فصل: تفسير الآية رقم (159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (159):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

قال الحرالي: فانتظمت هذه الآية أي في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42] فكانت البداية خاصة وكان الختم عامًا، ليكون ما في كتاب الله أمرًا على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الرسل خلقًا لينطبق الأمر على الخلق بدءًا وختمًا انطباقًا واحدًا، فعم كل كاتم من الأولين والآخرين. انتهى.

.قال ابن عرفة:

ووجه المناسبة هنا أنه لما تقدم الإخبار بحكم شرعي عقبه ببيان عقوبة العالم إذا كتم علمه. اهـ.

.سبب النزول:

قال أبو جعفر: يعني بقوله: {إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات}، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. اهـ.
وجه هذا القول كما ذكره الإمام الفخر:
واحتج من خص الآية بأهل الكتاب، أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فأما القرآن فإنه متواتر، فلا يصح كتمانه، قلنا: القرآن قبل صيرورته متواترًا يصح كتمانه، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية. اهـ.
وأجاب ابن عادل عن هذه الوجه بقوله:
والجواب: أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواترًا يَصِحُّ كتمانُهُ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} نزلت في علماء اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة. وقيل: إن الآية على العموم فيمن كتم شيئًا من أمر الدين لأن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. اهـ.
وقد رجح الإمام فخر الدين الرازى أن الآية تتناول كل من كتم شيئًا من الدين واستدل له بوجوه:
أحدها: أن اللفظ عام والعارض الموجود، وهو نزوله عند سبب معين لايقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وثانيها: أنه ثبت أيضًا في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لاسيما إذا كان الوصف مناسبًا للحكم، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف.
وثالثها: أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كتم شيئًا من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} فحملت الآية على العموم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثًا بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة. وتلا: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى}. اهـ.

.قال ابن كثير:

هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله- تعالى- لعباده في كتبه، التي أنزلها على رسله.
قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم. يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء الذين يكتمون فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار».
والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمار بن محمد، عن ليث بن أبي سليم، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان أبي عُمَر عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: «إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فيسمع كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} يعني: دواب الأرض».
ورواه ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به.
وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس. وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} يعني تلعنهم ملائكة الله، والمؤمنون.
وقد جاء في الحديث، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان، وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال، أو الحال، أو لو كان له عقل، أو يوم القيامة، والله أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{مَا أَنزَلْنَا مِنَ البينات} من الآيات الواضحة الدالةِ على أمر محمد صلى الله عليه وسلم {والهدى} أي والآياتِ الهاديةِ إلى كُنه أمرِه ووجوب اتباعِه والإيمانِ به، عَبَّر عنها بالمصدر مبالغةً ولم يُجمَعْ مراعاةُ للأصل وهي المرادة بالبينات أيضًا والعطفُ لتغايُر العنوان كما في قوله عز وجل: {هُدًى لّلنَّاسِ وبينات} الخ وقيل: المراد بالهدى الأدلةُ العقلية ويأباه الإنزالُ والكتم. اهـ.

.قال ابن عرفة:

والبينات إما الأدلة، والهدى نتائجها، أو العكس. ويحتمل أن يكون البينات هو الأدلة الشرعية السمعية والهدى الدليل العقلي أو العكس.
قال ابن عرفة: وقع هذا الوعيد في هذه الآية مشوبا بالرجاء لقوله: {تَكْتُمُونَ} بلفظ المستقبل ولم يقل كتموا بالماضي تنبيها على أن ما وقع منهم قبل ذلك معفو عنه لا يتناوله هذا الوعيد. ثم أكد هذا الرجاء برجاء آخر وهو أن الكتم الصادر منهم في المستقبل إنما يعاقبون عليه مع الإصرار عليه والمداومة لقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}.
قال ابن عرفة: وكرر لفظ {يَلعَنُهُمُ} لوجهين: إما تشريفا لله بذكره وحده إشعارا بالتفاوت الذي بينه وبين اللاّعنين، وإما تنبيها على أن لعنة الله تعالى أشد من لعنة اللاّعنين فهو إما للتفاوت بين اللّعنين، وهذا كما قال ابن التلمساني في المسألة الثامنة من الباب الأول في حديث الخطيب القائل: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى. وتقدم جواب القرافي وعز الدين بن عبد السلام فيه.
قال ابن عرفة: وفي الآية عندهم حجة للعمل بالإجماع السّكوتي لأن المجتهد إذا بلغه مذهب غيره في المسألة النازلة فإمّا أن يظهر له موافقته أو مخالفته فإن وافقه فهو المطلوب، وإن ظهر له مخالفته وسكت بطل العمل بقوله لأنه عاص في كتمه العلم.
فإن قلت: تبقى منهم ثالث وهو أن لايظهر له في الحال موافقة ولا مخافة.
قلنا: لا يكون إذ ذاك مجتهدا. اهـ.

.قال الجصاص:

بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ وَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} هَذِهِ الْآيُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ وَتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ زَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا، وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ بَيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِبَيَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِشُمُولِ اسْمِ الْهُدَى لِلْجَمِيعِ.
وقَوْله تَعَالَى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ.
وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ طُرُقِ إخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ انْطَوَتْ تَحْتَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكُلُّ مَا اقْتَضَى الْكِتَابُ إيجَابَ حُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلَالَةِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمْ ثُمَّ تَلَا: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ: فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّ كِتْمَانَهُ هَلَكَةٌ.
وَنَظِيرُهُ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَقَدْ رَوَى حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِهَا فِي سَائِرِ مَا انْتَظَمَتْهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِلَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ. اهـ.

.قال ابن العربى:

اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ: قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُون: إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضًا فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله: {ويلعنهم اللاعنون}، وكرر فعل {يلعنهم} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إن الله وملائكته يصلون} [الأحزاب: 56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.
والتعريف في: {اللاعنون} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. 6 ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187].
وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في حوريب حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين، والعهد الذي أخذه عليهم في مؤاب وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه: أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم. لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب. فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه. حينئذٍ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا. لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة.
وفي الإصحاح الثلاثين: ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك وفيه: أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة.
فقوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائمًا بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضًا يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقًا عرفيًا.
واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي. وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفًا لأن المنكَّر مجهول، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه.
ولما كان في صلة {الذين يكتمون} إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلًا من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقًا بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهلَ الكتاب عليه فالمسلمون محذَّرون من مثله، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناسُ أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثًا بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية وساق الحديث.
فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرًا للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يُلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثوا الناس بما يفْهمون أتحبُّون أنْ يكذَّب اللَّهُ ورسولهُ» وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعَه.
وفي صحيح البخاري أن الحجَّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه، أو يتلفقون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم، قال ابن عرفة في التفسير: لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلًا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في الإحياء من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضررًا فادحًا في الناس. وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامدًا غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يومًا والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لِمَ خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود.
قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حُرمة فريضة الصوم.
فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علمًا أو يبين شرعًا وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم، وإن لم يكن معينًا بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد، فهذا يجب عليه بيانه وجوبًا متعينًا عليه إن انفرد به في عصر أو بلد، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إن الناس لكم تبع وإن رجالًا يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرًا».
وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم، فإنما يجب عليه عينًا أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذٍ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة، وهذا يجيء أيضًا في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي. وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك. وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها.
وذكر القرطبي عن سَحْنُون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته.
والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرئ به لدينه وعرضه.
والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين.
ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى: {والهدى} حتى يكون ذلك ضابطًا لما يفضي إليه كتمان ما يكتم. اهـ.