فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلامة. وقال على وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذٍ نار إلا طفئت ظنت أنها تعنى.
قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وِثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار ثم جاؤوا فإذا هو قائم يصلي.
وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم: «ما كنت أيامًا قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار». وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذٍ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحِمَاني: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي؛ فالله أعلم.
وقال الكلبي: بردت نيران الأرض جميعًا فما أنضجت كراعًا، فرآه نمروذ من الصرح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الربّ ربّك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكفّ عنه.
قوله تعالى: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا} أي أراد نمروذ وأصحابه أن يمكروا به {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} أي في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمروذ حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوًا من أربعمائة سنة.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يريد نجينا إبراهيم ولوطًا إلى الأرض أرض الشام وكانا بالعراق، وكان إبراهيم عليه السلام عمّ لوط؛ قاله ابن عباس.
وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ ولأنها معادن الأنبياء.
والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح.
وقال ابن عباس: الأرض المباركة مكة.
وقيل: بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء وهي أيضًا كثيرة الخصب والنموّ، عذبة الماء، ومنها يتفرّق في الأرض.
قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرّق في الأرض.
ونحوه عن كعب الأحبار.
وقيل: الأرض المباركة مصر.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة؛ أي زيادة على ما سأل؛ إذ قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصافات: 100].
ويقال لولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد.
{وَكُلًا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلًا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحًا عاملًا بطاعة الله.
وجَعْلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات.
ومعنى {بِأَمْرِنَا} أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا.
وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد.
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} أي أن يفعلوا الطاعات. {وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} أي مطيعين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}.
ولما نبههم على قبيح مرتكبهم وغلبهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والغضب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض والإتلاف بالكلية وكذا كل من أقيمت عليه الحجة وكانت له قدرة يعدل إلى المناصبة والإذاية كما كانت قريش تفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دمغهم بالحجة وعجزوا عن معارضة ما آتاهم به عدلوا إلى الانتقام وإيثار الاغتيال، فعصمه الله والظاهر أن قول: {قالوا حرّقوه} أي قال بعضهم لبعض.
وقيل: أشار بإحراقه نمروذ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: رجل من إعراب العجم.
قال الزمخشري: يريد الأكراد.
وقال ابن عطية: روي أنه رجل من الأكراد من إعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وذكروا لهذا القائل اسمًا مختلفًا فيه لا يوقف منه على حقيقة لكونه ليس مضبوطًا بالشكل والنقط، وهكذا تقع أسماء كثيرة أعجمية في التفاسير لا يمكن الوقوف منها على حقيقة لفظ لعدم الشكل والنقط فينبغي اطراح نقلها.
وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتًا كالحظيرة بكوثى واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها، ومدة جمع الحطب، ومدة الإيقاد، ومدة سنه إذ ذاك، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافًا متعارضًا تركنا ذكره واتخذوا منجنيقًا.
قيل: بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطًا ووضع في كفة المنجنيق ورمى به فوقع في النار.
وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك.
وعن ابن عباس: إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل.
قيل: وأطل نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة.
وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه {بردًا وسلامًا} وخرج منها سالمًا فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل: {قلنا يا نار} هو الله تعالى.
وقيل: جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى.
وعن ابن عباس: لو لم يقل: {وسلامًا} لهلك إبراهيم من البرد، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت انتهى.
ومعنى {وسلامًا} سلامة، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من النصب.
والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال، كما كانت والله على كل شيء قدير، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله: {على إبراهيم} انتهى.
وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخًا منهم فاحترق وأرادوا به كيدًا.
قيل: هو إلقاؤه في النار {فجعلناهم الأخسرين} أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكتَّهم وأظهر لهم وأقر عقولهم، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله.
وقيل: سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم، وسلط الله على نمروذ بعوضة واختلف في كيفية إذايتها له وفي مدة إقامتها تؤذيه إلى أن مات منها.
والضمير في {ونجيناه} عائد على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض ولذلك تعدى {نجيناه} بإلى ويحتمل أن يكون {إلى} متعلقًا بمحذوف أي منتهيًا {إلى الأرض} فيكون في موضع الحال، ولا تضمين في {ونجيناه} على هذا و{الأرض} التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق، والأرض التي صار إليها هي أرض الشام وبركتها ما فيها من الخصب والأشجار والأنهار وبعث أكثر الأنبياء منها.
وقيل: مكة قاله ابن عباس، كما قال: {إن أول بيت} الآية.
وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زروعها وعمارة مواضعها.
وروي أن إبراهيم خرج مهاجرًا إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه، فآمنت به سارة وهي ابنة عمه فأخرجها معه فارًّا بدينه، وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث زمانًا بها.
وقيل: سارة ابنة ملك حرّان تزوجها إبراهيم وشرط عليه أبوها أن لا يغيرها، والصحيح أنها ابنة عمه هاران الأكبر، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبيًّا.
والنافلة العطية قاله مجاهد وعطاء أو الزيادة كالمتطوع به إذا كان إسحاق ثمرة دعائه رب هب لي من الصاحين، وكان {يعقوب} زيادة من غير دعاء.
وقيل: النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدرًا كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ {وهبنا} بل من معناهـ. وعلى الآخرين يراد به {يعقوب} فينتصب على الحال، و{كلًا} يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.
{يهدون بأمرنا} يرشدون الناس إلى الدين.
و{أئمة} قدوة لغيرهم.
{وأوحينا إليهم} أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة.
قال الزمخشري: {فعل الخيرات} أصله أن يفعل {فعل الخيرات} ثم فعلا الخيرات وكذلك {إقام الصلاة وإيتاء الزكاة} انتهى.
وكان الزمخشري لما رأى أن {فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون، بني الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافًا من حيث المعنى إلى ضمير الموحى، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع المصدر محذوف، ويجوز أن يكون مضافًا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم، أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون ذلك مضافًا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإذا كانوا قد أُوحِي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، فليس ما اختاره الزمخشري مختارًا.
وقال ابن عطية: والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى.
وأي نظر في هذا وقد نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة، وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن ذلك هنا أنه قابل {وإيتاء} وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله: {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} وقال الزجّاج: فحذفت الهاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها انتهى. وهذا قول الفراء زعم أن تاء التأنيث قد تحذف للإضافة وهو مذهب مرجوح. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالُواْ} أي قال بعضُهم لبعض لما عجَزوا عن المُحاجّة وضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّت بهم العللُ، وهكذا دَيدنُ المبطِلِ المحجوجِ إذا قَرَعْتَ شبُهتَه بالحجة القاطعة وافتُضِح لا يبقى له مفزِعٌ إلا المناصبةُ {حَرّقُوهُ} فإنه أشدُّ العقوبات {وانصروا ءالِهَتَكُمْ} بالانتقام لها {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي للنصر أو لشيء يُعتدّ به، قيل: القائلُ نمرودُ بنُ كنعان بن السنجاريب بن نمرود بن كوسِ بن حام بن نوح، وقيل: رجلٌ من أكراد فارسَ اسمُه هيون، وقيل: هدير خُسِفت به الأرض، روي أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنَوا له حظيرةً بكُوثَى، قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ في الجحيم} فجمعوا له صِلاب الحطب من أصناف الخشبِ مدةَ أربعين يوما فأوقدوا نارًا عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحدٌ، حتى إن كانت الطير لتمرّ بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شَلْوة وهَجِها ولم يكد أحد يحوم حولها. فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليسُ وعلمهم عمل المِنْجنيق فعمِلوه، وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم عَمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولًا فرمَوا به فيها فقال له جبريلُ عليهما السلام: هل لك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمُه بحالي، فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرةَ روضةً وذلك قوله تعالى: {قُلْنَا يا نار كُونِى بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} أي كوني ذاتَ بردٍ وسلامٍ أي ابرُدي بردًا غيرَ ضارّ وفيه مبالغات: جعلُ النارِ المسخرةِ لقدرته تعالى مأمورةً مطاوِعةً وإقامةَ كوني ذاتَ بردٍ مقامَ ابردي، ثم حذفُ المضافِ وإقامةُ المضاف إليه مُقامَه، وقيل: نصب سلامًا بفعله أي وسلمنا عليه. روي أن الملائكة أخذوا بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه عل الأرض فإذا عينُ ماءٍ عذبٍ ووردٌ أحمرُ ونرجسٌ ولم تحرِق النارُ إلا وَثاقه، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين وقال: ما كنت أطيبَ عيشًا مني إذ كنت فيها، قال ابن يسار: وبعث الله تعالى ملَكَ الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه، فنظر نمرودُ من صَرْحه فأشرف عليه فرآه جالسًا في روضة مُونِقة ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة والنارُ محيطةٌ به، فناداه: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: فقم فاخرُج، فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرودُ وعظّمه وقال: مَن الرجلُ الذي رأيته معك؟ قال: ذلك ملَك الظلّ أرسله ربي ليؤنسني، فقال: إني مقرِّبٌ إلى إلهك قربانًا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك، فقال عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا، قال: لا أستطيع ترك ملكي ولَكِن سوف أذبح له أربعةَ آلافِ بقرة، فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذا ذاك ابنَ ستَّ عشْرةَ سنة.
وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلابَ النار هواء طيبًا وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله عز وجل لَكِن وقوعَ ذلك على هذه الهيئة مما يخرِق العاداتِ، وقيل: كانت النار على حالها لَكِنه تعالى دفع عنه عليه السلام أذاها كما تراه في السَّمَنْدل كما يشعر به ظاهرُ قوله تعالى: {على إبراهيم}.
{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا} مكرًا عظيمًا في الإضرار به {فجعلناهم الأخسرين} أي أخسرَ من كل خاسر حيث عاد سعيُهم في إطفاء نور الحقِّ برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقِهم لأشد العذاب.
{ونجيناه وَلُوطًا إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين} أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة فإن أكثر الأنبياءِ بُعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعُهم التي هي مبادي الكمالات والخيراتِ الدينية والدنيويةِ، وقيل: كثرةُ النعم والخِصْبُ الغالب، روي أنه عليه السلام نزل بِفلَسطين ولوطٌ عليه السلام بالمؤتفكة وبيهما مسيرةُ يومٍ وليلة.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي عطيةً فهي حالٌ منهما أو ولدٌ أو زيادةٌ على ما سأل وهو إسحاقُ فتختص بيعقوبَ ولا لَبْس فيه للقرنية الظاهرةِ {وَكُلًا} أي كلُّ واحدٍ من هؤلاء الأربعة لا بعضُهم دون بعض {جَعَلْنَا صالحين} بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين.
{وجعلناهم أَئِمَّةً} يقتدى بهم في أمور الدين إجابةً لدعائه عليه السلام بقوله: {وَمِن ذُرّيَتِى} {يَهْدُونَ} أي الأمة إلى الحق {بِأَمْرِنَا} لهم بذلك وإرسالِنا إياهم حت صاروا مكملين {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} ليحثوّهم عليه فيتم كما لهم بانضمام العملِ إلى العلم، وأصلُه أن تفعل الخيراتِ ثم فعل الخيرات وكذا قوله تعالى: {وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاءَ الزكاة} وهو من عطف الخاصِّ على العام دَلالةً على فضله وإنافتِه وحُذفت تاءُ الأقامة المعوّضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مَقامة {وَكَانُواْ لَنَا} خاصة دون غيرنا {عابدين} لا يخطر ببالهم غيرُ عبادتنا. اهـ.