فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أولًا؟ فقيل قالوا: {ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا قَالُواْ ءأَنْتَ إبراهيم} اقتصارًا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان، والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه السلام على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم: {فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا} وأيضًا.
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل.
واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام.
وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام قد حلف بقوله: {تالله لاكِيدَنَّ أصنامكم} [الأنبياء: 57] الخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا {مَن فَعَلَ هذا} الخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام.
ولقائل أن يقول: إن الحلف كما قاله كثير كان سرًّا أو سمعه رجل واحد، وقوله سبحانه: {قَالُواْ سَمِعْنَا} [الأنبياء: 60] الخ مع قوله تعالى: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا} [الأنبياء: 59] الخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون {أانت فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] كلام ذلك البعض.
وقد يقال: إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر فاأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل.
وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكًا تعريضيًا يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولًا في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلًا بجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسنادا مجازيًا عقليًا باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا، وإنما لم يكسره وإن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة، وتسمية ذلك كذبًا كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقيل في توجيه ذلك أيضًا: إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة.
ويحكى أنه عليه السلام قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها، قيل: فيكون حينئذٍ تمثيلًا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام، وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنًا فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له: بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك.
وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائرًا بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثًا.
ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في {أأنت فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري، نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا، وقيل إن {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} جواب قوله: {إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} معنى وقوله: {فاسألوا} جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه

فيكون كون الكبير فاعلًا مشروطًا بكونهم ناطقين ومعلقًا به وهو محال فالمعلق به كذلك، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر، وقيل: إن الكلام تم عند قوله: {فَعَلَهُ} والضمير المستتر فيه يعود على {فَتًى} [الأنبياء: 60] أو إلى إبراهيم، ولا يخفى أن كلًا من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذٍ والمناسب في الجواب نعم، ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزى إلى الكسائي أنه جعل الوقف على {فَعَلَهُ} أيضًا إلا أنه قال: الفاعل محذوف أي فعله من فعله.
وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه.
وقيل يجوز أن يقال: أنه أراد بالحذف الإضمار، وأكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء، وقيل الوقف على {كَبِيرُهُمْ} وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان، ومثله أن يراد به الله عز وجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها، ويعزى للفراء أن الفاء في {فَعَلَهُ} عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف.
واستدل عليه بقراءة ابن السميقع {فَعَلَهُ} مشدد اللام، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا التخريج، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها، وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلًا وأن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وإنما قال عليه السلام: {إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضًا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل، وقد حصل ذلك حسبما نطق به {فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا.
{فَقَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه السلام وعدو لكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه السلام حيث كان متضمنًا التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه السلام والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل، وابن إسحاق، والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام.
{ثُمَّ نُكِسُواْ على} أصل النكس قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله، ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد، وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح.
وذكر الزمخشري على ما في الكشف في المراد به هنا ثلاثة أوجه، الأول: أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الاعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلًا أن تكون في معرض الإلهية فمعنى {رُءوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما اتخذناها آلهة مع العلم بالوصف، والدليل عليه جواب إبراهيم عليه السلام الآتي، والثاني: أنه الرجوع عن الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم: {مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] وقولهم: {أأنت فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] إلى الجدال عنه بالحق في قولهم {لَقَدْ عَلِمْتَ} لأنه نفى للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للإلهية وسمي نكسًا وإن كان حقًّا لأنه ما أفادهم عقدًا فهو نكس بالنسبة إلى ما كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا.
وفي لباب التفسير ما يقرب منه مأخذًا لَكِنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} [الأنبياء: 64] إلى الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} والثالث: أن النكس مبالغة في إطراقهم رؤوسهم خجلًا وقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} الخ رمى عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة، قال في الكشف.
وهذا وجه حسن وكذلك الأول، وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حاتم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين، وقال مجاهد: {نُكِسُواْ على رُءوسِهِمْ} ردت السفلة على الرؤساء فالمراد بالرؤوس الرؤساء، والأظهر عندي الوجه الثالث، وأيًا ما كان فالجار متعلق بـ نكسوا.
وجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالًا، والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين {لَقَدِ} الخ، والخطاب في {عَلِمَتِ} لإبراهيم عليه السلام لا لكل من يصلح للخطاب، والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما يوهمه صيغة المضارع، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف {نُكِسُواْ}، وقرأ رضوان بن عبد المعبود {نُكِسُواْ} بتخفيف الكاف مبنيًا للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل: رجعوا على رؤسائهم بناءًا على ما يقتضيه تفسير مجاهد.
{قَالَ} عليه السلام مبكتًا لهم {أَفَتَعْبُدُونَ} أي أتعلمون ذلك فتعبدون {مِن دُونِ الله} أي مجاوزين عبادته تعالى: {مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا} من النفع، وقيل: بشيء {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعًا.
{أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق، وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة، واللام لبيان المتأفف له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكروا فلا تعقلون قبح صنيعكم. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} يعني الذي تركه لم يكسره. فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله: {فَاسْأَلُوهُمْ} أي: يجيبوكم: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أي: والأظهر عجزهم الكليّ المانع من القول بإلهيتها. والقول فيه، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة، وتبكيتهم. ولقائل أن يقول: عاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها والفعل كما يسند إلى مباشره، يسند إلى الحامل عليه. فيكون تمثيلًا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم، لإشراكهم بعبادته الأصنام. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. فكأنه قيل: فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم، والقضية ممكنة. وأظهر هذه الأوجه هو الأول. وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه الفصل في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي، وعبارته: وأما قوله عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار. فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر. وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم. ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله. إذ الكذب، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وقصدًا إلى تحقيق ذلك. وجليٌّ أن مراده عليه السلام، على كلٍّ، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أي: إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا.
قال أبو السعود: وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضًا، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب، وأن عدم نطقهم أظهر، وتبكيتهم بذلك أدخل. وقد حصل ذلك أولًا حسبما نطق به قوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: فراجعوا عقولهم، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر، والمراد بالنفس النفس الناطقة، والرجوع إليها عبارة عما ذكر: {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي: بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع، لا مَن كسرها، فَلِمَ تنسبوه إلى الظلم بقولكم: {إَنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي: حياءً من نقصهم، وخضوعًا وانفعالًا من إبراهيم، قائلين: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} أي: ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟.
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
تنبيه:
ذكر في الكشاف في قوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أربعة أوجه. وحاصله كما في العناية- أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله. فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها، مع عجزها فضلًا عن كونها في معرض الألوهية. فقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ} معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به. والدليل عليه قوله: {أَفَتَعْبُدُونَ} الخ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية، وسمي نكسًا وإن كان حقًّا، لأنه ما أفادهم مع الإصرار. ولَكِنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل. أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلًا وقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم. أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة {أُفٍّ} صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر. وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة. قال الزمخشري: أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ولما عجزوا عن المحاجّة أخذوا في المضارّة، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته. اهـ.