فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{قَالُواْ حَرّقُوهُ}.
وروي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من إعراب فارس أي من باديتها فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: {إن كنتم فاعلين} تحريض كما تقول أعزم على كذا إن كنت عازمًا، وروي أنهم لما أجمع رأيهم على تحريقه حبسه نمرود الملك وأمر بجمع الحطب فجمع في مدة أشهر وكان المريض يجعل على نفسه نذرًا إن هو برىء أن يجمع كذا وكذا حزمة حتى اجتمع من الحطب مما تبرع به الناس ومما جلب الملك من أهل الرساتين كالجبل من الحطب ثم أضرم نارًا فلما أرادوا طرح إبراهيم فيه لم يقدروا على القرب منه، فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم أنا أصنع لكم آلة يلقى بها في النار، فعلمهم صنعة المنجنيق، ثم أخرج إبراهيم عليه السلام فشد رباطًا ووضع في كفه المنجنيق ورمي به فوقع في النار وقد قيل لها {كوني بردًا وسلامًا} فاحترق الحبل الذي ربط به فقط.
وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال له ألك حاجة فيروى أنه قال أما إليك فعلا.
ويروى أنه قال إني خليل وإنما أطلب حاجتي من خليلي لا من رسوله فقال الله تعالى: يا إبراهيم قطعت الواسطة بيني وبينك لأقطعنها بيني وبين النار، يا نار.
وروي أنه حين خوطبت النار خمدت كل نار في الأرض.
وروي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم.
وروي أن الوزغة كانت تنفخ عليه لتضرم وكذلك البغل.
وروي أن العضرفوط والخطافة والضفدع كانوا ينقلون الماء لتطفأ النار فأبقى الله على هذه الوقاية وسلط الله على تلك الأخرى النوائب والأيدي وقال بعض العلماء إن الله تعالى لو لم يقل {وسلامًا} لهلك إبراهيم من برد النار.
قال القاضي أبو محمد: وقد أكثر الناس في قصص حرق إبراهيم وذكروا تحديد مدة بقائه في النار وصورة بقائه ما رأيت اختصاره لقلة صحته، والصحيح من ذلك أنه ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه {بردًا وسلامًا} فخرج منها سالمًا وكانت أعظم آية.
وروي انهم قالوا إنها نار مسحورة لا تحرق فرموا فيها شيخًا منهم فاحترق.
وروي أن العيدان أينعت وأثمرت له هنالك ثمارها التي كانت أُصولها، وقوله: {وسلامًا} معناه وسلامة، وقال بعضهم هي تحية من الله تعالى لإبراهيم ع: وهذا ضعيف وكان الوجه أن يكون مرفوعًا، والكيد هو ما أرادوه من حرقه وكانوا في خسارة من كفرهم وغلبته لهم وحرق الشيخ الذي جربوا به النار.
وروي أن الملك بنى بناء واطلع منه على النار فرأى إبراهيم عليه السلام ومعه ناس فعجب وسأل هل طرح معه أحد فقيل له فناداه فقال من أولئك فقال هم ملائكة ربي ع والمروي في هذا كثير غير صحيح.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}.
روي أن إبراهيم عليه السلام لما أخرج من النار أحضره النمرود وكلمه ثم ختم الله عليه بالكفر فلج وقال لإبراهيم في بعض قوله يا إبراهيم أين جنود ربك الذي تزعم، فقال له سيريك فعل أضعف جنوده، فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من بعوض، فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم حتى كانت العظام تلوح بيضًا، ودخلت منها بعوضة في رأس نمرود فكان رأسه يضرب بالعيدان ودام يعذبه بها زمانًا طويلًا وهلك منها وخرج إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوط من تلك الأرض مهاجرين وهي كوثا من العراق ومع إبراهيم ابنة عمه سارة زوجته، وفي تلك السفرة لقى الجبار الذي رام أخذها واختلف الناس في {الأرض} التي بورك فيها ولجأ إليها إبراهيم ولوط عليهما السلام، فقالت فرقة هي مكة وذكروا قول الله تعالى: {للذي ببكة مباركًا} [آل عمران: 96] وقال الجمهور من أرض الشام وهي الأرض التي بارك فيها أما من جهة الآخرة فبالنبوءة وأما من جهة الدنيا ففي أطيب بلاد الله أرضًا وأعذبها ماء وأكثرها ثمرة ونعمة وهو الموضع المعروف بسكنى إبراهيم وعقبه.
وروي أنه ليس في الأرض ماء عذب إلا وأصله وخروجه من تحت صخرة بيت المقدس ع وهذا ضعيف وهي أرض المحشر وبها مجمع الناس وبها ينزل عيسى ابن مريم وبها يهلك المسيح الدجال.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال يوما في خطبته: «إنه كان بالشام جند وبالعراق جند وباليمن جند فقال رجل يا رسول الله خر لي فقال عليك بالشام فإن الله تعالى قد تكفل لي الشام وأهله فمن بقي فليلحق ما منه وليس بعدره»، وقال عمر لكعب الأحبار ألا تتحول إلى المدينة، فقال يا أمير المؤمنين إني أجد في كتاب الله تعالى المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
وروي أن إبراهيم ولوطًا هاجرا من كوثا ومرا بمصر وليست بالطريق ولَكِنهم نكبوا خوف الإتباع حتى جاؤوا الشام فنزل إبراهيم السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام ونزل لوط بالمؤتفكة، و{إسحاق} بن إبراهيم و{يعقوب} ولد إسحاق والنافلة العطية كما تقول نفلني الإمام ونافلة الطاعة كأنها عطية من الله تعالى لعباده يثيبهم عليها، وقالت فرقة الموهوب {إسحاق} والنافلة {يعقوب} والأول أبين، و{يهدون} معناه يرشدون غيرهم والإقام مصدر وفي هذا نظر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وانصروا آلهتكم} أي: بتحريقه، لأنه يَعيبها {إِن كنتم فاعلين} أي: ناصريها.
الإشارة إِلى القصة:
ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إبراهيم عليه السلام في بيت ثم بنَوا له حَيْرًا طول جداره ستون ذراعًا إِلى سفح جبل منيف، ونادى منادي الملك: أيها الناس احتطبوا لإبراهيم، ولا يتخلفنَّ عن ذلك صغير ولا كبير، فمن تخلَّف أُلقي في تلك النار، ففعلوا ذلك أربعين ليلة، حتى إِن كانت المرأة لتقول: إِن ظفرتُ بكذا لأحتطبنَّ لنار إبراهيم، حتى إِذا كان الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحَيْر وقذفوا فيه النار، فارتفع لهبها، حتى إِن كان الطائر ليمرُّ بها فيحترق من شدة حرِّها، ثم بنَوا بنيانًا شامخًا، وبنَوا فوقه منجنيقًا، ثم رفعوا إبراهيم على رأس البنيان، فرفع إبراهيم رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل؛ فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربَّنا إبراهيم يُحرَق فيكَ، فائذن لنا في نصرته؛ فقال: أنا أعلمُ به، وإِن دعاكم فأغيثوه؛ فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وقيل: ست وعشرين، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل.
فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألكَ حاجة؟ قال: أمّا إِليك فلا، قال جبريل: فسل ربَّك، فقال: «حسبي من سؤالي علْمُه بحالي»، فقال الله عز وجل: {يا نارُ كوني بَرْدًا وسلامًا على إبراهيم}، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إِلا طُفئت وظنَّت أنها عُنيت.
وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها.
وقال ابن عباس: لو لم يُتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم من بردها.
قال السدي: فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم فأجلسوه على الأرض، فإذا عين من ماءٍ عذْب، وورد أحمر، ونرجس.
قال كعب ووهب: فما أحرقت النار من إبراهيم إِلا وَثاقه، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام، وقال غيرهما: أربعين أو خمسين يوما، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه.
وإِن آزر أتى نمرود فقال: أئذن لي أن أُخرِج عظام إبراهيم فأدفنها، فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنُقب، فإذا إبراهيم في روضة تهتزُّ وثيابه تندى، وعليه القميص وتحته الطنفسة والملَك إِلى جنبه، فناداه نمرود: يا إبراهيم، إِن إلهك الذي بلغتْ قُدرته هذا لكبيرٌ، هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: مَن الذي رأيتُ معك؟ قال ملَك أرسله إلى ربِّي ليؤنسني، فقال نمرود: إِني مقرِّب لإِلهك قربانًا لِما رأيتُ من قدرته، فقال: إِذن لا يقبل الله منكَ ما كنتَ على دينك، فقال: يا إبراهيم، لا أستطيع ترك ملكي، ولَكِن سوف أذبح له، فذبح القربان وكفَّ عن إبراهيم.
قال المفسرون: ومعنى {كُوني بَرْدًا} أى: ذات برد {وسلامًا} أي: سلامة.
{وأرادوا به كيدًا} وهو التحريق بالنار {فجعلناهم الأخسرين} وهو أن الله تعالى سلَّط البعوض عليهم حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم، ودخلت واحدة في دماع نمرود حتى أهلكته، والمعنى: أنهم كادوه بسوء، فانقلب السوء عليهم.
قوله تعالى: {ونجَّيناه} أي: من نمرود وكيده {ولوطًا} وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارح، وكان قد آمن به، فهاجرا من أرض العراق إِلى الشام.
وكانت سارة مع إبراهيم في قول وهب.
وقال السدي: إِنما هي إبنة ملك حرَّان، لقيها إبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم.
فأما قوله تعالى: {إِلى الأرض التي باركنا فيها}، ففيها قولان:
أحدهما: أنها أرض الشام، وهذا قول الأكثرين.
وبَرَكتها: أن الله عزّ وجل بعث أكثر الأنبياء منها، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار.
والثاني: أنها مكة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والأول أصح.
قوله تعالى: {وَوَهبْنا له} يعني: إبراهيم {إِسحاق ويعقوب نافلة}، وفي معنى النافلة قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الزيادة، والمراد بها: يعقوب خاصة، فكأنه سأل واحدًا، فأُعطي اثنين، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والفراء.
والثاني: أن النافلة بمعنى العطية، والمراد: بها إِسحاق ويعقوب، وهذا مذهب مجاهد، وعطاء.
قوله تعالى: {وكُلًا جعلنا صالحين} يعني: إبراهيم وإِسحاق ويعقوب.
قال أبو عبيدة: كُلٌّ يقع خبره على لفظ الواحد، لأن لفظه لفظ الواحد، ويقع خبره على لفظ الجميع، لأن معناه معنى الجميع.
قوله تعالى: {وجعلناهم أئمة} أي: رؤوسًا يُقتدى بهم في الخير {يَهْدون بأمرنا} أي: يَدْعون الناس إِلى ديننا بأمرنا إِيَّاهم بذلك {وأوحينا إِليهم فعل الخيرات} قال ابن عباس: شرائع النبوَّة.
وقال مقاتل: الأعمال الصالحة.
{وإِقامَ الصلاة} قال الزجاج: حذفُ الهاء من إِقامة الصلاة قليلٌ في اللغة، تقول: أقام إِقامة، والحذف جائز، لأن الإضافة عوض من الهاء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ}.
لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغَشْم والغلبة وقالوا حرّقوه.
روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من إعراب فارس؛ أي من باديتها؛ قاله ابن عمر ومجاهد وابن جريج.
ويقال: اسمه هيزر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وقيل: بل قاله ملكهم نمروذ.
{وانصروا آلِهَتَكُمْ} بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها.
وجاء في الخبر: أن نمروذ بنى صرحًا طوله ثمانون ذراعًا وعرضه أربعون ذراعًا.
قال ابن إسحاق: وجمعوا الحطب شهرًا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدّة وهجها.
ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولًا.
ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذٍ.
فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يُحرَق فيك فأذنْ لنا في نُصرته.
فقال الله تعالى: إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه.
فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خُزَّان الماء وهو في الهواء فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء.
فقال: لا حاجة لي إليكم.
وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار.
فقال: لا.
ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.
وروى أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل؛ فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا. فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {يا نار كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمَا على إبراهيم}» قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردًا يرفع حرها، وحرًا يرفع بردها، فصارت سلامًا عليه.
قال أبو العالية: ولو لم يقل {بَرْدًا وَسَلاَمًا} لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل {على إبراهيم} لكان بردها باقيًا على الأبد.