاعته التي تعبدنا الله بها.
2- السعي بين الصفا والمروة إحياء لحادثة تاريخية وقعت لأم إسماعيل عليها السلام.
3- تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما.
4- السعي واجب على من حج بيت الله العتيق أو زاره للعمرة.
5- التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان.
6- الله شاكر لعباده يثيب الطائع على طاعته ويجزيه عليها خير الجزاء.