فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل في {فطرهن} عائد على التماثيل.
قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى.
وقال ابن عطية: {فطرهن} عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل.
وقال غير {فطرهن} أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله: {قالتا أتينا طائعين} وقوله: صلى الله عليه وسلم: «أطلت السماء وحق لها أن تئط» انتهى.
وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلًا أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} والضمير عائد على الأربعة الحرم، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و{من} للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود.
و{على ذلكم} متعلق بمحذوف تقديره {وأنا} شاهد {على ذلكم من الشاهدين} أو على جهة البيان أي أعني {على ذلكم} أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في {إني لكما لمن الناصحين} وبادرهم أولًا بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال: {وتالله لأكيدن أصنامكم} وقرأ الجمهور {وتالله} بالتاء.
وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين التاء والباء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمرًا مقنوطًا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصًا في زمن نمرود مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولَكِن:
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا

انتهى.
أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلًا لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة، ولا يقوم على ذلك دليل وقد رد هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصلًا لآخر.
وأما قوله: إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم.
والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله: {قال بل ربكم}.
وقيل: قال ذلك سرًّا من قومه وسمعه رجل واحد.
وقيل: سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين. وقيل: اثنين وسبعين.
وقرأ الجمهور {تولوا مدبرين} مضارع ولّى.
وقرأ عيسى بن عمر {تولوا} فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين.
والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله: {فتولوا عنه مدبرين} ومتعلق {تولوا} محذوف أي إلى عيدكم.
وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعامًا خرجوا به معهم، وقالوا: لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال: إني سقيم.
وقال الكلبي: كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضًا فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه: إني أشتكي غدًا وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره، وقال: {وتالله لأكيدن} إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى.
وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام {فجعلهم جذاذًا} قال ابن عباس: حطامًا.
وقال الضحاك: أخذ من كل عضوين عضوًا.
وقيل: وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان، فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه.
وقيل: علقه في يده.
وقرأ الجمهور {جُذاذًا} بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحطام والرفات قاله أبو حاتم.
وقال اليزيدي {جذاذًا} بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة.
وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام.
وقيل: الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين.
وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع.
وقرأ يحيى بن وثاب: جذاذًا بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد.
وقرئ جُذَذًا بضم الجيم وفتح الذال مخففًا من فعل كسر وفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب، أو جمع جذة كقبة وقبب.
وأتى بضمير من يعقل في قوله: {فجعلهم} إذ كانت تعبد وقوله: {إلا كبيرًا لهم} استثناء من الضمير في {فجعلهم} أي فلم يكسره، والضمير في {لهم} يحتمل أن يعود على الأصنام وأن يعود على عباده، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيرًا في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل، والضمير في {إليه} عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجيًا منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه.
قال الزمخشري: وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله: {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم} وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولَكِن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي.
قال الزمخشري: ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحًا والفأس على عاتقك قال: هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالًا، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضًا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمرعظيم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنْقُصُهَا مِنْ أطرافها أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}.
لما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلًا إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله، لا من مانع يمنعهم من الهلاك، ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءَابَاءهُمْ} يعني: أهل مكة متعهّم الله بما أنعم عليهم {حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} فاغترّوا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك، فرد سبحانه عليهم قائلًا: {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أي أفلا ينظرون فيرون {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي أرض الكفر ننقصها بالظهور عليها من أطرافها فنفتحها بلدًا بعد بلد وأرضًا بعد أرض، وقيل: ننقصها بالقتل والسبي، وقد مضى في الرعد الكلام على هذا مستوفى، والاستفهام في قوله: {أَفَهُمُ الغالبون} للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها؟ وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون.
{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحي} أي أخوّفكم وأحذركم بالقرآن، وذلك شأني وما أمرني الله به، وقوله: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء} إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، أو من جهة الله تعالى.
والمعنى: أن من أصمّ الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء.
قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميفع {ولا يسمع} بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله.
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم، أي إنك يا محمد لا تسمع هؤلاء.
قال أبو على الفارسي: ولو كان كما قال ابن عامر لكان: إذا ما تنذرهم، فيحسن نظم الكلام، فأما {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} فحسن أن يتبع قراءة العامة.
وقرأ الباقون بفتح الياء وفتح الميم ورفع الصم على أنه الفاعل.
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ} المراد بالنفحة: القليل، مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان، ومنه قول الشاعر:
وعمرة من سروات النساء ** تنفَّحُ بالمسك أردانها

وقال المبرد: النفحة: الدفعة من الشيء التي دون معظمه، يقال: نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة.
وقيل: هي النصيب، وقيل هي الطرف.
والمعنى متقارب، أي ولئن مسهم أقلّ شيء من العذاب {لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم.
{وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} الموازين جمع ميزان، وهو يدل على أن هناك موازين، ويمكن أن يراد ميزان واحد، عبر عنه بلفظ الجمع، وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية، وقد مضى في الأعراف، وفي الكهف في هذا ما يغني عن الإعادة.
والقسط: صفة للموازين.
قال الزجاج: قسط: مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط وموازين قسط، والمعنى: ذوات قسط، والقسط: العدل.
وقرئ: {القصط} بالصاد والطاء، ومعنى {لِيَوْمِ القيامة} لأهل يوم القيامة.
وقيل: اللام بمعنى في، أي في يوم القيامة {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر برفع {مثقال} على أن كان تامة، أي إن وقع أو وجد مثقال حبة.
وقرأ الباقون بنصب المثقال على تقدير: وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة، كذا قال الزجاج.
وقال أبو على الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة.
قال الواحدي: وهذا أحسن لتقدّم قوله: {فلا تظلم نفس شيئًا}، ومثقال الشيء ميزانه، أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر {أَتَيْنَا بِهَا} قرأ الجمهور بالقصر، أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها، و{بها} أي بحبة الخردل.
وقرأ مجاهد وعكرمة: {آتينا} بالمدّ على معنى: جازينا بها، يقال: آتى يؤاتي مؤاتاة جازى {وكفى بِنَا حاسبين} أي كفى بنا محصين.
والحسب في الأصل معناه: العدّ؛ وقيل: كفى بنا عالمين، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه، وقيل: كفى بنا مجازين على ما قدّموه من خير وشرّ.
ثم شرع سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقًا بقوله: {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمُ} [الأنبياء: 7] فقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} المراد بالفرقان: هنا: التوراة، لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام، وقيل: الفرقان هنا هو: النصر على الأعداء كما في قوله: {وما أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41].
قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية، ومعنى {وضياء}: أنهم استضاؤوا بها في ظلمات الجهل والغواية، ومعنى {وذكرا} الموعظة، أي أنهم يتعظون بما فيها، وخصّ المتقين لأنهم الذين ينتفعون بذلك، ووصفهم بقوله: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} لأن هذه الخشية تلازم التقوى.
ويجوز أن يكون الموصول بدلًا من المتقين أو بيانًا له، ومحل {بالغيب} النصب على الحال، أي يخشون عذابه وهو غائب عنهم، أو هم غائبون عنه لأنهم في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وقرأ ابن عباس وعكرمة: {ضياء} بغير واو.
قال الفراء: حذف الواو والمجيء بها واحد، واعترضه الزجاج بأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد {وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} أي وهم من القيامة خائفون وجلون، والإشارة بقوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} إلى القرآن.
قال الزجاج: المعنى: وهذا القرآن ذكر لمن تذكر به وموعظة لمن اتعظ به، والمبارك كثير البركة والخير.
وقوله: {أنزلناه} صفة ثانية للذكر، أو خبر بعد خبر، والاستفهام في قوله: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} للإنكار لما وقع منهم من الإنكار، أي كيف تنكرون كونه منزلًا من عند الله مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشد اللائق به وأمثاله من الرسل، ومعنى {مِن قَبْلُ}: أنه أعطى رشده قبل إيتاء موسى وهارون التوراة.
وقال الفراء: المعنى: أعطيناه هداه من قبل النبوّة، أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا أكثر المفسرين، وبالأول قال أقلهم {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أنه موضع لإيتاء الرشد، وأنه يصلح لذلك، والظرف في قوله: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ} متعلق بـ آتينا أو بمحذوف، أي اذكر حين قال، وأبوه هو آزر {وَقَوْمِهِ} نمروذ ومن اتبعه، والتماثيل: الأصنام.